يعد القرن الرابع الهجري العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية من حيث التقدم العلمي، فقد تَوَّج العلماء المسلمون العلوم التطبيقية والبحث خلاله بالاكتشافات الرائعة، خاصة بما اهتدوا إليه في الأصوات، وقوس قزح والكسوف والخسوف والظلال، بالإضافة إلى مخترعاتهم في علم الحيل.

 

        وقد كان على رأس قائمة العلماء الذين اشتغلوا بالفيزياء: ابن الهيثم (انظر إنجازاته في مبحث البصريات) وأبناء موسى بن شاكر والخازن والبيروني وغيرهم ممن يصعب حصرهم، وقد أسهم هؤلاء جميعًا في تطور علم الفيزياء بفروعه المختلفة بنسب متفاوتة، ولم يكن هناك من يفوقهم في أي أمة عاصرتهم، وهذه نبذة سريعة تنوه ببعضهم.

 

            الشيخ الرئيس ابن سينا (370-428هـ):

 

        هو أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا، ألف ما يقارب مائتين وخمسين مؤلفاً بين كتاب ورسالة ومقالة في كل من الرياضيات والمنطق والأخلاق والطبيعيات والطب والفلسفة، وأهم إنجازات ابن سينا في الطبيعيات هو في مجال الميكانيكا، حيث بين ابن سينا أنواع القوى وعناصر الحركة ومقاومة الوسط المنفوذ فيه، تلك المقاومة التي تعمل على إفناء الحركة.

 

        أنواع القوى المؤثرة على الجسم:

 

        يقسم ابن سينا القوى إلى ثلاثة أنواع، فبين أن هناك قوى طبيعية تعيد الأجسام إلى حالتها الطبيعية إن هي أُبعدَتْ عنها سماها بالقوى الطبيعية، وهي التي نعرفها اليوم بقوة التثاقل أو الجاذبية الأرضية، والقوة الثانية وهي القوة القسرية التي تجبر الجسم على التحرك أو السكون، والقوة الثالثة هي القوة الكامنة في الفلك العلوي، وهي تحرك الجسم بإرادة متجهة حسب قوله.

 

        عناصر الحركة:

 

        يعرض ابن سينا في كتابه (الشفاء) إلى أمور ستة تتعلق بالحركة هي: المتحرك والمحرك وما فيه وما منه وما إليه والزمان.

 

        القانون الأول للحركة:

 

        ذكر ابن سينا في كتابه الإشارات والتنبيهات بلفظه: "إنك تعلم أن الجسم إذا خلى وطباعه، ولم يتعرض له من خارج تأثير غريب لم يكن له بد من موضع معين وشكل معين، إذن في طباعة مبدأ استيجاب ذلك"، كما يقول في حركة الجسم المقذوف: "إذا حققنا القول وجدنا أصح المذاهب مذهب من يرى أن المتحرك يستفيد ميلاً من المحرك، والميل هو ما يحس بالحس إذا ما حُووِل أن يسكن الطبيعي بالقسر، أو القسري بالقسر" أي أن الجسم في حالة تحركه يكون له ميل للاستمرار في حركته، بحيث إذا حاولنا إيقافه أحسسنا بمدافعة يبديها الجسم للبقاء على حالة من الحركة سواء كانت هذه الحركة طبيعية أو قسرية.

 

        تؤكد هذه النصوص سبق ابن سينا إلى القانون الأول للحركة قبل ليوناردو دافينشي بأكثر من أربعة قرون، وقبل جاليليو جاليلي بأكثر من خمسة قرون، وقبل إسحق نيوتن بأكثر من ستة قرون، فهو بحق قانون ابن سينا الأول للحركة.

 

         استحالة الحركة الدائمة (الاحتكاك):

 

        فطن الشيخ الرئيس إلى أن معاوقة الوسط الذي يتحرك خلاله الجسم تؤدي إلى إبطال الحركة فيه، ثم ذهب إلى القول باستحالة الحركة الدائمة فقال في كتابه (الإشارات والتنبيهات) ما نصه: "لا يجوز أن يكون في جسم من الأجسام قوة طبيعية تحرك ذلك الجسم إلى بلا نهاية"، وهو يسبق بذلك ليوناردو دافينشي الذي ذهب إلى هذا المذهب في عصر النهضة الأوروبية (11).

