الصدق في القول وفي العمل .. للداعية الإسلامي : الأستاذ عبد الكريم مطيع الحمداوي ...



قال الله تعالى :

(وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) التوبة 118،

ثم خوطبوا توجيها وهداية إلى سبيل الرشاد والفلاح بقوله تعالى :

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) التوبة 119.


هذه الآية الكريمة نزلت في ثلاثة من الأنصار تخلفوا عن غزوة تبوك، ولم ينفروا فيها للجهاد إذ استنفرهم الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وهم كعب بن مالك ومُرارة بن الربيع العامري وهلال بن أمية الواقفي، وكانوا ضمن نيف وثمانين مسلما لم يخرجوا للمشاركة في هذه الغزوة.وبعد عودة الرسول عليه السلام وسؤاله إياهم جادل كل متخلف عن نفسه بعذر، فقبل منهم صلى الله عليه وسلم أعذارهم واستغفر لهم الله ووكل نواياهم إليه سبحانه، إلا هؤلاء الثلاثة فقد صدقوه الجواب وبينوا له أنهم لا عذر لهم، فأرجأ عليه السلام قبول توبتهم، وأمرهم بملازمة بيوتهم واعتزال نسائهم، وأمر المسلمين بمقاطعتهم؛ فتجلى بذلك إيمان الثلاثة وامتثالهم، وإيمان المجتمع الإسلامي وانضباطه في أنصع الصور إشراقا ونورانية. ودام هذا الاختبار النبوي خمسين ليلة توجت بنـزول توبتهم قرآنا يتلى أبد الدهر (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) التوبة 118، ثم خوطبوا توجيها وهداية إلى سبيل الرشاد والفلاح بقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) التوبة 119.وظاهر الآية أن الأمر بالتقوى والكون مع الصادقين للمسلمين كافة على الإطلاق والعموم وجوبا، وليس خاصا بالثلاثة الذين خلفوا؛ كما أن فيها ما يفيد الزجر عن فعل ما ارتكب من تخلف عن الجهاد بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ) في عدم الامتثال والطاعة للأمر النبوي، وما يفيد المقصود من التقوى وهو وجوب الكون مع الرسول وأصحابه واجتناب الكون مع المنافقين الذين مكثوا في بيوتهم ولم يخرجوا للجهاد بقوله: (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ).ولفظ \" التقوى \" مشتق من جذره \" وقى \" الذي يدل على دفع شيء عن شيء بغيره، و\"الوقاية \" من وقى الشيء يقيه وقاية ووقيا أي صانه وحماه وحفظه، ومنه قوله تعالى: (وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ ) الرعد34 أي من دافع، وقوله (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ) البقرة34، وقوله : (هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَة ) المدثر 56 أي أهل أن يتقى غضبه وعقابه وعذابه.وفي الحديث الذي أخرجه البخاري: (اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ ) ، أي احذروا النار واجعلوا بينكم وبينها صدقة ولو بشق تمرة . وما أخرجه مسلم (إِنَّمَا الْإِمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ وَيُتَّقَى بِهِ ) أي يدفع به العدو ويتقى بقوته، ومنه قول الإمام علي رضي الله عنه :( كُنَّا إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ وَلَقِيَ الْقَوْمُ الْقَوْمَ اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا يَكُونُ مِنَّا أَحَدٌ أَدْنَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْهُ ) ابن حنبل، أي جعلناه وقاية لنا وقمنا خلفه واستقبلنا به العدو.أما لفظ \" الصدق \" فحروفه الصاد والدال والقاف أصل يدل على قوة في الشيء قولا أو عملا، من قولهم \"رمح صَدْق\" – بفتح الصاد وسكون الدال – أي صُلب؛ ومنه \" رجل مَصْدَق\" أي شجاع صادق الحملة صادق السعي والوعد، والصدق في القول ضد الكذب، سمي صدقا لقوته في نفسه ولأن الكذب لا قوة فيه فهو باطل.والصدق في القول هو مطابقة الكلام لضمير القائل وللشيء المخبر عنه معا . فإن انخرم أحد الشرطين بأن لم يطابق ضمير المتكلم أو لم يطابق حقيقة المخبر عنه لم يكن صدقا تاما، من ذلك قول المنافقين يما حكاه القرآن عنهم: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ ) المنافقون 1، فقد أكذبهم الله تعالى بقوله:(وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) المنافقون 1؛ كما أن للصدق والكذب معنى خفيا ينبغي أن ينتبه له الصادقون في تعاملهم مع بعضهم ، وذلك حين تكون الحاجة للنصح أو البيان، فيكون الكلام صدقا إن تضمن نصحا أو بيانا أو توضيحا، ويكون السكوت وإخفاء ما يفيد الدعوة أو يضرها كذبا وغشا وخداعا وتمويها وخيانة. ولذلك كان الأمر بالصدق التام الناجز المطابق للضمير ولحقائق الأشياء المخبر عنها ماضيا وحاضرا واستقبالا، وكان معنى قوله تعالى:( وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) اصدقوا والزموا الصدق وكونوا مع أهله تنجوا من التهلكة وتجعلوا بينكم وبين غضب الله تعالى وعقابه وقاية. لقد كانت المخالفة في تبوك كبيرة، والذنب عظيما، ولكن الأنصاريين الثلاثة صدقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم واعترفوا بجريرتهم، ولم يلجؤوا للمراوغة بالأعذار الواهية، ومع ذلك ووجهوا بحزم وشدة دون سائر المخالفين، لأن الذنب يعظم بعظم مرتكبه والعقوبة كذلك بحسب رتبة المذنب، ألم يخاطب الله تعالى أمهات المؤمنين بقوله:( يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً ) الأحزاب 30 (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ ) الأحزاب 32؟