المسرح في دائرة المواجهة السياسية والاجتماعية
فراس حج محمد/ فلسطين
تعد المسرحية من الفنون الأدبية التي تضطلع بدور مهم في مناقشة القضايا الاجتماعية والسياسية، وينظر إليها، لاسيما وهي تعرض على خشبة المسرح، على أنها ذات أهمية مضاعفة؛ فتكتسب تفاعلية جماهيرية مباشرة، إذ إنها من الفنون القولية التي تقف مباشرة مع الجمهور وجها لوجه. ولذلك يجد القارئ فرقا ما بين المسرحية وهي نص مكتوب، وبينها وهي مجسدة بشخوصها وتفاعلاتهم البينية وتحركاتهم المسرحية عن كونها فقط نصا مكتوبا يُقرأ، ربما على القارئ في هذه الحالة أن يستحضر المشهد في خياله وهو يقرأ النص، بديلا عن التمثيل الذي قد يتعذر أحيانا بفعل الرقيب السياسي.
ومع غلبة الرواية على المشهد الثقافي العربي، وتراجع دور المسارح العامة والخاصة، لتراجع الاهتمام الاجتماعي والمؤسساتي والوسط الثقافي، تراجعت المسرحية بحضورها في المشهد الثقافي، وأصبحت أكثر هامشية من القصة القصيرة على سبيل المثال، وأصبح كتابها قليلي العدد، بل نادرين، وربما لم تعد تجد قارئا وليس فقط كاتبا وناشرا. ربما لقناعة الكاتب والناشر والقارئ أن المسرحية لم تكتب إلا لتمثل، وليس لتقرأ، وأصبح التعامل مع المسرحيات المكتوبة باعتبارها قصصا أو روايات قصيرة، ولعل نشر مسرحية في كتاب دون أن تمثل خطوة لا داعي لها أو يكاد يكون لا داعي لها، لاسيما أن النقد المسرحي، سواء الذي يتوجه إلى العرض أو إلى النص في تراجع كبير، وقلما يتناوله بالبحث من نواح فنية إلا قليلون، فلم تعد هناك مجلات خاصة بالمسرح، سوى ما أصدرته الهيئة العامة للثقافة في مصر من مجلة خاصة بالمسرح، ولم تكن منتظمة في صدورها. إذ توصف بأنها مجلة غير دورية. وربما أيضا وجد القارئ بعض النصوص المسرحية التي نشرت ضمن مجلات عربية ثقافية عامة، ولم تكن سوى مرات قليلة في أعداد متناثرة كمجلة الكرمل أو مجلة مشارف، وربما وجد غيرها ولكنها بشكل عام لم تحز شهرة وحضورا في الوسط الثقافي إذ إنها تراجعت إلى الظل كثيرا بفعل ما ذكرته سابقا من عوامل.
لقد اكتسب المسرح السياسي أهمية كبيرة فيما سبق من بدايات القرن العشرين وحتى أواسط التسعينيات، وظهر مسرحيون كبار عالجوا المسائل السياسية وتناولوها بالبحث كما حدث مثلا مع مسرحيات محمد الماغوط: ضيعة تشرين، وشقائق النعمان، وغربة، وكاسك يا وطن، وخارج السرب، والعصفور الأحدب، والمهرج، ومن الملاحظ أن بعض هذه المسرحيات مثلت على خشبة المسرح ولم تطبع في كتاب، على العكس من مسرحيات سعد الله ونوس التي طبعت جميعها في كتب.
ولا أريد هنا أن أستعرض الجهود المسرحية الكبيرة للمسرحيين العرب، ولكنني أحببت أن أشير إلى تينك النقطتين (تواضع النشر، والاهتمام السياسي للمسرح) فقط فبل الدخول إلى مناقشة مسرحية "شجر وحجر" للكاتب الفلسطيني إبراهيم خلايلة.
