كل فيلم وأنتم بخير أيها المبدعون!
فراس حج محمد| فلسطين
صحيفة المدينة، حيفا، الجمعة 18 آذار 2022
ما زالت قضية فيلم "صالون هدى" تتفاعل وبحدة كبيرة، ووصلت الآراء فيه حد التطرف، والنيل من شخص المخرج والممثلين، والسؤال الذي قد يثيره المتابع: لماذا ينزلق الفيسبوكيون إلى هذا الانزلاق الخطير في تلقي الأعمال الفنية أو الأدبية؟
يبدو لي أن المشكلة في عقلية التلقي القائمة على الأحادية، فعلى الرغم من أن الفضاء أصبح مفتوحا وكل شيء متاحا، إلا إن الانغلاق الفكري هو السائد، بدلا من أن يكون هناك مواكبة، فيتأثر الفكر فينفتح بانفتاح أدوات التلقي.
فيلم "صالون هدى" لم يكن هو القضية فقط من وجهة نظري، كان هو المحرك والكاشف عن هذه العقلية الأحادية المتطرفة في الجانبين المعارض والمؤيد، فكلا الطرفين غلبت على لغته في الدفاع أو الهجوم "الشعبوية"، وأعد لخصومه معجما طافحا بالشتائم والتحقير. هذا الخطاب رأيناه وعايشناه من قبل في فيلم "أميرة"، وفي أفلام نتفليكس ومسلسلاتها، وخاصة مسلسل "مدرسة الروابي للفتيات". كما وجدناها مع قضايا المفكرين والأدباء، وكل من يكتب رأيا لا يعجب الآخرين، فيصنف على أنه "صادم" و"خادش للحياء"، حدث معي شخصيا، وحدث مع آخرين، وسيحدث مع الكثيرين أيضاً.
نحن شعوب رُكّب عقلها على أن تكون أحادية التفكير لا يمكن لها أن تقبل وجهات نظر أخرى أو تعطيها شرعية الحضور والتعبير عن رأيها. فمنذ أيام المدرسة والطالب يصنع بعقل واحد متطرف غير متآلف مع غيره، والمناهج صُبّت فيها المعلومات بقالب يقيني منغلق لا تدعو إلى التفكير أو إلى المعارضة مع وجهات النظر الأخرى، الطالب عليه أن "يبصم"، ويتقيأ ما بصمه في ورقة الاختبار، للحصول على علامة جيدة. صحيح أن الطالب يتحصّل على علامة ممتازة، لكنها علامة صيغة بطريقة سيئة بامتياز، فليست هي المؤشر الحقيقي على الوعي الصحيح أو الوعي المطلوب، لأنه سيتابع حياته في الجامعة وفي التعامل مع الآخرين في السوق وفي البيت وفي كل مكان بالكيفية التي تعلم فيها، وانتقلت هذه العقلية إلى الفيسبوك، فليس مستغربا ما حصل في التعامل مع فيلم صالون هدى أو غيره.
ينتج عن هذه الطريقة في التفكير كثير من الحقائق أو ما يشبهها، من أهمها محاربة الإبداع بأشكاله كافة، ورفض كل ما لا نؤمن فيه رفضا كاملا دون تمحيص، ودون أن نمنح أنفسنا فرصة للتفكير، كما ينتج عنه الانزلاق نحو الشخصنة وكأن المخالف انتهك شيئا خاصا بنا، وتصبح القضية قضية شخصية بين صاحب العمل ومنتقديه، فيسمح المخالف لنفسه أن يخضع العمل لتصوراته الشخصية حتى لو كانت تصورات خيالية عقيمة، بل إن المخالف يرى نفسه ممتلكا للحقيقة المطلقة، ويسيطر على لغته خطاب الوثوقية واليقينية الحادة التي توحي بالصلابة، فلا تسمح لأي كان أن ينفذ إليها لأنها مبنية على لغة مسننة بأنياب سامة. ويصبح الكل واحدا مرجوما وملعونا وخاضعا للشرط نفسه.