؛ كذلك الثلاثة المخلفون كانت مكانتهم بين الأنصار والمهاجرين عالية، وسابقتهم في الإسلام والجهاد والبذل مكينة، لذلك أخضعهم الله تعالى لاختبار شديد، ووضعهم في بوتقة أشرف المعادن، تذيب مادتهم وتجلو حقيقتهم وتكشف مكنون إيمانهم، وتبتلي بهم في نفس الوقت مجتمع المسلمين، تربية وتثبيتا وتأسيا وتدريبا لهم على التجرد لدينهم، فصمد الثلاثة للاختبار بمقاطعة الناس لهم واعتزال نسائهم خمسين يوما، وامتثل المجتمع الإسلامي للأمر النبوي بمقاطعتهم، فلم تثر فيه عصبية قبلية أو عرقية أو عائلية أو زوجية؛ وإنما شع إيمان الجميع، وأشرقت الوجوه بعبادة الامتثال والانصياع، حتى إذا تجلى للكون نموذج الأمة الجديدة الخاتمة لأمم الإيمان والإحسان، تجلى ربك عز وجل عليهم بالتوبة واللطف والرحمة والمغفرة، ونزل ذلك قرآنا يتلى أبد الدهر في ملأ الأرض وملأ السماء( لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) التوبة117- 118 .لقد اجتمعت في هذه الحادثة كل ظروف التشديد: علو مرتبة المخالفين، وعظم الذنب، وحزم الرسول صلى الله عليه وسلم في المعالجة، وكون غزوة تبوك مفصلا هاما في مسيرة الإسلام لأنها آخر الغزوات، تتم بها التربية الجهادية ويطهر بها الصف الجهادي، وأن ظروفها القتالية من الشدة والعنت سماها القرآن الكريم \" ساعة العسرة\"، لما نال المسلمين فيها من عسرة المسافة وعسرة الحر وعسرة السير والقتال وقلة الزاد والظهر (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ) التوبة117. وقد وصف عمر بن الخطاب حال المسلمين فيها فيما أخرجه ابن حبان والبيهقي والحاكم وصححه، عن ابن عباس أنه قال لعمر: حدثنا عن ساعة العسرة، فقال عمر: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلا فأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر: يا رسول الله إن الله قد عودك في الدعاء خيرا فادع لنا، فرفع يديه فلم يرجعها حتى قالت السماء فأهطلت ثم سكبت، فملؤوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر.وبعد نزول قبول توبة الثلاثة الذين خلفوا خوطبوا بنوع من الالتفات إلى عموم المسلمـين بقولـه تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ )؛ وهذا الأمر الإلهي بالتقوى ولزوم الصدق وأهله بعد قصة الثلاثة الذين نفعهم صدقهم وذهب بهم عن منازل المنافقين، وجعلهم قدوة وأسوة، وخلد ذكرهم في الملأ الأعلى، يعد خير علاج للصف المسلم وأقوم طريقة لحماية المجتمع وصيانته في الدنيا من الانحراف وفي الآخرة من غضب الله وعقابه. وقد فسر القرآن الكريم المقصود من الصادقين الذين تجب مرافقتهم ولزوم صفهم بقوله تعالى: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) البقرة177، وقوله:( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ) الأحزاب 23.وحق على من فهم وعقل عن الله أن يلازم الصدق في الأقوال، والإخلاص في الأعمال، والصفاء في الأحوال والمقاصد والعزائم، قال صلى الله عليه وسلم: ( إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًا وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا) البخاري .إن الصدق إيمان وبر وإحسان، وأهله في أعلى درجات الجنة بعد النبوة كما قرر القرآن ذلك (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً ) النساء 69.وإن الكذب عار وشنار، وأهله في أدنى دركات المنافقين والأشقياء والمحرومين، مخرومة عدالتهم مردودة شهادتهم (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ ) الزمر60، وقد روي أن النبي عليه السلام رد شهادة رجل في كذبة كذبها، قال معمر:( لا أدري أكذب على الله أو كذب على رسوله أو كذب على أحد من الناس) - من رواية معمر عن موسى بن أبي شيبة مرسلا، السنن الكبرى للبيهقي ومسند ابن راهويه - ، وقال الإمام مالك رضي الله عنه: ( لا يقبل خبر الكاذب في حديث الناس وإن صدق في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ) وسئل شريك بن عبد الله فقيل له:( يا أبا عبد الله، رجل سمعته يكذب متعمدا أأصلي خلفه؟) قال:( لا )،.