مع رولان بارت وقصة الضمير "هو"
السّارد ودوره الخطير في القصص
فراس حج محمد/ فلسطين
يقول رولان بارت في كتابه "الكتابة في درجة الصفر": "من المعتاد أن يكون ضمير المتكلم (أنا) في الرواية شاهدا، وأن يكون ضمير الغائب (هو) الفاعل. لماذا؟ لأن ضمير الغائب (هو) مواضعة نمطية خاصة بالرواية على مستوى واحد من الزمن السردي، وهو يشير إلى الحدث السردي ويستكمله. ولولا ضمير الغائب لعجزنا عن إقامة الرواية أو تسببنا في تدميرها. فضمير الغائب هو التجلي الشكلي للأسطورة". ويضيف بارت أن ضمير الغائب "الوسيلة الأولى لحيازة الكون على الوجه الذي يرتضيه، إنه إذن أكثر من تجربة أدبية، إنه فعل إنساني يربط الإبداع بالتاريخ أو الوجود". وهو كذلك "مادة الإبداع وليس ثمرته"، أي أنه ليس ضميرا متحولا عن "أنا" الكاتب، "بل عنصر أصلي وخام من عناصر الرواية".
وعلى ما يبدو من كلام رولان بارت فإن السارد هو "الشخص"، وليس هناك دليل على أنه مجرد شخص، ولنقل مجازا إنه "شخص"، فهو الذي يستلم مهمة الحكي عن الكاتب، ويجب أن ينجح الكاتب في فصله عنه فصلا تاما، ويوصل القارئ إلى أن يتنكر للكاتب، وينساه وهو يقرأ القصة أو الرواية، ويقيم علاقة مع السارد وحده.
لا شيء في القصة أخطر من السارد، لأنه واجب الوجود روائيا غصبا عن الكاتب، لذلك لا رواية دون أن يكون هناك سارد، هو من يجعل الحدث روائيا والشخصيات الورقية شخصيات من لحم ودم، إنه نافخ الروح في الوهم ليصبح حياة كاملة بين دفتي كتاب. هذا ليس كلاما رومانسيا خياليا في امتداح السارد. هو مجرد وصف حقيقي لهذه المهمة الوجودية لحياة الرواية. إنه أكثر من وسيلة فنية لتحقق الإقناع في الرواية وحياتها.
ويلتفت بارت إلى إشارة مهمة في حديثه عن السارد بضمير هو واختلافه عن السرد بضمير "أنا". وتتعلق الموازنة في أن "هو" يوهم بالموضوعية والابتعاد عن الذاتية، لذلك فإن السرد بضمير "أنا" "أقل روائية" كما يقول بارت، وأن الضمير هو "يزود مستهلكي هذا الفن بطمأنينة التخييل القابل للتصديق على الرغم من أن زيفه ظاهر على الدوام". هذه أيضا خطورة أخرى جديرة بالملاحظة. فالشعر يعتمد على "أنا" الشاعر، فهو ضمير منحاز غير موضوعي، بينما يجب أن يكون السارد عادلا في الفكرة الكلية للقصّ. يرى ويسمع ويقول، ويصنع دون شك رواية تنفي الكاتب من متنها نفيا كليا، وإن كان نفيا زائفا أيضا.
هذا ما استنبطه بارت من المعمار الروائي للروائيين الكبار أمثال بلزاك وجان كايرول وفلوبير وبروست، ومن هنا يلاحظ القارئ للروايات العظيمة الكلاسيكية اندماج الكتاب بلحظة الخلق الروائي، وسيرهم الحثيث وراء السارد، يكتبون وهم مطمئنون أنه هو الذي يقودهم، فعظمة الرواية نابعة من هذا التصور. أن السارد هو الذي يتحكم بالكاتب، وليس العكس، لذلك تخفت النزعة الأخلاقية ونزعة المباشرة فيما يكتبون، ويصبح البناء الروائي كله استعارة سردية لهذا العالم أو تفسيرا له. وليس حمل أفكار الكاتب ووضعها في أفواه الشخصيات كأنهم أطفال بحاجة إلى أن يأكلوا من يدي أمهم الكاتب. يجب أن يوجدوا راشدين ومسؤولين مسؤولية مباشرة عن أفعالهم ومواقفهم التي قد تدفع إلى المحاكمة والملاحظة والتبئير والجدية المطلقة.
هذا الذي كتبه رولان بارت وأدركه بحسه النقدي، يغيب بالكلية عن روائيي الزمن القاحل هذا، المليء بالعبث الروائي، فهي في أحسن تقويم وتقييم لا تعدو أن تكون الروايات بناء أيديولوجيا أو عاطفيا لأنه لا يرتكز على فلسفة القص والسارد، بل يستند إلى ما في عقل الكاتب من أفكار يخلق لها أشباحا تحملها، ولذلك لا تجد شخصية روائية عربية خلقها روائي عربي وتعيش بين الناس، كتلك التي صنعها روائيون غربيون كبار، واشتهرت ونمت وتطورت وعاشت أكثر مما عاش الكاتب نفسه، بل إن مات الكاتب فهي لن تموت.
هذا هو السر إذن، في الكتابة بصنعة روائية سردية ليست شكلية خارجية زائفة شكلا ومضمونا بل صنعة روائية كما يقول يوسا، تجعلك تنسى أنك تقرأ رواية، وتصدق للحظة أنك تعيش واقعا يسحبك من واقعك لتصبح شخصا مشاركا منفعلا في جو روائي يخرج بين ناظريك واقعا آخر بعد أن حككت الفانوس السحري للرواية فصرت معهم ومنهم، وجرّوك إلى هذا العالم، ولم ترجع إلى واقعك إلا عندما تنتهي الرواية فترتطم بأرضية الغرفة وتصحو من هذه الرحلة. لم تكن رحلة وهمية مئة بالمئة ولكنها أيضا لم تكن حقيقية ألبتة. هنا يجب أن ندرك الفرق العظيم بين رواية وأخرى، فكم هو عظيم هذا السارد وكم هو خطير الوجود في العالم الروائي، فهل سيدرك روائيّونا المتهافتون كالفراش على أضواء المصابيح الحارقة هذه الخطورة؟ وهل فعلا عاشوا هذا الفعل الوجودي فيما يكتبون من "روايات" بائسة؟ وهل يتوقف النقاد عن امتداح ذلك العبث الروائي بعبث نقدي مخجل أكثر مما هو كائن في الحقيقة والواقع؟