- 1 -

في مثل هذا اليوم قبل خمسين عاما هجم علي الشعر …

لم يطرق الباب … ولم يستأذن ولم يتكلم معي بالتلفون …

وفجأة وجدته في وسط الغرفة جالسا على حقيبته الجلدية الضخمة كغجري ضائع العنوان …

ثم نهض ليتعرف على خريطة بيتي …

دخل أولاً إلى غرفة الحمام وأخذ دوشاً واستعمل فرشاة أسناني … ومناشفي … وأدوات حلاقتي …

ثم فتح الثلاجة وسألني … ” ماذا لديك من طعام .. إني جائع ..”

قلت : خبز وجبن روكفور وزجاجة نبيذ ( بوردو ) ….

قال : طعامك متحضر رغم أن الجبن يرفع ضغطي والنبيذ يشعل حرائقي …

ثم دخل إلى غرفة نومي … ففتح الخزائن والجوارير وأخرج واحدة من بيجاماتي … وارتداها دون أن يستأذنني ….

ولسوء الحظ كان مقياس جسده كمقياس جسدي …

ثم اختار لنفسه مقعدا مريحا وسكب لنفسه كأسا وبدأ يحتسي النبيذ الفرنسي بلذة العارف الذواقة …

وبعدما أنهى زجاجة النبيذ احتل سريري وسرق كل أغطيتي وشراشفي ومخداتي وقال لي ” تصبح على خير ”

ونمت أنا على الكنبة … ولا زلت منذ خمسين عاما نائما على الكنبة …

- 2-

في مثل هذا الشهر من عام 1940 دخل الشعر إلى بيتي ولم يخرج منه حتى الآن …

في البدء تصورت أن الزائر الغامض سوف يمكث يوما أو يومين … أسبوعا أو أسبوعين … شهرا أو شهرين ..

ولم أكن أتصور أنه سيصبح صاحب البيت … وأصبح أنا أجيرا عنده … أصنع له القهوة وأشتري له الصحف والسجائر وأغسل له ملابسه وألمع له أحذيته …

لم أكن أتصور أن الرجل الغامض سوف يأخذ مني ورقة الطابو ويسجل البيت باسمه ويبقى جالسا فوق رأسي
إلى يوم القيامة …

يأكل عندي … ويشرب عندي … ويلعب الورق عندي أيضا … ويتزوج عندي وينجب أولادا أرضعهم أنا … وأربيهم أنا … وآخذهم إلى المدرسة … أنا …

- 3 -

السكنى مع الشعر في بيت واحد لمدة خمسين عاما كالسكنى في العصفورية لا تعرف فيها طبيعة مرضك … ومتى سيطلقون سراحك …

كالسكنى على حافة البركان … لا تعرف متى يهدأ … ولا تعرف متى يثور …

كالزواج من امرأة مجنونة … لا تعرف متى تعانقك … ولا تعرف متى تخنقك …

ليس هناك مزاح مع الشعر …

فإما أن يعطيك الميدالية الذهبية … وإما أن يسبب لك الذبحة القلبية …

وعندما جاءتني الذبحة القلبية عام 1974 ونقلوني إلى مستشفى الجامعة الأميريكية في بيروت جاءني الرجل الغامض يحمل لي أزهارا جميلة وقال لي :

- I am sorry. أنا الذي افتريت عليك … سامحني …

قلت له : ” ولا يهمك “. إنني أدفع استحقاقات الشعر علي وأن يموت الإنسان وهو يكتب شعر … خير له من أن يموت وهو يلعب الورق … أو يدخن الشيشة … أو يتفرج على مسلسل عربي في التلفزيون …!!!

- 4 -

حين دخلت إلى بحر الشعر قبل خمسين عاما لم يكن لدي فكرة عن فن الغوص … وعن أخلاق البحر …

ظننت أن الماء لن يصل إلى ما فوق ركبتي … وأنني سوف ألعب بالرمل والموج والأصداف … وآخذ حمام
شمس لبضع ساعات … ثم أعود إلى قواعدي …

ولكنني لم أعد إلى البر أبدا ..!!

