فراس حج محمد

موقع يختص بمنشورات صاحبه: مقالات، قصائد، أخبار

المثقّفون الفلسطينيون والحالة الراهنة

فراس حج محمد/ فلسطين

الحرب الحالية الدائرة في عموم الأرض الفلسطينية بأشكالها كافّة ليست ثماراً  لجهود المثقّف الفلسطيني الرسمي، وأعني بالرسمي: المثقّف المسجل بصيغة أو بأخرى في إحدى وسائل الثقافة العامة والخاصة من دوائر حكومية ومؤسسات أهلية، بما في ذلك الأكاديميون الجامعيون ومحررو الصحف والمجلات وكتابها، وأصحاب دور النشر، وذلك الجيل من المثقّفين الكلاسيكيين ذوي الكلام "المجعلك". هؤلاء جميعاً لم تكن الجماهير لتتعاطى معهم أو تفهم ما يبقبقون به، لأنهم ذوو خطاب- باختصار- لا وجه له ولا ملامح لذلك كان دائما خطاباً "نخبويا سيئاً" لنخبة "غير جيدة" ثقافيّاً، ولم يكن هذا الخطاب منذ ثلاثين عاماً تقريباً ليشكّل رافعة نضالية. ويستوي في هذه الحالة الخطابات كلها الدينية والعلمانية واليسارية.

فالناس المرابطون في حي الشيخ جراح، والسائرون في المظاهرات، والمنتفضون في المدن الفلسطينية كافة، ليسوا نتاجاً ثقافياً لفعل ثقافيّ مبرمج صنعه "المثقّف الرسمي"، إنما كان لهذه الجماهير ثقافة أخرى تحفر في الوعي بعيداً عن المنابر التي يتعرّش عليها "المثقّف الرسمي"، ويتعربش عليها، طمعاً في أجرة الحبر وصفّ الكلمات عن كل ما يصدّره لتلك المنابر؛ ليترجم برقم مميز بالدولار.

تلك الجماهير لا تعرف الصحف في أغلبها، ولا تعرف إلا الفيسبوك و"التك توك" والإنستغرام، مختصرا باسم الدلع بالأنستا!، حتى أنهم لا يعرفون نخبوية تويتير، إن لهم خطاباً آخر، يميل إلى التهكم والسخرية، يصنعون ثقافتهم الخاصة بمشاهداتهم الخاصة دون آباء أو أوصياء في عالمهم الخاص مع أجهزتهم الذكية، صنعوا ثقافة عميقة لا تقوم على التلقين الديني والوطني واليساري الزائف، لقد صنعوا هم بتجاربهم ثقافتهم، فكوّنوا نتيجة ذلك قناعاتهم الراسخة وحدهم، فصار إيمانهم لا يتزعزع ولا يتزلزل، لذلك من الطبيعي أن يمدّ أحد الشباب يده من تحت الأنقاض رافعا بإصبعيه شارة النصر. هم الذين خلقوا الابتسامة لحظة الاعتقال، هم جيل مثقف ثقافة لا تشبهها الثقافة المركونة في الكتب والصحف وشاشات التلفزيون. هم من يرى تحرير فلسطين من النهر إلى البحر ممكناً، وأقرب من أي وقت مضى، هم من حطموا أصناما صنعها "المثقّف الرسمي". وهم من بالوا على كل النظريات والكتب الشعرية والروايات التي تدعو للسلم والسلام، ووضعوا المواثيق والدساتير الباطلة تحت نعالهم في المظاهرات الحاشدة.

هذه الحالة الثقافية المصرّة على أن تكون في قلب الحدث، وتتجاوز كل العقبات، ولا تسمح لمديري مواقع التواصل الاجتماعي أن تُخرسها، فتحايلت وكتبت وصوّرت وسجّلت فعلها هي بالصوت والصورة. إنها حالة ثقافية نضالية تخص هذا الجيل وحده.

