قراءة نقدية
الاتحاد والتماهي في نصّ "كل ذاك السِّوى" لــ "فراس حج محمد"
رائد محمد حواري/ فلسطين
النص الجميل يأخذنا إليه، حتى لو أرادنا أن نمر عليه مرورا عابرا، فاللغة البيضاء، وحضور المرأة، والطبيعة، والكتابة، وتعدد الأصوات، وبناء وتكامل وتواصل الألفاظ، كل هذا يمتعنا ويجعلنا نتوقف مستمتعين بما فيه.
بداية الجمال نجده في فاتحة القصيدة، فهناك ثلاثة أصوات تجعلنا نتوقف متأملين فيها:
"كلّ ذاك السِّوى ليس سويّاً محض شخصٍ منتهكْ
وحدك من تعلو إلى عليائها وأنا الصاعد في ألقٍ إليكِ"
الفاتحة تأخذنا إلى ديوان "اصعد إلى عليائك فيّ" للشاعرة فاطمة نزال، فالشاعر (يستعين ويغرب) عنوان الديوان، من خلال أضافة صوت/ شخص جديد تكلم عنه، فعنوان الديوان متعلق بشخصين فقط، بينما الشاعر يضيف صوت جديد، صوت خارجي (للراوي) الذي جاء بصيغة خبر "كل ذلك السوى"، وإذا أضفنا الصوت الموجه للمخاطب، "أنت" في "وحدك من تعلو"، وصوت المتكلم "وأنا الصاعد"، نكون أمام ثلاثة أصوات، ورغم تعدد الأصوات إلا أن الشاعر ـ من خلال الألفاظ ـ يوحي إلى أنه متعلق بشخص واحد وليس بثلاثة، فعبارة "كلّ ذاك السِّوى ليس سويّاً" تأخذنا إلى هذا الأمر، فعلى الرغم من التماثل الصوتي بين الكلمتين "السوى/ سويا" إلا أن فيها مغايرة واضحة، حيث اختلاف الحبيبة عمّا عداها، فيبعد سواها لأنه غير سوي، ليتماهى معها وحدها، وهذا ما وجدناه في عملية الصعود، فالصعود جاء بصيغة خبر خارجي: "وحدك من تعلو إلى عليائها"، وأيضا بصيغة أنا المتكلم: "وأنا الصاعد في ألقٍ إليكِ"، فالشاعر يريد تقديم (الحدث)/ فعل الصعود، بأكثر من راو، وهذا ما (يؤكد) الفعل ويجعله راسخا، فتعدد الرواة يخدم/ إشارة إلى أهمية الحدث ووقوعه فقط.
وإذا أخذنا المقطع الثالث:
"أناجي النجيّ وأرنو
كلما ناجى حبيبٌ غيبه في عتمة الوقت ورقّ"
أيضا نجد استخدام ألفاظ مكررة "أناجي/ النجى/ ناجى" وهذا أيضا يخدم فكرة توحد الشخص المتكلم عنه، أو المتكلم، أو المخاطب، فهم شخص واحد، وإذا أخذنا التماثل في معنى "غيبه، عتمة" وتماثل حرفي الواو والقاف في "الوقت ورق" نتأكد أن الشاعر في العقل الباطن (وحّد) الشخص الذي يتحدث عنه/ مهما كانت صيغة الكلام.
بعدها تأخذ القصيدة صيغة المخاطب "أنت" متجاوزا (محاولات التمويه) فقد خضع الشاعر للمرأة، ولم يعد قادرا على إخفاء مشاعره:
"كلّك لي
وأدرك أنْ لا شيء لي منك غير غيم وهواءٍ
وسماء وسناء وفضاء وورقْ
أيّتها المغسولة بالنّدى الورديّ
جملة سهلةً في نصنا الأصعبِ"
لغة ناصعة، ومترعة بالجمال، وقد أوجدت/ خلق المرأة جمال الطبيعة، فنجد: "سماء، سناء، فضاء، بالندى، الوردي، سهلة" واللافت أن انطلاقة الشاعر نحو الطبيعة كانت منفتحة وسلسة، من هنا يعبر عن هذا الانفتاح السلس: "سماء، سناء، فضاء" فهي تعكس حالة الشاعر المنسجمة والمنطلقة نحو المرأة، نحو الفضاء، فلم يعد هناك حواجز تفصله عنها/ عن المرأة، ونجد هذا السلاسة في "جملة سهلة" فرغم أن المعنى يخدم فكرة السلاسة والسهولة، إلا أن شكل الكلمات وصرفها يتماثل ويخدم الفكرة أيضا.
