الأتراك والأكراد ... دموع ودماء
جريدة النور - السنة الثانية عشرة - العدد 565 - الأربعاء 30 كانون الثاني 2013
شكّلت القضية الكردية صداعاً مزمناً للحكومات التركية المتعاقبة منذ تأسيس الجمهورية التركية سنة 1923 وحتى الآن، ذلك أن العقلية التركية لم تستطع حتى هذه اللحظة أن تحقق الاستقرار والعدالة في البلاد وذلك عن طريق الاعتراف بالآخر. هذه العقلية المتجذّرة في تركيا، منذ تأسيس الجمهورية على يد مصطفى كمال أتاتورك وحتى عهد العثمانيون الجدد بقيادة أردوغان، قد تؤدي إلى اصطباغ المسرح السياسي التركي مجدداً بالدماء والدموع. وذلك لأن الأتراك حتى الآن لم يعرفوا بعد كيف يعيشون مع أخوتهم في الوطن متساويين في الحقوق والمواطنة والهوية والإنسانية، ومع محيطهم الجغرافي بسلام وتناغم.
فقد اعتمدت الحكومات التركية المتعاقبة سياسة التذويب والإلغاء والإقصاء وإنكار الحقوق السياسية والثقافية للمكونات العرقية والدينية في تركيا، وفي سبيل تحقيق ذلك عملت على إحراق القرى وتهجّير السكان ومنعهم من التحدث بلغتهم الأم "الإكراد والأرمن والسريان، أما العلويين فالحكومة التركية حتى الآن لا تعترف بمراكز عبادتهم المعروفة باسم "بيوت الجمع" كمراكز عبادة دينية". وذلك بهدف إنشاء مجتمع أحادي الهوية على النمط النازي والفاشي. ذلك أن معظم البلدان والكيانات التي نشأت بعد الحرب العالمية الأولى تغلبت النزعة القومية لدى الأكثرية على طبيعة السلطة وممارساتها فكانت سياسة إقصاء الأقليات وتهميشها وصولاً إلى محاولة إلغائها بالعنف. والأقليات عموماً والأكراد خصوصاً في تركيا كانوا ضحية سياسات تدميرية غير مسبوقة ولاسيَّما في عهد مصطفى كمال أتاتورك وفي فترة التسعينيات من القرن المنصرم. وتشير جميع الدراسات والتقارير إلى استبداد الذهنية القومية كانت تتقدم على ما كل ما عداه ولم تتغير حتى في التفاصيل "الصغيرة" مثل منع استخدام أحرف للكتابة غير موجودة في الأبجدية التركية.
مذبحة ديرسيم وبداية سياسة "التجانس الثقافي"
بين عامي 1937 و1939 وقعت مذبحة ديرسيم، في المنطقة التي تسمى الآن تونجيلي، وراح ضحيتها الآلاف من أفراد الطائفة العلوية والأكراد الزازيين وشُرد الكثيرين من مناطع إقامتهم. ويعتبر الأتراك(1) إن ما حدث كان بسبب المقاومة المسلحة التي أبداها رؤساء الإقطاع المحلي المعروفين اختصاراً باسم AGAS ضد قانون إعادة التوطين(2) الذي نفذته حكومة تركيا في عهد الرئيس التركي عصمت إينونو، بينما تعتبر أقليات المنطقة إن ما جرى في ديرسيم هو جريمة إبادة جماعية أو إبادة عرقية نُفذت عن سابق إصرار وتصميم، ويستشهدون على ذلك بأن السيد رضا، والذي يعتبر قائد الحركة المسلحة في مدينة ديرسيم وستة أخرون، قد أُعدِموا من قبل السلطات التركية في 19 تشرين الثاني من العام 1938، بتهمة التمرد ضد الدولة، في مدينة الازغ التي توجّهوا إليها لإجراء مفاوضات سلام لإنهاء الاقتتال الدائر في المنطقة. واستخدمت القوات التركية بقيادة الجنرال عبدالله البدوغان شتى الأسلحة(3) بما فيها الكيماوية الأمر الذي أدى الى مقتل أكثر من 60 الف شخص حسب احصائيات غير رسمية لكن الأرقام الرسمية تشير الى مقتل 13 ألفا و806 أشخاص وتم إخلاء المدينة من سكانها الذين رُحِّلوا الى مناطق مختلفة من تركيا.