 

          البيروني:

 

        كان البيروني (362 - 441هـ) ثالث ثلاثة - بعد ابن سينا وابن الهيثم - ازدهرت بهم الحضارة العربية الإسلامية في الفترة من منتصف القرن الرابع الهجري إلى منتصف القرن الخامس الهجري، ويذهب بعض مؤرخي العلوم مثل الألماني إدوارد سخاو (ت 1348هـ،1930م) إلى أن البيروني أعظم عقلية عرفها التاريخ.

 

        يكاد يكون البيروني قد ألَّف في كل فروع المعرفة التي عهدها عصره؛ فقد كتب في الرياضيات والفلك والتنجيم والحكمة والأديان والتاريخ والجغرافيا والجيولوجيا والأحياء والصيدلة، أما في مجال الطبيعيات فقد اهتم بالخواص الفيزيائية لكثير من المواد، وتناولت أبحاثه علم ميكانيكا الموانع والهيدروستاتيكا، ولجأ في بحوثه إلى التجربة وجعلها محورًا لاستنتاجاته، كما انضم مع ابن سينا إلى الذين شاركوا ابن الهيثم في رأيه القائل بأن الضوء يأتي من الجسم المرئي إلى العين.

 

        ومن جملة اهتماماته بالخواص الفيزيائية للمواد التي وردت في كتب متفرقة ك(القانون المسعودي)، و(الجماهر في الجواهر) وصفُهُ للماس بأنه جوهر مُشِفّ، وأنه صلد يكسر جميع الأحجار ولا ينكسر بها، وهذه صفة فيزيائية مميزة للماس حيث يستخدم حتى الآن لقطع الزجاج، ويستخدم مسحوقه لصقل المعادن وتنعيمها، أما خشب الأبنوس عنده فإنه يضيء كاللؤلؤ، تفوح منه رائحة طيبة ولا يطفو على الماء لأن ثقله النوعي أكثر من واحد، كما يشير إلى أن كل الأحجار الكريمة تطفو في الزئبق ما خلا الذهب فإنه يرسب فيه بفضل الثقل.

 

        ومن أبرز ما قام به البيروني أنه توصل إلى تحديد الثقل النوعي لـ 18 عنصرًا مركبًا بعضها من الأحجار الكريمة مستخدمًا الجهاز المخروطي، وقد استخرج قيم الثقل النوعي لهذه العناصر منسوبة إلى الذهب مرة وإلى الماء مرة أخرى، وله جداول حدد فيها قيم الثقل النوعي لبعض الأحجار الكريمة منسوبة إلى الياقوت على أساس الوزن النوعي للياقوت = 100 ثم إلى الماء.

 

        وفي ظاهرة الجاذبية كان البيروني مع ابن الحائك، من الرواد الذين قالوا بأن للأرض خاصية جذب الأجسام نحو مركزها، وقد تناول ذلك في آراء بثها في كتب مختلفة، ولكن أشهر آرائه في ذلك ضمنها كتابه القانون المسعودي.

 

        ومن المسائل الفيزيائية التي تناولها البيروني في كتاباته ظاهرة تأثير الحرارة في المعادن، وضغط السوائل وتوازنها، وتفسير بعض الظواهر المتعلقة بسريان الموائع، وظاهرة المد والجزر وسريان الضوء، فقد لاحظ أن المعادن تتمدَّد عند تسخينها، وتنكمش إذا تعرضت للبرودة.

 

        وأولى ملاحظاته في هذا الشأن كانت في تأثير تباين درجة الحرارة في دقة أجهزة الرصد، حيث تطرأ عليها تغيرات في الطول والقصر في قيظ النهار وصقيع آخر الليل، وتعرض في كتابه (الآثار الباقية عن القرون الخالية) لميكانيكا الموائع؛ فشرح الظواهر التي تقوم على ضغط السوائل واتزانها وتوازنها، وأوضح صعود مياه النافورات والعيون إلى أعلى مستندًا إلى خاصية سلوك السوائل في الأواني المستطرقة.