قبل أن نغادر المقطع ننوه إلى أن الشاعر يخاطب المرأة/ الحبيبة، من الخارج، أنت وأنا، بصورة (حيادية)، لكنه سرعان ما يتخلى عن هذه الصيغة ويأخذ في مخاطبتها كشريك:
"هيّا نستردّ لغاتنا
ونقيم أعراساً على شهواتنا
لا شيء فينا جائعٌ غير [إنْ، كأنْ، وحتّاكِ]، و|فاءٌ| مشتركْ!"
استخدم صيغة المثنى تأكيد على حالة التوحد معها، فلم يعد هناك شخصان، بل واحد في (هيئة) اثنين، فهناك ثلاث أشياء مشتركة "لغتنا، أعراسنا، شهوتنا"، وقد استخدم الشاعر التمويه وإخفاء حاجتهما لبعضهما من خلال: "[إنْ، كأنْ، وحتّاكِ]، و|فاءٌ| مشتركْ" لكن لفظ "جائع" أكد على الحاجة والرغبة والشهوة التي يحملها الشاعر، وقد ظهرت لنا من خلال "شهوتنا" فبدا وكأنه غير قادر على كتمانها، فحاجته إليها ملحة وضرورية.
واللافت أن الشاعر بدأ (الثنائية) بهدوء وسلاسة "لغة، أعراس، شهوة" وهذا الترتيب يخدم فكرة التعارف/ التقارب من الأحباء التي تبدأ بالكلام/ لغة، ثم بالفرح/ العرس، وثم بالجماع/ الشهوة
يتقدم الشاعر من جديد نحو المرأة، فيخاطبها ممجدا إياها وصفاتها وجمالها:
"أيتها الممشوقة مثل الظلّْ
وادعة كطفلْ
شاسعة مثل امتداد الفلكْ
تأويليّةُ المعنى عليّ
مطلقة كألوان الشّفقْ
أيّها اللّيلك كنّا كي نفيء اللّيلَ لكْ"
دائما حضور المرأة يضفي لمسة ناعمة على النص، حال الطبيعة والكتابة، وهذا مصدر فرح يلجأ إليه الشاعر، معبرا عما فيه، فالمرأة جعلته يستخدم ألفاظاً بيضاء تؤكد نصاعة الفكرة، المضمون، فلا نجد أي لفظ أسود في خاتمة القصيدة سوى "ليل" رغم أنه يعطي معنى أبيض.
وهذا البياض لم يقتصر على المعنى والكلمات فحسب، بل على الحروف أيضا: "الممشوقة، الظل، امتداد، الفلك، الليلك، الليل، فتكرار وتتابع حرف الميم، في "ممشوقة، وتكرار حرف الميم في بقية الكلمة، إشارة إلى رغبة الشاعر في التوحد والتماهي مع الحبيبة، وبهذا يكون الشاعر قد طرح فكرة (التوحد/ التماهي) بأكثر من طريقة، بداية عندما مجدها فكانت كالربّة، فأعطاها صفات متميزة: "ممشوقة، شاسعة، مطلقة"، ومن خلال أثرها عليه، فجعلته يخرج من الأرض ليحلق في السماء: "امتداد الفلك، كلون الشفق"، ومن خلال المقطع وما فيه من ألفاظ وحروف ومعانٍ
القصيدة منشورة على صفحة الشاعر