مذبحة ديرسيم إعادة تسليط الضوء على المآسي التي تعرضت لها بنات الأقليات في تركيا، فبعد عرض فيلم بنات ديرسيم المفقودات عام 2009 للمنتج كاظم غوندوغان والذي أحدث رد فعل عنيف في المجتمع التركي، بدأ الناجون من المذبحة بالتحدث علانية عما جرى في تلك المذبحة التي استمرت عامان متتاليان. وقصة الفلم بدأت عندما قررت السيدة آصليهان كيريمتشيان (فاطمة يافوز) إحدى الناجيات من المذبحة الخروج عن صمتها الذي استمر 72 عاماً أخبرت أولادها بقصتها الحقيقية. عندها بدأ أولادها برحلتهم في محاولة التعرف على جذور والدتهم، ونجحوا في العثور على بعض أقارب والدتهم الذين تناثروا في مختلف بقاع الأرض، واتصلوا فيما بعد بفريق عمل الفيلم الوثائقي (بنات ديرسيم المفقودات) ليصبح من الممكن القيام بالبحث بشكل أوسع.
مأساة آصليهان(4)
كانت آصليهان بين الخامسة والسادسة من العمر عندما جمع الجنود الأتراك الناس في قرية هالفوري فانك الأرمنية بمنطقة درسيم وقاموا بذبحهم أمامها. وعلى حد قولها فإن "رجلاً مسلحاً" خبأها في مستودع للحنطة ورأت آصليهان من مخبأها كيف قام الجنود الأتراك بقتل الناس. أثناء الهجرة التي بدأت بعد المذبحة ركبت آصليهان مع عمتها إهسا وأبنائها الثلاثة القطار وتم ترحيلها الى قضاء باهشهير حيث سُميت آصليهان بفاطمة وخبأوا أبناء عمتها ميشان وأبكار ومراد وقاموا بختانهم.
زوّجوا آصليهان في عمر الثالثة عشر برجل تركي يبلغ الخامسة والثلاثين. ولم تفصح آصليهان عن أصلها مدة طويلة وكانت مجبرة على تغيير إسمي والديها المتوفيين من هاكوب الى أيوب ومن هافاس الى هوى "حواء". في الوقت الحاضر بدأت المفقودات بالبحث عن بعضهن البعض والتكلم عن قصتهن. وقد تم العثور حتى الآن على 150 بنتاً مفقودة، ولكن قصة آصايهان كانت الأكثر ألماً. كانت أغلبية المفقودات من أصل علوي وكردي وكرمانجي، أما آصليهان فكانت إبنة عائلة أرمنية متنفذة. آصليهان التي تعيش الآن في مدينة سبارتا التركية، تابعت سرد قصتها الحزينة قائلة: "في باهشهير سلموني لعقيد. عندما عينوه في منصب آخر سلموني لمدير يعنى بشؤون قيد المدنيين. كان أفراد عائلته يضربونني بالعصا يومياً وبالنتيجة كسروا أصابعي. هربت من الاضطهادات. وفيما بعد أخذتني عائلة قامت باضطهادي مجدداً. في الثالثة عشر زوجوني برجل يبلغ الخامسة والثلاثين وقبل الزواج أجبروني على أن اعتنق الاسلام وأحلف على القرآن. بعدها استمرت حياتي بالجوع والعطش والعنف. كنت طفلة بدون مأوى وأقارب. كبر أولادي في الشوارع. كنت أعلم أنني أرمنية، ولكن لم أفصح عن ذلك. علم أولادي بأنني أرمنية في عام 1995 وبدءوا بالبحث عن أفراد أسرتي الباقين على قيد الحياة، ولكن بدون نتيجة. في عام 2010 عثرت إبنتي على شجرة عائلتي. آنذاك علمت بأنهم غيروا اسمي وشهرتي، علمت أن والدي كان مواطناً أرمنياً صالحاً في الدولة وكان راعي كنيسة قرية هالفوري فانك. قاموا بترّحيله الى منطقة بولوي مينغيه حيث توفي. منتج الفيلم كاظم غوندوغان بصدد إعداد كتاب عن"بنات درسيم المفقودات" سيتضمن قصص لي 150 فتاة من ديرسيم نجت من المذبحة، حيث لكل واحدة من هذه الفتيات قصة مأسوية عن كفاحها ونضالها في سبيل الحياة.