 

        كما شرح تجمع مياه الآبار بالرشح من الجوانب حيث يكون مصدرها من المياه القريبة منها، وتكون سطوح ما يجتمع منها موازية لتلك المياه، وبيَّن كيف تفور العيون وكيف يمكن أن تصعد مياهها إلى القلاع ورؤوس المنارات. وتحدث عن ظاهرة المد والجزر في البحار والأنهار وعزاهما إلى التغير الدوري لوجه القمر (12).

 

          الخازني:

 

        يعد الخازني (ت550هـ/ 1155م) أبرز الذين وضعوا مؤلفًا في الموازين وعلم الميكانيكا والهيدروستاتيكا، ويعد كتابه "ميزان الحكمة" موسوعة تشمل هذين العلمين، بما في ذلك الأثقال والأوزان النوعية لكثير من المعادن، واخترع الخازن آلة لمعرفة الوزن النوعي للسوائل ووصل في تجاربه إلى درجة عظيمة من الدقة، واستخدم ميزان الهواء للحصول على الثقل النوعي للسوائل بكل نجاح وتوصل في ذلك أيضًا إلى نتائج باهرة إذا ما قورنت بالتقديرات الحديثة.

 

        كتب الخازن أبحاثًا أصيلة في المرايا وأنواعها وحرارتها، والصور الظاهرة فيها، وفي انحراف الأشياء وتجسيمها ظاهريًا، وأجرى تجارب لإيجاد العلاقة بين وزن الهواء وكثافته، وأوضح أن المادة يختلف وزنها في الهواء الكثيف عنه في الهواء الخفيف لاختلاف الضغط، كما بيَّن أن قاعدة أرشميدس لا تسري فقط على السوائل، بل تسري أيضًا على الغازات.

 

        وفي كتابه (ميزان الحكمة)، الذي عثر عليه في منتصف القرن التاسع عشر، استيفاء لبحوث مبتكرة في الفيزياء عامة والهيدروستاتيكا والميكانيكا خاصة، وقد سبق الخازن في هذا الكتاب غيره في الإشارة إلى مادة الهواء ووزنه، وقال: إن للهواء وزنًا وقوة رافعة كالسوائل تمامًا؛ فالهواء كالماء يحدث ضغطًا من أسفل إلى أعلى على أي جسم مغمور فيه، وعلى ذلك فإن وزن أي جسم مغمور في الهواء ينقص عن وزنه الحقيقي، وأن مقدار ما ينقص من الوزن يتوقف على كثافة الهواء.

 

        ولاشك في أن هذه الدراسات هي التي مهّدت لدراسات تورشلي وباسكال وبويل وغيرهم ومهّدت بذلك لاختراع البارومتر، وتناول في الكتاب نفسه ظاهرة الجاذبية، وقال: إن الأجسام تتجه في سقوطها إلى الأرض، وأن ذلك ناتج عن قوة تجذب هذه الأجسام في اتجاه مركز الأرض، كما تكلم عن الأنابيب الشعرية.

 

        وفي الميزان الجامع يبحث في المقدمات الهندسية والطبيعية لبناء الميزان، ومراكز الأثقال كما وصفها ابن الهيثم وأبو سهل الكوهي، ومقدار غوص السفن، كما يبحث في أسباب اختلاف الوزن، ومعرفة النسب بين الفلزات والجواهر في الحجم، وموازين الماء وفحصها، واستخدام الصنجات الخاصة بالموازين، ووزن الدراهم والدنانير دون صنجات، وميزان الساعات وميزان تسوية الأرض، وقد ترجمت كتابات الخازن إلى اللاتينية ثم الإيطالية في وقت مبكر، واستعانت بها أوروبا في العصور الوسطى وبدايات العصر الحديث.

 

           ابن ملكا:

 

        اشتهر أبو البركات هبة الله بن ملكا البغدادي المعروف بأوحد الزمان (ت560هـ/1165م) بأعماله الطبيّة إلى جانب إسهاماته في مجال علم الحركة (الديناميكا)، وقد تناول ابن ملكا القانون الثالث من قوانين الحركة الذي ينص على أن لكل فعل رد فعل مساوٍ له في المقدار ومعاكس له في الاتجاه في كتابه (المعتبر في الحكمة)؛ إذ يصّرح بأن الحلقة المتجاذبة بين المصارعيْن لكل واحد من المتجاذبيْن في جذبها قوة مقاومة لقوة الآخر، وليس إذا غلب أحدهما فجذبها نحوه تكون قد خلت من قوة الجذب الآخر، بل تلك القوة موجودة مقهورة، ولولاها لما احتاج الآخر إلى كل ذلك الجذب.