إن الكاذب لا تقبل شهادته ولا خبره لأن قبول الشهادة تزكية عظيمة لا تكون إلا لمن كملت فضائله وطابت خصاله، ولا خصلة أدنى وأحقر من خصلة الكذب. يؤيد ذلك ويشرحه ما روي من أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إني رجل أريد أن أؤمن بك إلا أني أحب الخمر والزنا والسرقة والكذب، والناس يقولون إنك تحرم هذه الأشياء ولا طاقة لي على تركها بأسرها، فإن قنعت مني بترك واحدة منها آمنت بك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اترك الكذب )، فقبل ذلك ثم أسلم، فلما خرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم عرضوا عليه الخمر فقال: إن شربت وسألني الرسول عن شربها وكذبت نقضت العهد، وإن صدقت أقام علي الحد، فتركها؛ ثم عرضوا عليه الزنا فجاءه ذلك الخاطر فتركه، وكذا في السرقة، فعاد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: ما أحسن ما فعلت، لما منعتني عن الكذب انسدت أبواب المعاصي على، وتاب عن الكل- التفسير الكبير للرازي16/221 -.ويكفي الصدق فضلا وشرف منزلة وعلو درجة أن الإيمان منه، أي أن الإيمان الحق لا يصدر إلا عن صدق النية وصدق القول والعمل، وأن الكفر من الكذب، كذب النية والقول والعمل، ولذلك نفى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون المؤمن كذابا في الحديث الذي رواه الإمام مالك في الموطأ ( قيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ جَبَانًا فَقَالَ نَعَمْ فَقِيلَ لَهُ أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ بَخِيلًا فَقَالَ نَعَمْ فَقِيلَ لَهُ أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ كَذَّابًا فَقَالَ لَا )، وقال أيضا( إِنَّ شَرَّ الرَّوَايَا رَوَايَا الْكَذِبِ وَلَا يَصْلُحُ مِنْ الْكَذِبِ جِدٌّ وَلَا هَزْلٌ ...) الدارمي.إن الصدق المأمور به ليس صدق القول فقط، ولكنه أيضا صدق الإيمان وإخلاصه وصدق القول وصوابه وصدق الدين وصلابته، ألا ترى أن العرب تقول: رجل صدق، أي قوي العقيدة نية وقولا وعملا وعزيمة وقصدا، في جميع حالاته، حالات الرضا والغضب والمحبة والسخط والجد والهزل، حالات مدارات السفهاء، والانتصار للحق في حوار العقلاء، أو للنفس عند رد عدوان الجهلاء.وإذا كان الأمر بالكون مع الصادقين للوجوب، ثارت إشكالية أخرى هي أنه لابد من وجود جماعة الصدق في كل عصر، وإلا كان الأمر في غير محله ! ، فكيف الاهتداء إليها لمرافقة أهلها والانصهار في صفهم؟يجيب القرآن الكريم على هذا التساؤل بقوله تعالى:( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) آل عمران104، ويشرح الرسول الكريم ذلك بقوله: (لَا يَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُون ) البخاري، وهذا يجعل الأمة الإسلامية معصومة عن الخطأ، ويجعل إجماعها حجة تشريعية في مجال استنباط الأحكام، والإجماع على الباطل متعذرا؛ كما ورد في الحديث الذي أخرجه الترمذي (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ الْبَصْرِيُّ حَدَّثَنِي الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ الْمَدَنِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَجْمَعُ أُمَّتِي أَوْ قَالَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ضَلَالَةٍ وَيَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ وَمَنْ شَذَّ شَذَّ إِلَى النَّارِ ) ، وكلما حاول أهل الباطل تزييف الشريعة الإسلامية بادعاء الإجماع على الباطل، تصدت لهم طائفة الصدق والرشد والهدى التي أشار إليها الرسول صلى الله عليه وسلم، تصدع بالحق وتخرم إجماع الباطل وتسفهه.وتبقى في الأمر إشارة أخرى واضحة مكملة لمفهوم خلق الصدق، وردت في ما تلا هذه الآية، هي قولـه تعالى:( مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ) التوبة120، وتعني وجوب فداء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنفس والمال والأهل والولد، وعدم البخل بذلك دفاعا عنه، لاسيما عند تعرض النبوة الخاتمة للخطر، إذ النكوص عن الفداء في هذه الحالة نفاق خالص وخذلان للإسلام وأهله لا شك فيه. لكن بعد التحاق الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى كيف يبقى هذا الواجب قائما؟، إنه إذا غاب صاحب الرسالة فالرسالة باقية مستمرة لم تغب، وكتاب الله والسنة النبوية بين أظهرنا، وفداء صاحب الرسالة يكون بمحبة الكتاب والسنة، والعمل بهما ونشرهما والدفاع عنهما، وهذا هو الصدق المبرأ من كل عيب، الخالص عن كل شين، السليم من كل خلل.
المصدر: فواز شراحيلي (مديرإدارة اعمال)
  • Currently 35/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
9 تصويتات / 315 مشاهدة
نشرت فى 20 فبراير 2011 بواسطة fawaz0544854485

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

31,887