وحين جاءت أمي بعد غروب الشمس لتبحث عني قال لها رئيس دورية خفر السواحل :

- العوض بسلامتك .. يا سيدتي . ابنك مخطوف … خطفته إحدى جنيات البحر وتزوجته ولا أمل بعودته …

صرخت أمي باكية :

- ولكنه ابني .. أتوسل إليك يا سيدي أن تعيد لي ابني .

أجابها رئيس الدورية :

- إنني أفهم أحزانك يا سيدتي وأتعاطف معك ..

ولكن تجربتي الطويلة مع البحر تسمح لي أن أصارحك أن الزواج من حوريات البحر زواج كاثوليكي ….

ولا توجد في سجلات مخفرنا أية سابقة لحورية اختطفت رجلا وأعادته إلى أحضان أمه …

قالت أمي: أستحلفك بأولادك يا سيدي, افعل شيئاً لإنقاذ ابني.. إنه لا يزال صغيراً على الحب .. وصغيراً على الزواج. إنني أعطيك كل خواتمي, وأساوري, لتقدمها إلى الحورية, علها تطلق سراح ابني.

قال لها رئيس الدورية:

إن حوريات البحر, يا سيدتي, في حالة عري كامل صيفاً وشتاءً. لذلك فإن الأساور, والخواتم, والساعات المطعمة بالماس .. لا تثيرهن .. ولا تعني لهن شيئاً .. إن رشوة حوريات البحر, مهمةٌ مستحيلة ..

قالت أمي: ولكن ولدي لا يعرف شيئاً عن الحب … وعن الزواج .. إنه لا يزال تلميذاً في الثانوية العامة.

أجابها رئيس الدورية, وهو يخفي ابتسامة ماكرة:

لا تقلقي .. لا تقلقي يا سيدتي .. فسوف تعلمه حورية البحر أسرار الحب تحت الماء .. إلى أن يتخرج أميرالاً من أكاديمية البحر.

 

خمسون عاما من الشعر

 

بعد خمسين عاماً على زواجي من حورية البحر ..

رزقت بخمسين ولداً/كتاباً .. جميعهم بصحة جيدة ..

أيامي مع حورية البحر, لم تكن كلها أيام شهر عسل ..

كانت أحوالنا تشبه أحوال البحر .. مداً وجزراً .. وصحواً ومطراً .. وطقساً جميلاً .. وعواصف مجنونة.

كانت هي مشغولة بالتزلج على الماء .. مع أولادها ..

وكنت أنا مشغولاً بأوراقي .. وكتاباتي .. ونرجسيتي ..

كنت أنا أتكلم مع أشجار المرجان وسلاحف الماء ..

وكانت هي .. تطارد أية سمكة أنثى تقترب مني ..

- 6 -

بعد خمسين عاماً من معاشرة القصيدة, أعترف لكم أنها امرأةٌ مُتْعِبة. امرأة مزاجية, متسلطة, ولا تصير كلمتها كلمتين .. تغازلك متى تريد .. وتتزوجك متى تريد .

وترسل إليك ورقة الطلاق متى تريد.

وليس صحيحاً أن الشعر هو الذي يبدأ الغزل, وهو الذي يستدعي القصيدة. بل القصيدة هي التي تشير بأصابعها .. فيمتثل.

ثم ليس صحيحاً أن الشاعر (بيده العصمة) في العمل الشعري .. إن القصيدة وحدها هي التي تملك العصمة.

القصيدة هي التي تهيئ غرفة النوم .. وهي التي تعد كؤوس الشراب .. وهي التي تختار نوع الموسيقى .. وهي التي تخلع ثيابها .. وتفترسك بلا مقدمات .. وكاذبٌ كل شاعر يقول لك أنه (اغتصب قصيدة) . فنحن جميعاً مُغْتَصَبُون …

ورغم أن بعض الشعراء في سيرهم الذاتية , يحاولون أن يظهروا بمظهر ( الدونجوانات) .. ويوحون لك بأنهم ( القوامون على قصائدهم), إلا أن هذا الادعاء باطل, لأن الشاعر كملك السويد يملك ولا يحكم.