تنبغي الإشارة أولا إلى جهود الكاتب المسرحية لما لها من دلالة تؤشر نحو اهتمام واع على المسرح ودوره في إحداث الوعي الاجتماعي والسياسي. فقد اشترك في التأليف المسرحي الجماعي والفردي والتمثيل في عدة مسرحيات، وعمل محكما في هذا المجال، كما أنه مؤسس مسرح الحكواتي في القدس وأحد أعضائه. لعل هذه السيرة الإبداعية تشير إلى حضور المؤلف كاتبا وممثلا ومخرجا ومحكما.
صدرت مسرحية "شجر وحجر" عام 2020، في كتاب مطبوع يتألف من سبعين صفحة تقريبا إذا ما تجاوز المرء عن تلك المقدمة في بداية الكتاب، وتدور أحداث هذه المسرحية في منطقة تدعى "تل الفخار"، وهي منطقة تقع شمالي الجولان، وتعد إستراتيجية، إذ وصفت بأنها بوابة الجولان، وقد حرص الإسرائيليون على الاستيلاء عليها لأهميتها تلك. مع أن المسرحية لم تناقش هذا البعد الجيوسياسي للمنطقة، واكتفت باتخاذ "تل الفخار" نموذجا مكانيا لتصوير ما تتعرض له الجغرافيا الفلسطينية على يد المحتلين الإحلاليين الذي يستبدلون أشياءهم بأشيائنا، وهنا تدور معركتان في هذه المسرحية، المعركة على الجغرافيا وما تحتويه من آثار وكنوز تاريخية يتم مصادرتها، وتغيير معالم المكان أيضا تحت ذرائع الحضارة والتطور، فيغدو الشجر في مواجهة الحجر، بوصفهما رمزين لتاريخين وسياقين متنافرين. ومعركة ثانية مهمة وهي معركة بناء الوعي الجمعي والوعي الفردي على المسألة السياسية والوطنية لمواجهة المعركة الأولى.
بنى الكاتب مسرحيته على عدة شخصيات، وكل واحدة من هذه الشخصيات لها دور محوري ويمثل فكرة في المسرحية، إذ لا يوجد هناك دور خاص لبطل واحد، بل كل شخصية كانت تساهم في إبراز الفكرة السياسية والوعي السياسي، وتعرض نماذجها بطريقة تفاعلية بين الشخصيات، فالوعي السياسي العميق لشخصية حسن لا يقل أهمية عن الوعي السياسي الواضح لشخصية جميلة وشخصية أبي فتحي، وإن كان كل واحد منهم بطريقة خاصة ومن زاويته الخاصة التي تمثل شريحة من شرائح المجتمع العربي الواقع تحت الاحتلال.
يختار الكاتب اللهجة العامية الفلسطينية لغة للحوار بين الشخصيات، هذه اللغة التي تعبر عن المكان وتبرز خصوصيته، ويبني بشكل تدريجي رمزية لهذا المكان الذي يرفض الأسرلة والإحلال عبر "الحجر الأسود" الذي كان عصيا على التكسير أو الإزاحة من مكانه، وليس فقط الحجر الأسود بل إن زيتونة أبي صلاح تأبى الانتقال من مكانها لتزرع في مكان آخر. ويقف الإنسان الفلسطيني صلبا قويا، فاكتسب القوة من المكان وأشيائه؛ فأبو صلاح لم يستطع أحد أن يزيحه من مكانه وظل متشبثا بزيتونته، واحتل أبو فتحي الحجر الأسود وتوحد معه وأصبحا شيئا واحدا، صامدا في وجه تغيير معالم المكان، ليعلنوا جميعا (شجرة الزيتون وأبو صلاح والحجر الأسود، وأبو فتحي ومعه جميلة) رفض تغيير تل الفخار من مكان فلسطيني ريفي حامل للتاريخ إلى متنزه أو بارك ليحمل اسما جديدا بعيدا كل البعد عن الاسم الأول، وكأن التغيير أيضا يجب أن يطال الأسماء كذلك، بل لا بد من أن يستهدف التغيير الاسم، فالاسم ليس مجرد اسم أو لفظ لغوي بل حامل لبعده الفكري والاستعماري، وهذا بلا شك يؤشر إلى ما يقوم به المستعمرون على مر التاريخ من استهداف الأسماء وتغييرها لتحمل لغة وفكرا ومرحلة أخرى مغايرة.
