والعالم المتخيل في الفيلم الوثائقي يمكن له أن يتجاوز الحقيقة أحيانا، بينما لا يمكن تجاوزها في الفيلم الوثائقي لكن قدرة الفيلم الوثائقي على التزييف والتأثير على الرأي العام أقوى من قدرة الفيلم الروائي على ذلك.
ومع أن بعض الباحثين على اعتبار الفيلم الوثائقي مجرد فيلم قصير فحسب، أي أن القصر من خصائصه وحده، ولكن هذا خطأ كبير، حيث أن الفيلم الوثائقي يمكن أن يكون قصيرا أو طويلا، وبالتالي فالطول أو القصر هما ميزة وليس خاصية لهذا النوع من الأفلام شأنه في ذلك شأن الفيلم الروائي، حيث يمكن لهذا الأخير أن يكون طويلا أو قصيرا، وما يحدد ذلك وفي أي نوع من الأفلام هو الموضوع ذاته بالدرجة الأولى، تأتي بعد ذلك طريقة المعالجة، فهما وحدهما يفرضان طول وقصر الفيلم، بغض النظر إن كان فيلما روائيا أو وثائقيا أو غيره.
وعند التعامل مع الحقيقة في أي نوع من الأفلام، لابد من تغيير طفيف في هذه الحقيقة بما يتوافق مع الإخراج والصياغة الفنية، حيث نختار منها ونعطيها صيغة معينة وشكلا فنيا ما.
وهناك نقطتان مهمتان يبنى على أساسهما الفيلم الوثائقي هما: عدم المبالغة في الأحداث من جهة، وأن تكون هذه الأحداث أو المعلومات التي تدرج في الفيلم الوثائقي حقيقية غير مزيفة، أو مصطنعة، من جهة أخرى(2). وقد تطورت هذه النظرية على أيدي بعض المخرجين والمنظرين أمثال(أندريه بازان، روبرت فلاهرتي وغيرهما)، وأخذت شكلا أوسع وأعمق من ذي قبل، فالسينما الوثائقية أصبحت ترتكز على المادة الحياتية، وعلى الظواهر والمواد الموجودة موضوعيا، ” ويكون الواقع في السينما الوثائقية المادة الخام التي يستخرج منها المبدع كل ما هو جديد (مثلما كان يحدث في البدايات)، دون الاكتفاء بنسخ هذا الواقع وعرضه على الشاشة.إذن: السينما الوثائقية هي المعالجة الخلاقة للواقع، حيث أنها تتضمن الجانبين الموضوعي (المعالج)، والذاتي (الخلاق).
كما عرف “ريتشارد ماكان” الفيلم الوثائقي: “إن أصالة الفيلم الوثائقي وقيمته، لا تنبع من اعتماده على مادة من الواقع فقط، بقدر ما ترجع إلى أصالة وتوثيق هذه المادة الواقعية، بمعنى أن الوثيقة هي الأهم عندما تعبر بصدق عن الواقع”(3).
1- ظهور الفيلم الوثائقي وتطوره:
تعتبر سنة 1923 المرة الأولى التي استعمل فيها مصطلح أو مفهوم الوثائقية، وذلك للتعبير عن كل فيلم من خلال الوثائق المأخوذة من الواقع.
وبداية من سنة 1949م تم استخدام مصطلح documentariste “الوثائقية” وهو الاسم الذي يطلق على السينمائيين الذين يخرجون أفلاما وثائقية، وهي السنة كذلك التي انفجر فيها الفيلم الوثائقي بشكل معتبر، وظهرت العديد من الأفلام الوثائقية التي تروي قصصا، وأحقابا تاريخية، وبدأ بعدها الفيلم الوثائقي يأخذ أبعاده كعلم مستقل بذاته، وكفن له مبدعوه.
وقد استخدم الفرنسيون مصطلح Le film documentaire، منذ ظهور اختراع “لويس لونيار” لجهاز التقاط وعرض الصور السينمائية المتحركة سنة 1895م، وذلك لتصوير فلم الرحلات (نقصد بفيلم الرحلات: تصوير المكان الحقيقي الذي يدور حوله الموضوع، وهو واقعي المضمون، قصير الطول، ذو مسحة سياحية، يقدم للمشاهد معلم البيئة، ومناظرها في بلد ما، ومظاهر الحياة الاجتماعية بها”(4) وكان هواة الرحلات أكثر من يقبلون على تصوير “أفلام الرحلات”، بعد اكتشاف آلة التصوير السينمائي بهدف توثيق أوجه نشاطهم، وتسجيل مشاهداتهم، لإعادة عرضها على الأهل والأصدقاء من قبيل التذكار، أما الفيلم الوثائقي هو وثيقة تاريخية، والهدف منها هو المعرفة، لذا سمي كذلك بالفيلم التعليمي. كما سمي أيضا بالفيلم العلمي، والفيلم التدريبي. وبعد حوالي ربع قرن سنة 1920م ظهر التعبير الإنجليزي documentry film، من خلال المخرج الناقد الانجليزي John Grierson حيث ظهر الفيلم الوثائقي للناس بمواصفات محددة. في مقال نشره في جريدة « The New York Sun » الأمريكية سنة 1926م.
