في تأمل تجربة الكتابة
ويأتيك بالأخبار من لم تُزَوّدِ
فراس حج محمد/ فلسطين
الكتابة على الفيسبوك تحقق مبدأ القراءة والكتابة التفاعليتين، ومع كل موضوع يُنشر على هذا الموقع ترى أن عشرات الأفكار تأتيك من حيث لم تكن تتوقعها، أفكار خاصة من خبرة القراء، وقد يكونون كتّابا ولكن تلك الأفكار لم تصل إلى حد النضوج لتصبح كتابة مستقلة عندهم.
على هامش مقال "ريتا على الحاجز" تنهال عليّ الأفكار في توضيح الفكرة الأساسية وزيادة بعض جوانبها الهامشية، صديقة كاتبة تعبّر عن عدم قدرتها على تجسيد الفكرة من قبل، وقد حاولت مرارا الكتابة فيها، ولكنها لم تفلح، سمعت بالفكرة في إحدى الجلسات، ولم تجربها هي شخصيا، وهذا أيضا من التجربة الذاتية للكاتب، وإن كانت أقل تأثيرا في الكتابة. قرأت المقالة وقد أغنتها عن الكتابة في هذا الموضوع. هذا بحد ذاته نجاح للمقالة وموضوعها الذي قد يفهم خطأ عند البعض، وربما نعتني المثاليون المدّعون أنني أشتهي اليهوديات والإسرائليليات والصهيونيات، وربما أبعد من ذلك، لأصبح في نظرهم "عميلا" للكيان الغاصب. كل شيء جائز مع تفشي أمراض النفس البشرية التي استعصت على الأطباء والحكماء. إنها الحماقة التي "أعيت من يداويها" بكل تأكيد.
تفتح المقالة موضوع الفلسطينيين في الداخل المحتل (1948)، فقد رأت فئة منهم أن ضياع الأرض وسيطرة المحتل الغاشم عليها، لا يهم، ما دامت النساء الإسرائيليات تنام في أحضان الشباب العرب الفلسطينيين. كانت الفكرة هذه غاية في الأهمية، وأشار إليها مقال "ريتا على الحاجز" براويتين، واحدة سودانية والأخرى لكاتب أردني، مع اختلاف في النظرة التي تبدو في نظر البعض أنها تعويض ومكافأة وليست نوعا من الانتقام.
ما زالت معادلة الأرض والعرض تعمل بكفاءة عالية بيننا نحن الفلسطينيون، هل الإسرائيليون يحملون الفكرة ذاتها عن العرض لتكون الأرض مقابلة للعرض. أرى أننا مفتونون بتطبيق أفكارنا على آخرين لا يؤمنون بها. تخيلوا لو أن القبائل العربية القديمة لم تكن حريصة على "عرض" نسائها هل كانت عادة السبي لتولد في ذلك المجتمع؟ السبي والاغتصاب طريقتان للنيل من الآخر إذا كان يعتبرهما أذى. هل سمعتم بالمرأة الروسية التي عاقبت سارقا حاول أن يسرق محلها؟ أوثقته ثلاثة أيام، وأطعمته أقراص "الفياجرا"، واغتصبته بعنف، ثم أطلقت سراحه، نعم لقد كانت هي الفاعل في حقيقة الأمر، وإن بدت أنها هي المفعول بها.
أما الفكرة الأكثر حداثة، إن صح تطبيق مفهوم الحداثة هنا، حسب محادثة مع قارئة متشجعة لموضوع المقال، فقد تلخّص في أن ما هو موجود عند الشباب الفلسطينيين في ملاحقة الإسرائيليات ومصاحبتهن ومضاجعتهن، له ما يقابله عند الفلسطينيات أيضا، هل الأمر يشكّل صدمة؟ أنا لم أتفاجأ لأننا بشر، وما يحدث مع المرء يحدث مع المرأة، وما يفكر فيه الرجال، تفكر فيه النساء، سواء بسواء، هل نعيد إلى الأذهان التذكير بالعاشقات العربيات لجنود الاحتلال الإنجليزي في مصر أو الفرنسي في سوريا والجزائر، ولجنود الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين الداخل وفي مناطق الضفة الغربية، وخاصة المتاخمة لحدود فلسطين (48)، وربما في القدس أيضا، هناك شواهد كثيرة، نعرفها ولا نتحدث فيها.