حزب العمال الكردستاني وبداية الكفاح المسلّح
في 27 تشرين الثاني 1978 تأسس حزب العمال الكردستاني PKK، وهو حزب ذو توجّه ماركسي لينيني ومن أهم أهدافه تأسيس دولة كردستان الكبرى. وقد تحول الحزب بسرعة من مجموعة قليلة من الطلاب الماركسيين غير المؤثرين في الساحة السياسية الكردية في تركيا، إلى أهم تنظيم سياسي يقود عملاً مسلحاً يحظى بتعاطف الكثير من كرد تركيا وخصوصاً في أوساط العمال والمثقفين والفلاحين.
منذ عام 1984 بدأ حزب العمال الكردستاني نشاطه العسكري في مناطق جنوب شرق تركيا ذات الأغلبية الكردية، وقد أعانت تضاريس المنطقة الوعرة مقاتلي الحزب في نضالهم ضد الجيش التركي. واتخذ الحزب من جبال قنديل الواقعة في شمال العراق ذو الأغلبية الكردية، قاعدة الانطلاق والملاذ الآمن لمقاتليه وكبار كوادره السياسية والعسكرية، بعد أن تحالف حزب العمال الكردستاني مع الحزب الديمقراطي الكردستاني في العراق بزعامة مسعود البارازاني.
وشهد عقدا ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي أكثر فترات الصراع بين الأكراد والجيش التركي دموية، فقد قام الجيش التركي بتعقب المسلحين. وفي أثناء ذلك قامت القوات التركية بتدمير آلاف القرى الكردية وتهجّير العديد من الأسر من مناطق سكنها إلى الداخل التركي. كما تذهب بعض الإحصاءات إلى أن مجموع من قُتِلوا في هذا النزاع قد بلغ ما يقارب الأربعين ألف شخص حتى الآن، وترافق ذلك مع تدمير حوالي 6000 قرية كردية وتهجير أهلها إلى مناطق تركيا الداخلية. هذا الصراع كلّف الحكومة التركية حوالي 500 مليار دولار، مع أن مثل هذا الرقم كان كافياً لإحداث نهضة حقيقية شاملة في المناطق الكردية التي تتميز بالفقر وانعدام التنمية والخدمات مقارنة بالمناطق التركية، إلا أن أنقرة فضلت الحديد والنار في محاورة الأكراد.
مع إخفاق تركيا في القضاء على حزب العمال الكردستاني، كانت النتيجة كانت إطالة الحرب وهدر المزيد من الدماء والأرواح والأموال وتعميق الجروح وزيادة الشرخ بين الأتراك والأكراد.
من هنا يمكن القول: إن القضية الكردية في تركيا تتلخص في النقطتين التاليتين، الأولى وهي غياب إرادة تركية في حل هذه القضية سلمياً، فتركيا ولاسيما في عهد أردوغان تتحدث عن انفتاح من دون أن تقترب من جوهر القضية وتحاول حلها، فهي حتى الآن لا تعتمد إلا على الحل الأمني وخطابات التجيش القومي التي تزيد من حدّة التوتر في البلاد. وحتى الآن قد فشلت الحكومات التركية المتعاقبة في إبداء التعاطف مع ضحايا النزاع المدنيين من الأقليات، وفشلت إيضاً في أن تحدد مع من ستتحاور بشأن مطالب الأكراد، وهي تدرك في العمق أن لا محاور فعلياً بين أكراد تركيا سوى حزب العمال المصنف في خانة الإرهاب تركياً ودولياً وهي حتى الآن تتهيب من فتح حوار مباشر معه. أما النقطة الثانية، فقد أثبتت التجربة التاريخية للصراع عقم النهج العسكري والأمني في إيجاد حل لقضية تاريخية تخص شعب محروم من أبسط حقوقه ويعيش على أرضه التاريخية.
الخطر الذي تعتقد تركيا أن محدق بها وتريد تجاوزه، يفترض منطقياً أن تعيد أنقرة ترتيب بيتها الداخلي وتعيد تنشيط مسار الإصلاحات السياسية الذي يعالج مشاكل وأوجاع وأحزان الأكراد وباقي الأقليات في تركيا كمقدمة لإستراتيجية لحل الصراع طويلة الأمد. وكان أردوغان قد بدأ بسياسة "الانفتاح الديمقراطي" عام 2005 والذي حقق نجاحات لا بأس بها، لتتعثر هذه الجهود عام 2009. وكانت حكومة أنقرة قد بدأت حواراً مع حزب العمال في عام 2005 أيضاً لتعود وتنسحب منه عام 2011.
