فراس حج محمد

موقع يختص بمنشورات صاحبه: مقالات، قصائد، أخبار

في تأمل تجربة الكتابة

كيف الفنّ كالشيطان يكمن في التفاصيل؟

فراس حج محمد/ فلسطين

في الدراما سيتزوج البطل من البطلة في النهاية، نتيجة معروفة سلفا، إنما يبحث الفن عن تلك التفاصيل لإثارتها، حتى لا يصل البطل بسهولة إلى مراده سيكون هناك عراقيل ومصاعب ودم وسجن وأشياء أخر من فعل الشيطان الذي هو الآخر يكمن في تلك التفاصيل.

وأنا صغير كنت أسمع من جدتي، رحمها الله، حكاية جْبِينة الشعبية، كانت جبينة تلك فتاة بديعة الجمال كأنها الجبنة في بياضها، هنا إيحاء أنثوي جميل له دلالة في تفاصيل القصة، تدخل في قدر الضياع والتيه قبل عودتها، وما بين النقطتين أيصا ثمة شياطين وتفاصيل.

في الفن التشكيلي كذلك نوع من التفاصيل على نحو مغاير؛ التعبير عن الفكرة بالألوان والخطوط وتوزيع المساحات البيصاء وترتيب العناصر على هيئة ما، كل هذه تفاصيل لازمة في الفن من وحي شياطين الفن الذي "يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول"، تلك الشياطين التي لا تحب مغادرة هذا العالم المحفز على الإبداع.

في الشعر أيضا هناك تفاصيل في الخطاب الشعري، سواء أكان مكثفا أو مطولا، القصيدة الجاهلية مليئة بالتفاصيل في التعبير والتصوير ورسم المشاهد، جملة قد تكون كافية، ولكن صنعة الفن هي في تلك التفاصيل النابعة من وحي الشياطين الحريصة على جودة العمل الفني. عندما يحب الشاعر لماذا لا يكتفي بكلمة "أحبك"؟ لماذا يبحث عن التفاصيل؟ كل ديوان شعر الغزل يختصر بهذا الفعل أحبك، لكن لا يقف العشاق عنده ويبحثون عن التفاصيل.

لقد تضخم الشعر بأصنافه كلها كذلك بفعل تلك التفاصيل من رثاء وهجاء ومديح ووصف، كل قصيدة تختصر بجملة، ولكن لا يحسن بالشاعر إلا أن يبحث عن التفاصيل باستحضار الشياطين العبقرية من وادي عبقر المليء بحكايات تفتح الشهية على غرائب التفاصيل.

الروايات هي عالم آخر مشبع بالتفاصيل، السرد تفاصيل فنية، متابعة المشاهد بالحكي تفاصيل مرغوب فيها، الوقوف عند الحيثيات الصغيرة تفاصيل محببة، هذا هو عمل الفن، هناك روايات مأخوذة أفكارها عن صفحة الحوادث في الجريدة اليومية، ثمة تفاصيل يستحضرها الروائي لازمة يعبئ فيها الخبر. لولا تلك التفاصيل لا يوجد رواية ناجحة.

المسرح يعتني كغيره بالتفاصيل، بناء المكان تفاصيل، الديكورات والملابس والحركات الإيقاعية والموسيقى والإنارة وأداء الشخوص تفاصيل مسرحية، تساعد الفكرة الموجزة على التمدد وعدم الاكتفاء بها هكذا مجردة. مسرحية ريا وسكينة، حدث واقعي، ولكن بفعل تفاصيل المسرح صار العاديّ عملا فنيا مؤثرا.

الموسيقى وعلاقتها بالآلات الموسيقية نوع من التفاصيل الذهنية، يتوزع اللحن بتفاصيله على الآلات الموسيقية ليصبح عملا فنيا متكاملا، لا موسيقى بارعة من غير تلك التفاصيل، تلك التفاصيل التي تتعاظم في عروض الأوكسترا، ووجود الكورال تفصيل موسيقي فني، متحالف مع شيطان الفنون.

النقد بفروعه كافة كان وما زال يعتني بكل تلك التفاصيل، يفتش عن تفاصيل الدراما والرواية والموسيقى والشعر والمسرح، ينتقد اختلالات التفاصيل، ويبحث عن الغائب منها، ويعدل ما هو موجود منها، يعيد رسم ما تشوّه من تلك التفاصيل. النقد بارع في الكشف عنها، ولولا مهمته هذه لم يكن له أهميّة تذكر. ما بين النقد عموما وما بين شياطين الفنون صراع وتحالف؛ صراع لإثبات الوجود في عمق التفاصيل، وتحالف من أجل تأكيد تلك التفاصيل.

الريح والمطر والسحاب والسماء والأرض والشجر والحجر والدين والمرأة والطعام والشراب واللباس الحب والحرب، كلها عناوين وتفاصيل في الوقت ذاته، تعرب عن نفسها في تفاصيل الحياة، تلك الحياة التي تبدأ بالولادة وتنتهي بالموت، وما بين طرفي الحياة كم هائل من التفاصيل التي يلعب بها الشيطان ويتقنها، لتكون الحياة أجمل ولها معنى، إذ لا معنى للحياة بغير هذا العذاب السيزيفي. ما الذي يشعرك بأنك حي؟ هو أنك تمارس تفاصيلك على نحو ما. الحياة عموما تفاصيل، ولا شيء غير التفاصيل نحن البشر وما جاورنا من عوالم عناوين فرعية فيها.