        وإن هناك نوعا من الإجماع بين مؤرخي العلوم على أن أبا البركات هبة الله بن ملكا البغدادي يُعدّ بحق من عباقرة العالم الذين وضعوا الأسس الهامة، وأضافوا الأفكار المنيرة في علمي الفيزياء والطب(13).

 

 

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 1155 مشاهدة
نشرت فى 6 إبريل 2015 بواسطة fdlalmola

ساحة النقاش

fdlalmola

http://www.onefd.edu.dz/infpe/cours%20pdf%201mef/Env1/physique-pdf/physique_env2.pdf

كتاب عن اسهامات العالماء المسلمين في الفيزياء

fdlalmola

شأن كل العلوم التي تتقدَّم وتتطوَّر مع تعاقب الأمم والحضارات، قامت العلوم الطبيعيَّة عند المسلمين في بدئها على مؤلَّفات اليونان، تلك التي استند فيها اليونانيُّون إلى الفلسفة المجرَّدة في محاولاتهم فَهْم الطبيعة، ودون أن يكون للتجربة دور يُذْكَر في تلك المحاولات، غير أن العلماء المسلمين ما لبثوا أن طوَّروا هذا الأساس، وخاضوا غمار علم الفيزياء ببراعة وذكاء منقطعَي النظير، حتى لكأنهم أنشئوا علمًا جديدًا، وذلك حين جعلوا علم الفيزياء عِلمًا يستند إلى التجربة والاستقراء، عوضًا عن الاعتماد على الفلسفة أو التأمُّلات والأفكار المجرَّدة.

فكان من جرَّاء ذلك أنهم استنتجوا نظريات جديدة وبحوثًا مبتكرة، مثل: قوانين الحركة، والقوانين المائية، وقانون الجاذبية الأرضيَّة، كما بحثوا في الوزن النوعي للمعادن والسوائل، واستطاعوا قياس الوزن النوعي للسوائل، والذي يُعَدُّ في هذا العصر، بما فيه من وسائل متطوِّرة، أمرًا عسيرًا!

فقد اتَّكأ المسلمون في البدء على كتب السابقين، مثل كتاب (الطبيعة) لأرسطوطاليس الذي تحدث فيه عن علم الحركة، وكذلك مؤلفات أرشميدس التي تحوي معلومات عن الأجسام الطافية في الماء والوزن النوعي لبعض الموادِّ، ومصنفات أكتسبيوس التي تتضمَّن نتائج علميَّة عن المضخَّة الرافعة والساعات المائيَّة، وكذلك هيرون السكندري[1] الذي تحدَّث عن البكرة والعجلة وقانون الشغل[2]. ثم ما لبث العلماء المسلمون أن طوَّروا نظريات وأفكار السابقين الفيزيائية، واستطاعوا أن يخرجوها من طور النظريَّة المجرَّدة إلى طور التجربة العمليَّة، والتي هي عماد هذا العلم.

تطوير علماء المسلمين لعلم الصوت
علم الصوت بحث العلماء المسلمون في علم الصوت وفي منشئه وكيفيَّة انتقاله، فكانوا أول من عرف أن الأصوات تنشأ عن حركة الأجسام المحدِثة لها، وانتقالها في الهواء على هيئة موجات تنتشر على شكل كروي، وهم أول من قسَّم الأصوات إلى أنواع، وعلَّلوا سبب اختلافها عن الحيوانات باختلاف طول أعناقها، وسعة حلاقيمها وتركيب حناجرها، وكانوا أول من علَّل الصدى وقالوا: إنه يحدث عن انعكاس الهواء المتموِّج من مصادفة عالٍ كجبل أو حائط، ويمكن أن لا يقع الحسُّ بالانعكاس لقرب المساحة؛ فلا يُحَسُّ بتفاوت زمانَي الصوت وانعكاسه[3].