تدفع أحيانا هذه العقلية أصحاب تلك الأعمال التي توصف بالجريئة أو المشاكسة أو الخارجة على القانون إلى التراجع، للتخفيف من حدة الانتقادات التي وجهت إليهم، هذا نفسه الذي حدا بالمخرج هاني أبو أسعد في إحدى لقاءاته الصحفية بأن يستجدي الجمهور الغاضب، ويصل إلى نوع من الحل الوسط المتمثل بإنتاج نسختين، العربية للجمهور العربي محذوف منه المشاهد التي قد تؤدي إلى رجم العمل والقائمين عليه والمشاركين فيه، ونسخة للجمهور الغربي الذي هو بالضرورة كما يتوقع المخرج جمهور أكثر انفتاحا وتقبلا، يقول في ذلك: "لكن بما أننا احترمنا مشاعره وحذفنا المشهد من النسخة العربية عليه أن يحترم خيارنا الفني". هذا الرد من المخرج فيه نوع من الاسترضاء، وهو تصرف من وجهة نظري الشخصية يضعف موقفه الفني والفكري تجاه عمله.
يذكرني موقف "أبو أسعد" بمواقف مشابهة اضطر أصحابها إما إلى الاعتذار أو المهادنة أو التراجع أو التبرير، كما فعل طه حسين بعد عاصفة كتابه "في الشعر الجاهلي"، وكما فعل إبراهيم عيسى بعد حديثه عن الإسراء والمعراج أو يوسف زيدان وغيرهم الكثيرون الذين لا يسيرون في القضية على الوتيرة نفسها حتى آخر الشوط، وفي هذا نوع من التراجع الذي لا يساهم في جعل هؤلاء المفكرين في مقدمة الركب، يقودون الجماهير ويحسنون من وضعها وأمزجتها العامة.
ومن الأمور اللافتة للنظر في مثل حادثة فيلم صالون هدى أن من يظهر على السطح هم المعارضون وليس المؤيدين، أين يختفي المناصرون- وهم قلة-؟ لا تدري أين يتسربون في هذا أيضا وقفة تأمل، تقول إن "الغوغائية" و"الشعبوية" عامة وطامة، بحيث لا تجد من يقف ضدها إلا الأصوات الخجولة، الكل يصبح راكبا للموجة وهو الآخر يسترضي الجماهير الغاضبة ويصطف إلى جانبها أو أنه يصمت صمتا مريبا فاضحاً، ليس له مبرر إلا الجبن.
لقد كشفت هذه الحادثة كما الحوادث السابقة وحتى اللاحقة أن هذه المجتمعات لم تتغير، وما زالت تعاني من الحساسيات نفسها، الدينية والسياسية والجنسية، وأن مجتمعاتنا لم تبلغ سن الرشد بعد، فليست مستعدة للنقاش العقلاني أو التدبر والتأمل، فقط تفكر بسطحية، وتصبح قادرة على أن تكيل الاتهامات في الخروج عن القيم الوطنية والأخلاقية، ومن غريب ما كُتب عن الفيلم ومخرجه والقائمين عليه والممثلين الدعوة إلى محاكمتهم قضائيا لأنهم انتهكوا الدستور.
لم يجد "أبو أسعد" من يناصره في فيلم صالون هدى، والفلسطينيون أصحاب القضية هم أكثر من هاجمه ورجموه بكل ما أوتي جهازهم اللغوي من شتائم قاسية، ولم يسلم هو ومن معه من تجريح ولوم من المؤسسة الرسمية الفلسطينية المتمثلة في وزارة الثقافة الفلسطينية التي انحازت للغوغائية في التفكير، كما انحاز اتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين في رام إلى "الشعبوية" أيضا، وهو ينتقد الفيلم وصانعيه ويضعهم في دائرة من الشك والتهوين، وربما أكثر من ذلك.
لا أتوقع أن تكون هذه المعمعة آخر معمعات الفيسبوك، بل إن نجاح "الجماهير الغاضبة" في ترويج أفكارها سيجعلها أكثر شراسة في المرات القادمة مع أي عمل، وسيفسر أي شيء لم يعجبها من الأعمال الإبداعية والفنية على أنه "خروج عن قيم المجتمع وأخلاقه"، وكأنهم هم سدنة هذا المجتمع وحراسه. وكل فيلم ومعركة فيسبوكية وأنتم بخير أيها المبدعون!