في حين أن القصيدة هي التي تأمر , وتنهى, وتقول للشعر : ( كن فيكون).

- 7 -

عندما دخلت إلى ورشة الشعر قبل خمسين عاما كانت المواد الأولية متوفرة بكثرة من حولي .فراشي وأصباغ وطين وصلصال وخشب وقماش وجبس وأزاميل وقوالب وفرن لطبخ السيراميك.

قلت لمعلمي في الورشة : ماذا أفعل ؟ من أين أبدأ ؟

قال : ابدأ من حيث تريد واستعمل أصابعك جيدا … ولا تلتفت إلى يمينك … أو إلى شمالك ….

إياك أن تقترب من قوالب الآخرين … فإنها سجن …

اصنع قوالبك بنفسك فالطين هنا … والماء هنا … والفرن هناك …

واذا احترقت أصابعك أثناء العمل فضعها تحت حنفية الماء … فليس لدينا في الورشة قطن وسبيرتو …

ثم … لا تتكلم مع زملائك أثناء العمل لأنني في ورشتي لا أحب الثرثرة والكلام الفارغ .

قلت : ولكنني يا سيدي غشيم … ولم أتجاوز السادسة عشرة … ألا يمكنك أن تعطيني ولو فكرة صغيرة عن
طريقة الشغل ؟

صرخ المعلم في وجهي :

- يا ولد .. ليس عندي هنا روضة أطفال .. ولا بيبرونات .. ولا حليب .. ولا كاكاو .. البس الأوفرول الأزرق فوراً .. ودبر حالك …

- 8 -

ولبست الأوفرول الأزرق وانخرطت في ورشة العمل …

كانت كلمات معلمي تدق كالأجراس في داخلي :

- لا تلتفت يمينا …

- لا تلتفت شمالا …

- لا تقترب من قوالب الآخرين …

مر على هذا الكلام خمسون عاما ولا تزال الأجراس تدق في أعماقي ولا يزال الأوفرول الأزرق ملتصقا
بجسدي ليلا ونهارا أعمل به وأنام به وأستحم به …

ولا زلت أطبق الريجيم الشعري الذي أوصاني به أستاذي بحذافيره …

صحيح أن الريجيم كان قاسيا ولكنه ساعدني للاحتفاظ بلياقتي الشعرية على مدى خمسين عاما …

كان من السهل عليّ أن أجلس على موائد الآخرين وآكل بيتزا .. ومعكرونة .. وقوزي .. وكنافة بالقشطة …

ولكنني لم أفعل وظلت لاءات معلمي تلاحقني وأنا أجلس إلى طاولة الطعام وإلى طاولة الكتابة حتى اليوم.

- 9 -

لا تعذبوا أنفسكم في تصنيفي … إنني شاعر خارج التصنيف … وخارج الوصف والمواصفات …

فلا أنا تقليدي … ولا أنا حداثوي … ولا أنا كلاسيكي … ولا أنا نيو كلاسيكي … ولا أنا رومانسي …

ولا أنا رمزي … ولا أنا ماضوي … ولا أنا مستقبلي … ولا أنا انطباعي … أو تكعيبي … أو سريالي …

إنني خلطة لا يستطيع أي مختبر أن يحللها …

إنني ” خلطة حرية ”

هذه الكلمة التي كنت أبحث عنها منذ خمسين عاما … ووجدتها هذه اللحظة فقط …

- 10 -

الحرية تحررني من كل الضغوط التي يمارسها التاريخ على أصابعي …

تحررني من كل أنظمة السير …ومن كل إشارات المرور …

الحرية تحميني من غباء آلات التسجيل ومن السقوط بين أسنان الآلات الناسخة..