تطوير علماء المسلمين لعلم السوائل
أما علم السوائل فقد ألَّف العلماء المسلمون فصولاً متخصِّصة في كيفية حساب الوزن النوعي لها؛ إذ ابتدعوا طرقًا عديدة لاستخراجه، وتوصَّلوا إلى معرفة كثافة بعض العناصر، وكان حسابهم دقيقًا ومطابقًا -أحيانًا- لما هو عليه الآن، أو مختلفًا عنه بفارقٍ يسير[4].

علماء المسلمين في الفيزياء
أبو الريحان البيروني

من علماء المسلمين الذين اشتهروا بالفيزياء أبو الريحان البيروني، وهو الذي "عيَّن الكثافة النوعيَّة لثمانية عشر نوعًا من أنواع الحجارة الكريمة، ووضع القاعدة التي تنصُّ على أن الكثافة النوعيَّة للجسم تتناسب مع حجم الماء الذي يزيحه... وشرح أسباب خروج الماء من العيون الطبيعيَّة، والآبار الارتوازية بنظرية الأواني المستطرَقة"[5].

أبو الفتح الخازني

قد أبدع الخازني[6] في حقل الفيزياء أيَّما إبداع، وخاصَّة موضوعَي الحركي (الديناميكا) وعلم السوائل الساكنة (الهيدروستاتيكا)، لدرجة أدهشت الباحثين الذين أتوا بعده، ولا تزال نظرياته تدرَّس في حقل الحركيَّة في المدارس والجامعات إلى يومنا هذا، ومن هذه النظريات نظرية الميل والانحدار ونظريَّة الاندفاع، وهاتان النظريتان أدَّتا دورًا مهمًّا في علم الحركيَّة، ويَعتبر الكثير من المؤرِّخين في تاريخ العلوم الخازنيَّ أستاذ الفيزياء لجميع العصور، وقد خصَّص الخازني جُلَّ وقته لدراسة موضوع السوائل الساكنة، فاخترع آلة لمعرفة الوزن النوعي للسوائل، وناقَشَ ضمن دراسته موضوع المقاومة التي يعانيها الجسم من أسفل إلى أعلى عندما يغمر في سائل، واستخدم الخازني نفس الجهاز الذي استخدمه أستاذه الكبير أبو الريحان البيروني في تعيين الثقل النوعي لبعض الموادِّ الصلبة والسائلة، ووصل الخازني في مقاديره إلى درجة عظيمة من الدقَّة، لفتت انتباه معاصريه ومَنْ تَبِعَهُم[7].

علم السوائلوقد ناقش روبرت هول في مقالة عن الخازني في قاموس الشخصيات البارزة في العلوم كيفية إيجاد الخازني لكثافة الأجسام الصلبة والسائلة، واختراعه ميزانًا لوزن الأجسام في الهواء والماء له خمس كفات تتحرك إحداها على ذراع مدرَّج، ويقول كلٌّ من حميد موراني وعبد الحليم منتصر في كتابهما (قراءات في تاريخ العلوم عند العرب): "لقد سبق الخازني تورشيللي في الإشارة إلى مادَّة الهواء ووزنه، وأشار إلى أن للهواء وزنًا وقوَّة رافعة كالسوائل، وأن وزن الجسم المغمور في الهواء ينقص عن وزنه الحقيقي، وأن مقدار ما ينقصه من الوزن يتوقَّف على كثافة الهواء، وبيَّن أن قاعدة أرشميدس لا تسري فقط على السوائل، ولكن تسري أيضًا على الغازات، وكانت مثل هذه الدراسات هي التي مهَّدت لاختراع البارومتر (ميزان الضغط)، ومفرغات الهواء والمضخَّات، وما أشبه؛ وبهذا يكون الخازني قد سبق تورشيللي، وباسكال[8]، وبويل[9]، وغيرهم"[10].