لكن ماذا سيحدث الآن أو بعد قليل؟ لقد بدأ "المثقّفون الرسميون" بالظهور، محاولين تسلّق الشجرة، بدأت هورمونات الانتهازية بالتفعيل، لينتجوا نصوصهم البائسة على هامش الفعل النضالي الكبير، إنها حالة مؤلمة وساخرة وتهكمية، مثقفو اليوم الرسميون ليس كالسابق، عندما كان الشاعر والروائي والصحفي في قلب المعركة مناضلا مشاركا بجسمه وبندقيته، كأمثال غسان كنفاني وعز الدين المناصرة وخالد أبو خالد ورسمي أبو علي، وكل من شارك في الحروب فاستشهد فيها كعلي فودة، هؤلاء ليسوا كمن تحوّل من فدائي إلى أفندي كما يقول أحدهم ساخرا.

يحاول اليوم "المثقّف الرسمي" أن يدخل إلى المشهد، متسلّلاً تسلّلاً غير شرعي، ليوجد في سياق ثقافة تلك الجماهير، بل إنه يحاول أن يمارس دور المحلّل والمحرّم والراسم للأفق والناظر بعيني زرقاء اليمامة، وهو لا يدري أن زرقاء اليمامة أصبحت عمياء منذ وجدت في كتبه وتنظيراته.

إن أسوأ سؤال قد يُسأل الآن: "ما هو دور المثقّف في هذه المرحلة؟". لأنه بلا دور، بلا حضور، بلا يدين، بلا رجلين، بلا عينين، لا يسمع أيضاً، ولغته هي البقبقة ليس أكثر. هذه الحالة النضالية الراهنة لا يفهمها "المثقّف الرسمي" ولا يشارك فيها إلا لينتهزها فقط، هذه الحالة الجماهيرية اليوم هي فقط نبت شرعيّ جماعي لحالة مثل حالة باسل الأعرج، ذلك المثقّف الذي صار علماً على ثقافة المقاومة البعيدة عن التنظير والعبثية.

إن أبأس حالة قد يمرّ بها "المثقّف الرسمي" اليوم أن يكون كاذباً مخادعاً، وزائفاً، ويصطنع لغة وخطابا تهويميّين، جباناً، لا يتساوق وحالة الناس في الشوارع وخلف البنادق والصواريخ والخنادق. بل إنهما لغة وخطاباً ضعيفين مدجنين خاويين، معبّأينِ برائحة شراشف الفنادق الفارهة وكؤوس الخمر وعرق النساء. الجماهير المنتفضة لا تعرف هذا النوع من المثقّفين، ولا تتعاطى معهم، ولا تعيد نشر شيء من أوهامهم على صفحاتها، بل تنشر هتافاتها هي، وتصنع هاشتاجاتها هي بعين بصيرتها التي تبصر أبعد من حيفا ويافا والجليل الأعلى.

إن أفضل ما يحدث اليوم "للمثقف الرسمي" أن يصمت، لأنه لم يقل يوماً- قبل هذا الحدث ولن يقول بعده- خيراً. فمن الأسلم له "شخصيّاً" أن يكفّ عن الهذيان، ففي حديثه خراب، وفي كتاباته تشويه لكل فعل نضالي عميق ونظيف. فلكل فعل ثقافي لغته التي تشبهه، وكل طينة هي جزء أصيل من "المطينة" التي خرجت منها.

هؤلاء المنتفضون والمحاربون وحدهم من يعرفون معنى المثقّف، وماذا تعني الثقافة، وهم وحدهم من يعرف معنى الكتابة والقراءة، كما يعرفون النضال والحرب سواء بسواء، ولغتهم لا يعرفها "المثقّف الرسمي" الذي أصبح دجاجة في المزرعة يلقف ما يُلقى إليه من حَبّ، لتعلوَ البقبقة بكلماتٍ لا قيمة لها.

 

المصدر: فراس حج محمد
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 347 مشاهدة
نشرت فى 17 مايو 2021 بواسطة ferasomar

فراس عمر حج محمد

ferasomar
الموقع الخاص بــ "فراس حج محمد" »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

742,473

فراس حج محمد

نتيجة بحث الصور عن فراس حج محمد كنانة أون لاين

من مواليد مدينة نابلس في فــلسطين عــام 1973م، حاصل على درجة الماجستير في الأدب الفلسطيني الحديث من جامعة النجاح الوطنية. عمل معلما ومشرفا تربويا ومحاضرا غير متفرغ في جامعة القدس المفتوحة. 