"الشيطان يكمن في التفاصيل" جملة تلخص هذا الصراع الوجودي على الحياة، لا تختص هذه الحكمة أبناء المعاهدات السياسية والاقتصادية وصراع النفوذ بين الفرقاء الذين يحاولون اختراق العناوين ومتن اللغة إلى إحداث تفاصيل يثيرها الشيطان وتثير شياطين السلاح والمال والسياسة. إنها موجودة في أبجديات الحياة عند كل البشر، في هذا الإعلان من الشيطان نفسه الذي تحدى الله بكل صلافة وجرأة: "وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا، وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ". وبعيدا أو قريبا من المعنى الديني، فإن هذه هي مهمة الشيطان كالفن تكمن في التفاصيل، فلولا وجود الشيطان لا معنى للفن، ولا معنى للحياة كذلك إن خلت من كل تلك التفاصيل التي لا يمل الشيطان من صناعتها حتى تقوم الساعة. الشيطان نفسه تحوّل إلى تفاصيل ممتعة في كتابات الكتاب. الشيطان ضرورة من ضرورات الحياة والدين، إن مات الشيطان ماتت الحياة ولا بدّ. أرأيتم كم احتجت إلى تفاصيل كثيرة لتوضيح هذه الجملة؟ لله در التفاصيل ما أشد غوايتها وما أمتعها! ولأجل ذلك "الفنّ كالشيطان يكمن في التفاصيل".

 

المصدر: فراس حج محمد
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 178 مشاهدة

فراس عمر حج محمد

ferasomar
الموقع الخاص بــ "فراس حج محمد" »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

743,005

فراس حج محمد

نتيجة بحث الصور عن فراس حج محمد كنانة أون لاين

من مواليد مدينة نابلس في فــلسطين عــام 1973م، حاصل على درجة الماجستير في الأدب الفلسطيني الحديث من جامعة النجاح الوطنية. عمل معلما ومشرفا تربويا ومحاضرا غير متفرغ في جامعة القدس المفتوحة. 

عمل محررا لغويا في مجلتي الزيزفونة للأطفال/ رام الله، وشارك في إعداد مواد تدريبية في وزارة التربية والتعليم الفلسطينية، وكان عضوا في هيئة تحرير مجلة القانون الدولي الإنساني/ الإصدار الثاني الصادرة عن وزارة التربية والتعليم في فلسطين.

نشر العديد من المـقالات والقـصائد في مـجالات النشر المختلفة الإلـكترونية والصحف والمجلات في فلسطين والوطن العربي وبريطانيا وأمريكا وكندا والمكسيك. وشارك في ندوات وأمسيات شعرية ومؤتمرات في فلسطين.

الكتب المطبوعة: 

رسائــل إلى شهرزاد، ومــن طقوس القهوة المرة، صادران عن دار غُراب للنشر والتوزيع في القاهرة/ 2013، ومجموعة أناشيد وقصائد/ 2013، وكتاب ديوان أميرة الوجد/ 2014، الصادران عن جمعية الزيزفونة لتنمية ثقافة الطفل/ رام الله، وكتاب "دوائر العطش" عن دار غراب للنشر والتوزيع. وديوان "مزاج غزة العاصف، 2014، وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في القصة القصيرة جدا- دار موزييك/ الأردن وديوان "وأنت وحدك أغنية" عن دار ليبرتي/ القدس وبالتعاون مع بيت الشعر في فلسطين، وكتاب "يوميات كاتب يدعى X"، وكتاب "كأنها نصف الحقيقية" /الرقمية/ فلسطين، وكتاب "في ذكرى محمود درويش"، الزيزفونة 2016، وكتاب "شهرزاد ما زالت تروي- مقالات في المرأة والإبداع النسائي"، الرقمية، 2017، وديوان "الحب أن"، دار الأمل، الأردن، 2017. وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في الرواية"، مكتبة كل شي، حيفا، 2017. وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في متنوع السرد"، مؤسسة أنصار الضاد، أم الفحم، 2018، وديوان "ما يشبه الرثاء"، دار طباق للنشر والتوزيع، رام الله، 2019، وكتاب "بلاغة الصنعة الشعرية"، دار روافد للنشر والتوزيع، القاهرة، 2020. وكتاب "نِسوة في المدينة"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله، وعمّان، 2020. وكتاب "الإصحاح الأوّل لحرف الفاء- أسعدتِ صباحاً يا سيدتي"، دار الفاروق للنشر والتوزيع، نابلس، 2021. وكتاب "استعادة غسان كنفاني"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله، وعمّان، 2021، وكتيّب "من قتل مدرّس التاريخ؟"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2021. وديوان "وشيء من سردٍ قليل"، وزارة الثقافة الفلسطينية، رام الله، 2021. وديوان "على حافّة الشعر: ثمّة عشق وثمّة موت"، دار البدوي، ألمانيا، 2022. وكتاب "الكتابة في الوجه والمواجهة"، الرعاة وجسور ثقافية، رام الله وعمان، 2023. وكتاب "متلازمة ديسمبر"، دار بدوي، ألمانيا، 2023. وكتاب "في رحاب اللغة العربية"، دار بدوي، ألمانيا، 2023، وكتاب "سرّ الجملة الاسميّة"، دار الرقمية، فلسطين، 2023. وكتاب "تصدّع الجدران- عن دور الأدب في مقاومة العتمة"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله وعمّان، 2023، وديوان "في أعالي المعركة"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2023، وكتاب "مساحة شخصية- من يوميات الحروب على فلسطين"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2024، وكتاب "الثرثرات المحببة- الرسائل"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2024، وكتاب "فتنة الحاسة السادسة- تأملات حول الصور"، دار الفاروق للثقافة، نابلس، 2025. 

حررت العديد من الكتب، بالإضافة إلى مجموعة من الكتب والدواوين المخطوطة. 

كتب عن هذه التجربة الإبداعية العديد من الكتاب الفلسطينيين والعرب، وأجريت معي عدة حوارات ولقاءات تلفزيونية.