قوانين الحركة
وإذا ما عددنا قوانين الحركة من بحوث علم الفيزياء، فإن لعلماء المسلمين الفضل في اكتشاف هذه القوانين؛ إذ تكمن أهمية قوانين الحركة في أنها تُعَدُّ صُلب الحضارة المعاصرة، حيث إن كل علوم الآلات المتحرِّكة في العصر الحاضر، ابتداءً من السيارة والقطار والطائرة إلى صواريخ الفضاء والصواريخ العابرة للقارَّات وغيرها، إنما تقوم وترتكز عليها، وبقوانين الحركة غزا الإنسان الفضاء الخارجي، واستطاع أن يهبط على سطح القمر. وقوانين الحركة تُعَدُّ كذلك أساس جميع العلوم الفيزيائية التي تقوم على الحركة؛ فالبصريات هي حركة الضوء، والصوت هو حركة الموجات الضوئية، والكهرباء هي حركة الإلكترونات... إلخ.

علماء المسلمين واكتشاف قوانين الحركة الثلاثة
المشهور عند عموم الناس في الشرق والغرب أن مكتشف هذه القوانين هو العالم الإنجليزي إسحاق نيوتن، وذلك منذ أن نشرها في كتابه المسمَّى (الأصول الرياضية للفلسفة الطبيعية).

وقد ظلَّت هذه هي الحقيقة المعروفة في العالم كله، بل وفي جميع المراجع العلمية -ومنها بالطبع مدارس المسلمين- حتى مطلع القرن العشرين، وذلك حين تصدَّى للبحث جماعة من علماء الطبيعة المسلمين المعاصرين، وكان في مقدمتهم الدكتور مصطفى نظيف أستاذ الفيزياء، والدكتور جلال شوقي أستاذ الهندسة الميكانيكية، والدكتور علي عبد الله الدفاع أستاذ الرياضيات.. فتوفَّروا على دراسة ما جاء في المخطوطات الإسلاميَّة في هذا المجال، فاكتشفوا أن الفضل الحقيقي في اكتشاف هذه القوانين إنما يرجع إلى علماء المسلمين، وأن ما كان دور نيوتن وفضله فيها إلا تجميع مادَّة هذه القوانين وصياغتها، وتحديده لها في قالب رياضي!

وبعيدًا عن العاطفة والكلام النظري المجرَّد؛ فإن جُهد علماء المسلمين في ذلك جاء واضحًا وصريحًا، تدعمه النصوص الكثيرة الموثَّقة في مخطوطاتهم، والتي ألَّفوها قبل مجيء نيوتن بسبعة قرون، ولنحتكم إلى تلك النصوص:

القانون الأوَّل للحركة: يشير القانون الأول للحركة في علم الفيزياء إلى أنه إذا كان مجموع الكَّمِّيَّات الموجَّهة من القوى التي تؤثِّر على جسم ما صفرًا، فسوف يظلُّ هذا الجسم ساكنًا، وبالمثل فإن أي جسم متحرِّك سيظلُّ على حركته بسرعة ثابتة في حالة عدم وجود أيَّة قوى تؤثِّر عليه، مثل قوى الاحتكاك. وقد جاء ذلك في قالب نيوتن الرياضي حيث قال: "إن الجسم يبقى في حالة سكون أو في حالة حركة منتظمة في خطٍّ مستقيم ما لم تُجبره قوى خارجيَّة على تغيير هذه الحالة".

وإذا جئنا إلى علماء المسلمين ودورهم في ذلك؛ فإن الشيخ الرئيس ابن سينا في كتابه (الإشارات والتنبيهات) صاغ ذلك بلفظه فقال: "إنك لتعلم أن الجسم إذا خُلِّي وطباعه، ولم يَعْرِضْ له من خارجٍ تأثيرٌ غريبٌ، لم يكن له بُدٌّ من موضع معيَّن وشكل معيَّن، فإن في طباعه مبدأ استيجاب ذلك، وليست المعاوقة للجسم بما هو جسم، بل بمعنى فيه يطلب البقاء على حاله".

والواضح لنا من النصِّ السابق أن تعبير ابن سينا للقانون الأول للحركة يمتاز عن تعبير إسحاق نيوتن الذي جاء بعده بأكثر من ستَّة قرون؛ وفيه يؤكِّد على أن الجسم يبقى في حالة سكون أو حركة منتظمة في خطٍّ مستقيم ما لم تجبره قوى خارجيَّة على تغيير هذه الحالة؛ بما يعني أن ابن سينا هو أول من اكتشف هذا القانون!