عمل محررا لغويا في مجلتي الزيزفونة للأطفال/ رام الله، وشارك في إعداد مواد تدريبية في وزارة التربية والتعليم الفلسطينية، وكان عضوا في هيئة تحرير مجلة القانون الدولي الإنساني/ الإصدار الثاني الصادرة عن وزارة التربية والتعليم في فلسطين.

نشر العديد من المـقالات والقـصائد في مـجالات النشر المختلفة الإلـكترونية والصحف والمجلات في فلسطين والوطن العربي وبريطانيا وأمريكا وكندا والمكسيك. وشارك في ندوات وأمسيات شعرية ومؤتمرات في فلسطين.

الكتب المطبوعة: 

رسائــل إلى شهرزاد، ومــن طقوس القهوة المرة، صادران عن دار غُراب للنشر والتوزيع في القاهرة/ 2013، ومجموعة أناشيد وقصائد/ 2013، وكتاب ديوان أميرة الوجد/ 2014، الصادران عن جمعية الزيزفونة لتنمية ثقافة الطفل/ رام الله، وكتاب "دوائر العطش" عن دار غراب للنشر والتوزيع. وديوان "مزاج غزة العاصف، 2014، وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في القصة القصيرة جدا- دار موزييك/ الأردن وديوان "وأنت وحدك أغنية" عن دار ليبرتي/ القدس وبالتعاون مع بيت الشعر في فلسطين، وكتاب "يوميات كاتب يدعى X"، وكتاب "كأنها نصف الحقيقية" /الرقمية/ فلسطين، وكتاب "في ذكرى محمود درويش"، الزيزفونة 2016، وكتاب "شهرزاد ما زالت تروي- مقالات في المرأة والإبداع النسائي"، الرقمية، 2017، وديوان "الحب أن"، دار الأمل، الأردن، 2017. وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في الرواية"، مكتبة كل شي، حيفا، 2017. وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في متنوع السرد"، مؤسسة أنصار الضاد، أم الفحم، 2018، وديوان "ما يشبه الرثاء"، دار طباق للنشر والتوزيع، رام الله، 2019، وكتاب "بلاغة الصنعة الشعرية"، دار روافد للنشر والتوزيع، القاهرة، 2020. وكتاب "نِسوة في المدينة"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله، وعمّان، 2020. وكتاب "الإصحاح الأوّل لحرف الفاء- أسعدتِ صباحاً يا سيدتي"، دار الفاروق للنشر والتوزيع، نابلس، 2021. وكتاب "استعادة غسان كنفاني"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله، وعمّان، 2021، وكتيّب "من قتل مدرّس التاريخ؟"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2021. وديوان "وشيء من سردٍ قليل"، وزارة الثقافة الفلسطينية، رام الله، 2021. وديوان "على حافّة الشعر: ثمّة عشق وثمّة موت"، دار البدوي، ألمانيا، 2022. وكتاب "الكتابة في الوجه والمواجهة"، الرعاة وجسور ثقافية، رام الله وعمان، 2023. وكتاب "متلازمة ديسمبر"، دار بدوي، ألمانيا، 2023. وكتاب "في رحاب اللغة العربية"، دار بدوي، ألمانيا، 2023، وكتاب "سرّ الجملة الاسميّة"، دار الرقمية، فلسطين، 2023. وكتاب "تصدّع الجدران- عن دور الأدب في مقاومة العتمة"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله وعمّان، 2023، وديوان "في أعالي المعركة"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2023، وكتاب "مساحة شخصية- من يوميات الحروب على فلسطين"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2024، وكتاب "الثرثرات المحببة- الرسائل"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2024، وكتاب "فتنة الحاسة السادسة- تأملات حول الصور"، دار الفاروق للثقافة، نابلس، 2025. 

حررت العديد من الكتب، بالإضافة إلى مجموعة من الكتب والدواوين المخطوطة. 

كتب عن هذه التجربة الإبداعية العديد من الكتاب الفلسطينيين والعرب، وأجريت معي عدة حوارات ولقاءات تلفزيونية.