من أسمى ما اهتم به الإسلام قيام الآباء بتربية الأبناء، لكن ليس كل الأبناء يتسنى لهم من يشرف عليهم ويوجههم، بل إن هناك مشكلة أسرية تطرح نفسها في كل مجتمع، وتطل برأسها في كثير من الأسر، ألا وهي مشكلة الأيتام.

والأيتام جمع يتيم، وهو من فقد والده قبل البلوغ، أخرج أبو داود عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يتم بعد احتلام" ومثل الأيتام في المعاناة والأسى: الأطفال الذين غاب عنهم آباؤهم غيبة طويلة، أفقدتهم الشعور بعاطفة الأبوة، وتركتهم يجابهون بأنفسهم مصاعب الحياة.

هذا وقد حث الله تعالى على رعاية اليتم؛ لأنه جزء من قوة الأمة، وعنصر من عناصر الأسرة المسلمة والمجتمع المسلم. قال الله تعالى في سورة البقرة، الآية 220: {ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح}.

وأمر سبحانه بإكرامهم، ونهى عن قهرهم وإذلال نفوسهم، حتى لا ينفروا ممن حولهم فيضيعوا في أنفسهم، ويحقدوا على مجتمعهم ويعادوه. قال تعالى: {فأما اليتيم فلا تقهر} الآية 9 من سورة الضحى.

واعتبر الذين يمنعون اليتيم من حقه أو يدفعونه احتقاراً وزجراً أو يستعلون على جانبه الضعيف تسلطاً وامتهاناً اعتبرهم ممن يكذب بعدل الله ويستخف بجزائه في اليوم الآخر. قال سبحانه في الآية 2 من سورة الماعون: {أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم}.

وهكذا جعل الإسلام بر اليتيم وحسن تربيته والقيام على شؤونه من معالم الإيمان الكامل، وبوأ فاعل ذلك مكانة عالية في جنات النعيم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا- أي متجاورين- وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى" رواه البخاري والترمذي وأبو داود. فمنزلة كافل اليتيم كمنزلة النبي صلى الله عليه وسلم في جنة عرضها السماوات والأرض.

ومما شرعه الإسلام في معاملة اليتيم المسح على رأسه مؤانسة وملاطفة، حتى يشعر بقربه من الناس وحبهم له، لعل هذا يخفف من بلائه ويشحذ عزيمته.

أخرج الإمام أحمد عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من مسح رأس يتيم، لم يمسحه إلا لله، كان له بكل شعرة مرت عليها يده حسنات" وروى الإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمسح رأس اليتيم ثلاثاً ويدعو له بالخير والبر. وأخرج ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم لما علم باستشهاد جعفر بن أبي طالب طلب أن يؤتى بأبنائه إليه، فأتي بهم كأنهم أفراخ، فاحتضنهم وشمهم وذرفت عيناه عليهم ثم أمر بالحلاق فجئ به فحلق لهم رؤوسهم.

إن كفالة اليتيم لا تقتصر على النواحي الغذائية فقط، بل يتسع معناها ليشمل احتضانه وتعليمه والاهتمام بصحته وإعداده نفسياً وتربوياً لمواجهة المستقبل، والأخذ بيده نحو الفضيلة، وتقوية روحه وعقله، وزرع الأمل في نفسه، ومعاملته بصدق وإخلاص، والحرص على مستقبله وسلوكه، كما يكون حرص الأب على مستقبل أبنائه وسلوكهم.

لقد حرص الإسلام على رعاية من لا آباء لهم وإكرامهم، ولم يكتف بالوصية المجردة من أجل ضعفهم، بل إنه فصل وصاياه ووضح أساليب تنفيذها، ودعا إلى ممارستها واستحضار ثلاثة أمور هي من الأهمية بمكان بالنسبة إلى الأيتام، وهذه الأمور هي: الرفق العام بهم، والمحافظة على أموالهم إن كان لهم أموال، والإنفاق عليهم إن لم يكن لهم أموال.