القانون الثاني للحركة: وهذا القانون يربط بين مجموع القوى المؤثِّرة على الجسم وعلى زيادة سرعته، وهو ما يُعرف بالعجلة، وتكون العجلة متناسبة مع حجم القوَّة وفي نفس اتجاهها، ويُعتبر ثابتُ هذا التناسب بمنزلة كتلة الجسم (ك).

وقد جاء ذلك في قالب نيوتن الرياضي حيث قال: "إن القوَّة اللازمة للحركة تتناسب تناسبًا طرديًّا مع كلٍّ من كتلة الجسم وتسارعه، وبالتالي فإنها تُقاس كحاصل ضرب الكتلة × التسارع، بحيث يكون التسارع في نفس اتجاه القوَّة وعلى خطِّ ميلها".

وإذا جئنا إلى علماء المسلمين، فلك أن تتأمل -مثلاً- قول هبة الله بن ملكا البغدادي (480-560هـ/ 1087-1164م) في كتابه (المعتبر في الحكمة)؛ حيث يقول: "وكل حركة ففي زمان لا محالة، فالقوة الأشدُّ تُحرِّك أسرع وفي زمن أقصر... فكلَّما اشتدَّت القوَّة ازدادت السرعة فقصر الزمان، فإذا لم تتناهَ الشدَّة لم تتناهَ السرعة، وفي ذلك تصير الحركة في غير زمان أشدَّ؛ لأن سلب الزمان في السرعة نهاية ما للشدَّة". وفي الفصل الرابع عشر الموسوم (الخلاء) قال بلفظه: "تزداد السرعة عند اشتداد القوَّة, فكلما زادت قوَّة الدفع زادت سرعة الجسم المتحرِّك, وقصر الزمن لقطع المسافة المحدَّدة". وهو بالضبط ما نسقه نيوتن في قالبه الرياضي، وأسماه القانون الثاني للحركة!!

القانون الثالث للحركة: وهو يعني أنه إذا تفاعل جسيمان، فإن القوَّة التي يؤثِّر بها الجسيم الأول في الجسيم الثاني (تسمَّى قوَّة الفعل) تساوى بالقيمة المطلقة، وتعاكس بالاتجاه القوَّة التي يؤثِّر بها الجسيم الثاني في الأول (تسمَّى قوَّة رد الفعل). وقد صاغ نيوتن ذلك القانون في قالبه الرياضي فقال: "لكل فعل ردُّ فعل، مساوٍ له في المقدار ومضادٌّ له في الاتجاه".

وقبله بقرون، وفي كتابه (المعتبر في الحكمة) أورد أبو البركات هبة الله بن ملكا ما نصُّه: "إن الحلقة المتجاذبة بين المصارعين لكل واحد من المتجاذبين في جذبها قوة مقاومة لقوة الآخر، وليس إذا غلب أحدهما فَجَذَبَهَا نحوه يكون قد خلت من قوة جذب الآخر، بل تلك القوة موجودة مقهورة، ولولاها لما احتاج الآخر إلى كل ذلك الجذب".

وهو نفس المعنى الذي ورد أيضًا في كتابات الإمام فخر الدين الرازي[11] في كتابه (المباحث المشرقية في علم الإلهيات والطبيعيات) حيث يقول: "الحلقة التي يجذبها جاذبان متساويان حتى وقفت في الوسط، لا شكَّ أن كل واحد منهما فعل فيها فعلاً معوَّقًا بفعل الآخر".

بل إن ابن الهيثم كان له نصيب منه أيضًا، حيث قال في كتابه (المناظر): "المتحرِّك إذا لقي في حركته مانعًا يمانعه، وكانت القوة المحرِّكة له باقية فيه عند لقائه الممانع، فإنه يرجع من حيث كان في الجهة التي منها تحرَّك، وتكون قوَّة حركته في الرجوع بحسب قوَّة الحركة التي كان تحرَّك بها الأوَّل، وبحسب قوَّة الممانعة".

ولا ريب -بعدُ- في أن ما أورده علماء المسلمين في هذه النصوص هو أصل القانون الثالث للحركة، والذي صاغه نيوتن بطريقته بعد أن استولى على مادَّته!!

د. راغب السرجاني

فضل المولي عبد الرحيم النور

fdlalmola
موقع متخصص في الفيزياء والرياضيات الشهادة السودانية »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

77,591