تتألف مسرحية "شجر وحجر" من فصلين، جاء الفصل الأول من خمسة مشاهد، وتألف الفصل الثاني من مشهدين فقط. وبذلك خرجت المسرحية عن كلاسيكية المسرحية التي كانت تنص على أن تكون من ثلاثة فصول وحتى خمسة فصول، كما أن الزمن في المسرحية الكلاسيكية يتناول أحداثا تستوعبها فترة عرضها على المسرح، ولا تزيد عن ثلاث ساعات، وأما هذه المسرحية فقد امتدت إلى عدة أيام، كما أن المكان اختلف، فظهر المكان الأول حيث التقى أبو فتحي وأبو طالب، ثم المكان الرئيسي "تل الفخار"، وحرص الكاتب كذلك على حضور الموسيقى في بنية المسرحية، وأشار إليها في ثنايا المسرحية في الانتقال من مشهد إلى آخر.
وأما الصراع في المسرحية فقد اتخذ له عدة تجليات، فثمة صراع بين الشخصيات، كالصراع بين نعيم وأبي فتحي على الصندوق، وصراع أبي فتحي مع أبي طالب وإن كان صراعا يكمل مشهدية صراعه مع نعيم، وصراع أبي فتحي مع المجتمع الذي يعيش فيه، هذا المجتمع الذي يصفه بأنه لاجئ، لمجرد أنه تشرد من قريته الأصلية إلى قرية مجاورة، ولم تستطع تضحياته في وجه المحتلين الذين أرادوا الاستيلاء على قطعة الأرض التي بنى عليها بَرّاكِيّته، من أن تزيل عنه هذه الصفة، وظل وصف اللاجئ يطارده، بل ظل سؤال اللجوء حاضرا من خلاله، ومن خلال حسن الذي عبر عنه بمشهدية سوريالية تمتح من الواقع ولكنها تجنح نحو هذا التصوير الذي يجعل القارئ يفكر بالمسألة بطريقة مغايرة في مشهد شربه لقنينة البيرة، كانت قنينة بيرة مليئة ثم انتصفت ثم انتهت إلى بطنه، فيقول: "وإسا كلها جوا (يشير إلى بطنه) والقنينة التي كانت قنينة بيرة، صارت قنينة بلا بيرة.. وصارت قنينة فاضية ولازم نرميها لبرا (يرمي القنينة على الأرض).... وهيك بيرجعوا اللاجئين من برا لجوا. (ص28-29)
إن هذا الحوار الذي كان بين حسن وبين فتحي، يشير إلى تلك المعضلة الذي يعاني منها الفلسطيني الذي اضطر إلى ترك أرضه وبلده إلى أرض جديدة، داخل حدود بلده وطنه الأكبر (فلسطين) لكنه لا يكسب سوى صفة لاجئ. إنها ليست معضلة لغوية وتصنيفية وفقط، بل إنها معضلة سياسية واجتماعية، تجعل فتحي أقل رتبة في السلم الاجتماعي من طالب (المواطن)، ولذلك فمن المحتمل ألا تكون جميلة، البنت المواطنة، أيضا من نصيبه.
لم تخلق النكبة صراعا سياسيا مع الغريب المحتل فقط، بل خلقت صراعا اجتماعيا بين الناس أنفسهم وقد انقسموا إلى فريقين، مطرود ومشرد فهو لاجئ ومواطن ظل في أرضه لحسن حظه وليس لأنه أراد ذلك، ولو تعرض لتلك الظروف التي تعرض لها ذلك اللاجئ لأصبح مثله تماما لاجئا ويعاني من التمييز من آخرين، مع أن الطرفين إن صحّ اعتبارهما طرفين واقعان تحت الاحتلال، وهما مستهدفان معا وجودا وتاريخا وجغرافيا.