ومع تورط الحكومة التركية في الأزمة السورية وتزايد أعداد المجموعات المتطرفة التي بدأت بالتمركز على الحدود التركية السورية، بدأت الأقليات على طرفي الحدود تشعر بمخاوف وتتحسب لمخاطر جدية الناجمة عن هذا الوضع الجديد. هذا الشعور بالخوف بدأ يساهم في دفع الحراك الداخلي في تركيا، حيث بدأت الاحتكاكات والصدامات بين المواطنين الأكراد والأقليات الدينية الأخرى وبين مجموعات تابعة للمعارضة السورية داخل الحدود التركية وخصوصاً في لواء اسكندرون المحتل. وكان لتورط جهاز الاستخبارات العامة التركي بقيادة هاكان فيدين، المقرّب من أردوغان، بتسهيل مرور المجموعات المتطرفة والأصولية ومنهم عناصر تابعة لتنظيم القاعدة من دول عديدة إلى سورية، ودعم الحكومة التركية لأطراف متشددة في المعارضة السورية حوّلت الأزمة في سورية إلى "حرب طائفية"، بمثابة جرس الانذار للمؤسسة العسكرية التركية "ذات الميول العلمانية" التي بدأ القلق لديها يزداد وخلافها مع الحكومة ذات الميول الإسلامية والنزعة الامبراطورية يتسع. حيث يتخوف الجيش التركي من اللغم الكردي وقنبلة الأقليات اللذين إذا ما انفجرا مجدداً فسيشكلان تهديداً أمنياً حقيقياً للبلاد، لأن تأثيره سيطاول مناطق جنوب شرق تركيا "كليكيا" ولواء إسكندرون المحتل حيث الأغلبية السكانية هي للأكراد والأقليات.
الهوامش:
1- اعتذر رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان الأربعاء23/11/2011، باسم الشعب التركي عن مجازر مدينة ديرسيم التي تقطنها أغلبية من الأكراد العلويين بين 1937 و1939. وذكرت وكالة أنباء الأناضول ان أردوغان عرض وثائق تعود لآب 1939 تتضمن تفاصيل حول العمليات في ديرسيم التي راح ضحيتها 13 ألف شخص بين 1936 و1939، ووصف رئيس الوزراء التركي مجازر ديرسيم بأنها "أكثر حادث مأساوي في الماضي القريب". وقد اعتبر مراقبون أن هذا الاعتذار سياسي و موجّه بالدرجة الأولى ضد حزب الشعب الجمهوري على اعتبار أن أحداث ديرسيم حدثت عندما كان حزب الشعب الجمهوري في السلطة.
2- في العام 1934، صدر قانون في تركيا لإعادة التوطين، الذي هدف لاستيعاب الأقليات العرقية والقومية داخل البلاد. تدابيره شملت النقل القسري للسكان داخل البلد، وذلك لتعزيز التجانس الثقافي "سياسة التتريك الإجباري".
3- وصل الأمر إلى قصف عنيف للمنطقة، حتى إنّ تقارير كثيرة تجزم بأنّ صبيحة غوكشن، الابنة بالتبنّي لمصطفى كمال، شاركت شخصياً كقائدة طائرة عسكرية في قصف درسيم، وهو ما دفع حكام أنقرة إلى إطلاق اسم صبيحة غوكشن على ثاني مطار في إسطنبول (الأول اسمه مطار أتاتورك). وكان الكاتب التركي ـــ الأرمني الشهير الذي اغتيل عام 2007، هرانت دينك، قد بدأ يتعرض لتهديدات منذ نشر مقالاً قال فيه إنّ صبيحة غوكشن جذورها أرمنية وخسرت عائلتها في إبادة عام 1915 فتبنّاها أتاتورك.
4- أصليهان ..الفتاة الأرمنية التي نجت من المجزرة وأسلمت. إسلام أوزكان – إيلاف 21أيار 2012. أيضاُ http://armradio.info/arab/index.php?part=1&id=133717
جاك جوزيف أوسي
نشرت فى 8 إبريل 2013
بواسطة fauze
fawzi fawzi
أقسام الموقع
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
145,340