فأما الرفق بمن لا آباء لهم من اليتامى، فقد شدد الإسلام على رعايتهم بالمودة والعاطفة الصادقة، تعويضاً لهم عن بعض ما افتقدوه، وتخفيفاً للمصيبة التي يعانونها وهم صغار لم تقو أعوادهم بعد على مجابهة الحياة وشدائدها، كما منع إيذاءهم والإضرار بهم، أو النظر إليهم نظرات قاسية تنفرهم؛ لأنهم إن تعودوا النظرات الجافية المبغضة، وعودهم لا يزال غضاً طرياً، تولد في نفوسهم النفور من الناس فيكبرون وقلوبهم ممتلئة حقداً على المجتمع؛ لأنهم عاشوا فيه منبوذين، فلا غرابة أن يتولد في أنفسهم الشذوذ والانحراف، والجفوة والعداوة، بدلاً من الألفة والمحبة. ومن هنا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه" رواه ابن ماجه.

وفي سبيل تحقيق هذا النوع من الرفق وتنفيذه رغب الإسلام في مخالطة اليتامى ومؤاكلتهم ودمجهم في المجتمع، ومباركتهم بالمحبة وإشعارهم بقرب الناس منهم. قال تعالى: {قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم} الآية 220 البقرة.

أما الأمر الثاني: وهو المحافظة على أموالهم إن كان لهم أموال ورثوها أو أهديت إليهم، فيتوجب على كافلهم العمل على تنميتها واستثمارها وزيادتها بالبيع والشراء بما يعود عليهم من الربح الحلال، والمال المبارك. قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه الطبراني: "اتجروا في مال اليتيم حتى لا تأكله الصدقة" أي حتى لا ينقص ماله بأخذ الزكاة منه عاماً بعد عام.

ولقد شدد الإسلام في المحافظة على مال اليتيم لئلا يتجرأ أصحاب النفوس الضعيفة على الصغير العاجز، الغافل القاصر. قال تعالى في سورة النساء الآية 9: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً}.

وعد النبي صلى الله عليه وسلم مد اليد بالسوء إلى مال اليتيم من أكبر الكبائر. فقال فيما رواه الشيخان: "اجتنبوا السبع الموبقات –أي المهلكات- قيل: وما هن يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والسحر وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات".

وأما الأمر الثالث المتعلق باليتيم فهو الإنفاق عليه إن لم يكن له مال، فقد أوجب الإسلام نفقته على قريبه الغني؛ لأنها من توابع صلة الرحم، وخصوصاً إذا كان فقيراً محتاجاً. وقد اعتبر القرآن الكريم الإنفاق على اليتيم من أقرب القربات إليه سبحانه ففي سورة البقرة الآية 177: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى}.

وفي سورة البلد الآية من 11-15: {فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسبغة يتيماً ذا مقربة}.

ولم يكتف الإسلام بتلك الدعوات المستمرة إلى إنفاق المال على اليتيم وإطعامه وشراء ما يحتاج إليه، بل نظم ذلك قضائياً وأوجب على أقربائه الأغنياء كفالته والإنفاق عليه إذا لم يكن له مورد يعيش منه، فإذا توانى هؤلاء الأقرباء الأغنياء عن هذا الواجب الديني والاجتماعي، أخذ منهم بالقوة عن طريق القضاء تحقيقاً للتكافل الأسري الاجتماعي.

أما إذا لم يكن لليتيم قريب غني ينفق عليه، فإن نفقته تكون من الخزانة العامة للمسلمين، وهو ما كان يعبر عنه سابقاً ببيت المال. روى الشيخان وأحمد وأبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من ترك مالاً فلورثته، ومن ترك كلاً- أي عيالاً وأسرة- فإلي وعلي" أي يكونون في كفالة الدولة وتحت مسئوليتها.

وهكذا يتضح مقدار اهتمام الإسلام بالأسر التي افتقدت معيليها، والأسلوب الإنساني الذي دعا إلى ممارسته مع أفراد هذه الأسر من اليتامى والضعفاء، حتى يخفف من مصيبة اليتم عنهم، ويكون منهم رجالاً كباراً تتوثق صلاتهم بأمتهم، ويخلصون لها في التضحية والبذل والبناء؛ لأن المسلمين جميعاً كالجسد الواحد.

 

المصدر: هشام ولاء
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 76 مشاهدة
نشرت فى 3 ديسمبر 2013 بواسطة fakhar

عدد زيارات الموقع

2,514