لم يكن هذا الصراع في مسرحية "شجر وحجر" أقل من الصراع السياسي بين المحتل والفلسطينيين، وإن كان دائما يشير إلى الصراع السياسي الذي كان سببا مباشرا فيه. لقد أثارت هذه المسرحية مشكلة عامة، ليست خاصة بالمكان الخاص بالمسرحية بل إن الشعب يلمسها في كل المناطق الفلسطينية التي يسكنها فلسطينيون لجأوا غصبا عنهم إلى منطقة مجاورة من وطنهم، منتظرين عودتهم إلى ديارهم.
تنتهي المسرحية نهاية مفتوحة بصوت جميلة التي أعلنت انضمامها لأبي فتحي في إعلانه الإضراب، وطالبته بالصمود، مع أن الباقي ظلوا يرقصون بإيقاع يوناني حول الحجر الأسود. ربما تجلت رسالة المسرحية في هذه النهاية التي جعلت الطبقة الكادحة التي يمثلها أبو فتحي والوعي المتقدم السياسي الذي تمثله جميلة هما من يدافعان عما تبقى من الوطن ورموزه، وهما يشكلان معا فعلا ثوريا احتجاجيا مقاوما تجاه ذلك الوعي الجمعي الذي كانت تنقصه البصيرة، فكثير من رموز هذا المجتمع باركت افتتاح بارك الاستقلال، وقدموا شجرة بأسماء مؤسساتهم التي يمثلونها حتى إمام الجامع ومدير المدرسة، ما دفع بنعيم أن يعلق بعد أن قرأ اللافتات على الأشجار التي تقدموا بها لتكون في تل الفخار: "إجماع من كل البلد والسكان والمؤسسات.. الكل يؤيد "بارك الاستقلال". (ص 59)
إن ما تمتعت به جميلة من وعي على القضية السياسية وقيامها بخلع الأشجار له أثر كبير في مسألة التحرك على الأرض، ولكن من خلال رؤيا واضحة، ولذلك فأبو طالب يفطن لخطر جميلة السياسي ووعيها المتقدم الذي أفسد مصلحته الشخصية التي كانت مع الخواجا نعيم، فيخاطبها قائلا: "إنتِ أصل البلاء.. شو جابك لهون؟ إنتِ نحس.. كله منك". (ص 70) لعلها رسالة بالغة للجماهير التي يجب عليها أن تتسلح بالوعي وهي تخوض معركتها المصيرية مع المحتل.
وتبقى مسألة أخيرة أحب أن أعيد التذكير بها، وأشار إليها الكاتب في مقدمته القصيرة للمسرحية، وكنت قد ألمحت إليها في بداية هذه القراءة، يقول الكاتب عن المسرحية: "شجر وحجر" كتبت لتمثل أولا، ومن يقرأها نصا، فعليه أن يتخيّل موقع الأحداث ولَكْنة الشخصيات، وطريقة كلامها، وما بين السطور ليدخل وينسجم في عالم المسرحية، ويستجلب كل عناصر الفرجة بمخيلته". (ص 3) فهل بناء على ما قدمه الكاتب هنا من هذا التوجيه يقلل من فعل القراءة لنص مسرحية "شجر وحجر"، لاسيما وأنها كتبت لتمثل حتى وإن اختلف القراء في مقدرتهم على استجلاب عناصر الفرجة كلها أو بعضها؟ لعله سؤال مشروع يجيب عنه كل قارئ بتجربته الخاصة من القراءة ذاتها، مع أنني كقارئ استمتعت بقراءتها دون أن تأخذني حواراتها إلى شيء من عناصر الفرجة التي يتطلبها الفن المسرحي. بمعنى آخر ربما نجحت المسرحية في فعل القراءة المجرد كونها نصا، فهل ستنجح بالمعيار ذاته عند التمثيل؟ ربما خبرة الكاتب في الإخراج والتمثيل والإعداد كفيلة بنجاح آخر مغاير عن النجاح في قراءتها.