تحميني من ارتداء اللباس الموحد والقماش الموحد واللون الموحد فالقصيدة ليست مجندة ولا ممرضة
ولا مضيفة طيران ….

الحرية تسمح لي بأن ألبس اللغة التي أشاء … في الوقت الذي أشاء …

إنني هارب من نظام الأحكام العرفية في الشعر …

كما أنا هارب من قوانين الطوارىء ومن لزوميات ما لا يلزم … لا أسمح لأحد أن يتدخل بأشكالي …

فلقد أكتب المعلقة الطويلة …

ولقد أكتب التِلِكس الشعري القصير …

ولقد أكتب قصيدة التفعيلة … أو القصيدة الدائرية … أو قصيدة النثر …

ولقد أتزوج القافية ذات ليلة …وأطلقها في اليوم التالي …

وقد أتصعلك كعروة بن الورد …

وقد أرتدي السموكن كاللوردات الانكليز …

وقد أخطب على طريقة قس بن ساعدة …

وقد أعزف الجاز … وأغني على طريقة البيتلز …

إن حريتي تدفعني إلى ارتكاب حماقات كثيرة …

ولكنني لا أعتذر … ولا أندم …

فالشعر بدون حماقة هو موعظة في كنيسة …

وبيان انتخابي لا يقرؤه أحد …

 

 

- 11 -

مع اللغة لعبت بديمقراطية وروح رياضية …

لم أتفاصح …

ولم أتفلسف …

ولم أغش بورق اللعب …

لم أكسر زجاج اللغة … ولكني مسحته بالماء والصابون …

ولم أحرق أوراق القاموس …

ولكنني قمت بعملية تطبيع بينه وبين الناس …

ولم أقص شارب أبي وقنبازه وطربوشه بالمقص …

ولكني استأذنته أن أشتري ملابسي من عند الخياط ” سمالتو ”

ولأن أبي كان حضاريا فقد طلب مني أن أعرفه على سمالتو …

وصار لا يخيط بدلاته إلا عنده ..

- 21-

منذ البدء كنت مع الديمقراطية الشعرية …

كنت أؤمن أن الشعر هو حركة توحيدية لا حركة انفصالية …

وأنه همزة وصل لا همزة قطع …

وأنه فن الاختلاط بالآخرين لا فن العزلة …

وأنه فن الملامسة والحنان لا فن إلقاء القبض على الآخرين واغتصابهم شعريا …

إيماني بديمقراطية الشعر دفعني إلى التفتيش عن لغة تؤمن هي الأخرى بالديمقراطية وتحب الجلوس في المقاهي الشعبية و تشرب القرفة واليانسون وتلعب الكونكان وتركب أوتوبيسات الحكومة وتنزل في فنادق الدرجة الثالثة وتشاهد مباريات كرة القدم ومسرحيات عادل إمام ودريد لحام وتقرأ سيرة أبي زيد الهلالي …

كنت أؤمن أن الشعر موجود في عيون الناس وفي أصواتهم … وفي عرقهم … وفي دموعهم … وضحكاتهم … وأن وظيفتي كشاعر هي أن أنقل المشهد الشعبي الكبير …وهذا ما فعلته خلال خمسين عاما …

لذلك تجمع الناس حول شعري ليسمعوا حكايتهم وليشاهدوا شريط الفيديو الطويل الذي أخرجته عن حياتهم ..