الفكرة ليست هنا بالضبط، وإنما أكثر صدمة، أو أكثر حداثة، امرأة جميلة شابة، وتعمل معلّمة، يوقف السيارة التي تقلها لعملها صباحا جندي على إحدى الحواجز، يطلب هُويتها، بعد فترة ما، تتفاجأ هذه المرأة بزيارته بيتهم لخطبتها. وتعرف منه القصة، وقصة الحاجز، وأنها جميلة وأثرت فيه. هذا الجندي الدرزي يأخذ موقع جدته اليهودية "ريتا". وهذه المرأة التي شعرت بالفخر بدغدغة مشاعرها الأنثوية، أيضا تحب أن يشتهيها الرجال، مهما كانوا، إسرائيليين، أو عربا، ولا يهمها، ما دامت هي من يتحكم بحبكة القصة ولحظة تأزمها العاطفي الشائق جدا بالنسبة لها، لذلك صارت تتعمد أن تلبس الألبسة المثيرة وهي تمر عن الحاجز الاحتلالي، لباس يفصّل جغرافيا جسدها، صدرها، وعجيزتها، ومنطقة أسفل بطنها، وتحب أن تلبس نوعا خاصا من "التنانير" المنتقِمة، تريد أن تشعل الشباب وتشغلهم، إنها تنتقم منهم على طريقتها أيضا، وهي تبحث عن فريسة؛ عن رجلٍ ليكون زوجها، هي الآن بالضبط تأخذ دور مصطفى سعيد في رواية "موسم الهجرة إلى الشمال"، ودور وليد بطل رواية "أنا وجدي وأفيرام" للكاتب الأردني زياد أحمد محافظة، وإن بشكل أخف وطأة وعنفا.
ذكرني موضوعها مرة أخرى بما كتبه "جان ليك هينيج" في كتابه الفريد من نوعه "موجز تاريخ الأرداف"، حيث يذكر كيف أن مصممي الأزياء كانوا حريصين على تصميم ملابس لإظهار عجيزة المرأة بشكل يلفت الرجال، وقد شاع نوع من الملابس لأجل ذلك. وقُلِ الشيء نفسه، فلسطينيا، شيوع ملابس خاصة مثيرة في شكل "موضات" صارخة، لإظهار النهدين وتصلّبهما وإظهار الجمال في أبدع إغواءاته المحرّضة على الشهوة، وبالتالي المحرّضة على الانتقام من الشباب الذين لم يكفهم العنف الإسرائيلي ليجابهوا انتقاما نسائيا من داخل المجتمع نفسه، وعلى أيدي نسائه المتجبّرات.
يتطور الحديث حول النساء في موضوع الملابس والإغراء و"الحركات"، لتخلُص المتحدثة أن عالم النساء عالم مليء بالخدع، وهذا يتقاطع مع ما كتبته الروائية اللبنانية حنان الشيخ في روايتها "عذارى لندنستان"، إذ تحتال إحداهن وقد فقدت غشاء بكارتها خلال تجربة معاشرة جنسية سابقة، بحيلة استخدام منتج على شكل حبة من الفراولة تضعها هناك، حيث موضع اللذة الجنسية، وعندما يضاجعها "العريس" لن يعرف أنها ثيّب، فسيرى السائل الأحمر الشبيه بدم البكارة. تعجبها اللعبة، وتكرر ذلك كثيرا لتزيد في خداعه، وعندما أعرب عن استغرابه مما يحدث تخبره أنها حورية من الجنة، تتجدد عذريتها في كل مرة يضاجعها فيها. فيا لغبائه المطلق! ويا لخدعتها الطويلة العمر!
هكذا تصبح الكتابة محرّضة على الكتابة، ودافعة لها، فوراء "ريتا" ريتاوات كثيرات، وعلى ما يبدو أن الدارويش كثيرون، وأن المخدوعين أكثر من أن يحصَوْا عددا، ولكن تستمر اللعبة بتجلياتها المختلفة الأشكال والألوان والأفكار، وتستمر الكتابة، "ويأتيك بالأخبار من لم تزوّدِ" في كل مرّة، ويبقى أيضا السؤال الذي طرحته إحدى الزميلات في تعليقها على الموضوع: "هل هناك في الأدب العبري ما يشير إلى أن شابا إسرائيلياً أحبّ فتاة عربية مثلا على غرار الشباب العربي الذين فكروا بإسرائيليات؟" أحيل هذا السؤال إلى المستقبل؛ لعلني أجد شيئا من ذلك في الروايات المترجمة عن العبرية، أو المراجعات النقدية ذات الصلة.