ووصف الفيلم الوثائقي بأنه المعالجة الخلاقة للواقع، وميزه عن غيره من الأشكال السينمائية التسجيلية التي أخذت في الانتشار آنذاك. حيث قسم الإنتاج السينمائي الوثائقي إلى مستويين لكل منهما أهدافه.
المستوى 1: هو الذي يرى أنه يجب أن تقتصر عليه تسمية الأفلام الوثائقية، أو التسجيلية، حيث الانتقال والسمو من مجرد الوصف الدقيق للواقع والطبيعة إلى مرحلة إعادة التنظيم والترتيب ثم التكوين الفني لهذه المادة الواقعية الطبيعية.
المستوى 2: يضم بقية الأشكال التسجيلية.
ومن اوائل المخرجين في السينما والرواد الذين عاصروا المخرج “لويس” منهم« Moray » وهو سينمائي تقني، وهو أول من اخترعLa Fusie photographique (الكاميرا).
والمخترع « Méliès » هو من استخدم العناصر السينمائية التالية:
- استخدام Les Décors: وكل ما يتعلق به من أدوات تساهم في إعطاء أبعاد للأستوديو.
- الاستوديوهات.
- العناصر التقنية للخدع السينمائية.
وقد قدمت معظم الأفلام في البداية في قاعات العرض “قاعات الإخوة « Lumière »، ولكنها خرجت بسرعة بعد ذلك إلى الساحات العمومية، وقد تميزت معظم الأفلام من النوع القصير، وقد تناولت الموضوعات المطروحة في ذلك الوقت والتي كانت تشكل “موضوعات الساعة”. اخترع فيما بعد “الروبورتاج المصور” وهو نوع يعتمد على جماليات الصور الفوتوغرافية، وحينها ظهر العديد من الشباب الموهوبين في هذا المجال، مما جعله يتطور بسرعة. وإلى غاية الربع الأول من القرن العشرين أي في بداية 1897م إلى غاية 1925م. كانت 3 شركات سينمائية رائدة تتنافس فيما بينها هي: شركة Biographe، وشركة Vitographe، وشركة Edison.
عند استيلاء الشيوعيون على السلطة في الإتحاد السوفياتي بعد الثورة البلشفية سنة 1917م، إهتم السوفيات بالسينما كظاهرة اجتماعية، وقد كان من الضروري إعادة تنظيمها وفق المبادئ الماركسية فقد أممت السينما عام 1919م وانضمت إلى المؤسسات الشعبية لتصبح الثورة الثقافية جنبا إلى جنب مع الثورة السياسية. فدور السينما منذ ذلك الوقت، أصبح يعكس الحقيقة من منظور شيوعي وأصبح الفنان يلاحظ الحياة وأحداثها ويرصدها، ومن رواد الفيلم الوثائقي في الإتحاد السوفياتي DZIGAVERTOV، بل يعتبر مدرسة مستقلة في مجال الفيلم الوثائقي السوفياتي، نظرا لما قدمه من أعمال أولها فيلمه الشهير « Lang Métrage » سنة 1919 تحت عنوان “عيد ميلاد الثورة ” وقد دام ساعتين ونصف الساعة، أتبع هذا الفيلم بأفلام أخرى إتسمت بالوثائقية، حيث كانت شاهدة عن أحداث حقيقية حول الحرب الأهلية في الإتحاد السوفياتي. وفي سنة 1922 أخرج مجموعة من الشباب المناضلين في الحزب الشيوعي أفلاما أخرى عن الثورة بلإعتماد على وثائق حية عن الثورة أخذت من مكتبة الأرشيف المصورة للثورة البلشفية.
واستمر التطور يلامس الفيلم الوثائقي يوما بعد يوم خاصة مع ظهور المخترعات الجديدة كتطور المونتاج. ودخول الصوت في السينما، حيث اشتغل السينمائيون في الصوت لتحويل إلى سلطة، وتحويل الصورة إلى قوة تأثيرية كبرى، فأصبحت السينما في الولايات المتحدة الأمريكية. كما في ألمانيا وبريطانيا عبارة عن جهاز للسلطة، كما أن الصورة لها القدرة على إيصال الرسائل لجميع الناس. تشترط أن يكونوا مثقفين كما هو الحال بالنسبة للكلمة التي تشترط أن يكون متلقوها متعلمون.
ساحة النقاش