وإذا كانت أشرطة الفيديو الشعرية التي أنتجتها هي الأكثر انتشارا فلأن سكان الحارات الشعبية يحبون أن يروا صورتهم بالألوان الطبيعية … وعواطفهم بالألوان الطبيعية بدون أقنعة … وبدون ماكياج أو مونتاج …

- 13 -

يحاول النقد أن يتعلق بعربة الشعر …

ولكن الحوذي يضربه بالكرباج …

فيسقط مضرجا بدم أحقاده …

- 14 -

أنا ممنوع في كل مكان …

إذن … فأنا مقروء في كل مكان …

- 15 -

قبل أن يدخل النفط إلى حارة الثقافة …

كانت الحارة سعيدة … ومرتاحة … وبألف خير …

وكان الناس يأكلون … ويشربون … ويسهرون عند بعضهم … ويزوجون أبنائهم وبناتهم … ويفتحون أبوابهم للعصافير … ولضوء القمر …

وعندما جاء النفط حاملا براميله …

ودفاتر شيكاته …

وأكياس دنانيره …

فسدت أخلاق الحارة وأصبح الزعران رؤساء لتحرير الصفحات الثقافية …

وصارت مهنة النقد كمهنة الصيرفة خاضعة لقانون العرض والطلب …

- 16 -

الشاعر العربي هو بدون شك أعظم شاعر في الدنيا لأنه يدفع كمبيالة الشعر مع فوائدها وفوائد فوائدها …!!

فبينما يجلس الشاعر السويسري على ضفاف بحيرة جينيف ليطعم البط …

فبينما يجلس الشاعر الفرنسي في أحد مقاهي سان جرمان وأمامه قدح كونياك وفي فمه سيجارة غولواز …

وبنما يفتح الشاعر الانكليزي شهيته بسطل من البيرة السوداء …

وبينما يجلس الشاعر الأميركي على سطح بناية ” تشيز مانهاتن بنك ” في الجادة الخامسة في نيويورك …

يجلس الشاعر العربي على قصيدة مفخخة … لا يدري متى تنفجر به …

- 17 -

المرأة ضرورية جدا لكتابة القصيدة …

ولكن إذا زادت الجرعة النسائية عن الحد المعقول ..

ماتت القصيدة ….

 

 

- 18 -

الشهرة ذبحتني …

كيف يمكنني أن أنام مع 200 مليون عربي

في غرفة واحدة …

وسرير واحد ؟ ..

- 19 -

يريد بعض المتثاقفين أن يقنعونا أن جماهيرية الشاعر هي مقتله …

وأحب أن أطمئنهم أنني شاعر جماهيري … ولا أزال بعد خمسين عاما حياً أرزق …

- 20 -

كانت المرأة منذ خمسين عاما حبيبتي …

ولا تزال حبيبتي …

إلا أنني أضفت إليها ضرة جديدة …

اسمها الوطن ….

- 21 -

كل الملصقات التي وضعوها على صدري …

من شاعر المرأة …

إلى شاعر النهد …

إلى شاعر المراهقات …

إلى شاعر المجتمع المخملي …

إلى شاعر الدانتيل الأزرق …

إلى شاعر الغزل الحسي …

إلى شاعر الإباحية …

إلى الشاعر الفاجر …

إلى الشاعر التاجر …

إلى الشاعر الملعون …

إلى الشاعر الرجيم …

إلى شاعر الهزيمة والاحباط …

إلى شاعر الهجاء السياسي …

كل هذه الملصقات تساقطت كالورق اليابس على الأرض وبقيت الأشجار واقفة …

- 22 -

في السنوات الأخيرة …

أصبحت أحفر الورق بأظافري حين أكتب …

أصبحت عصبيا … وحارقا … وجارحا …

وصار سلوكي كسلوك أرنب بري …

نسيت مهنة الدبلوماسية التي زاولتها عشرين عاما …

نسيت مجاملة الرجال … وتقبيل أيدي النساء …

نزعت قميصي المنشى … وكلامي المنشى …

وقررت أن أكون مباشرا … كطلقة مسدس …

- 23 -

كلما قرأت في الصحافة الأدبية تعبير ” النزارية “..

اجتاحتني موجة كبرياء …

أليس رائعا أن أكون صاحب طريقة شعرية ..

كالشافعية .. والحنفية .. والحنبلية … والمالكية ؟؟ ..

- 24 -

الشعر الحديث لم يصنعه أحد …

لا بدر شاكر السياب ولا نازك الملائكة …

ولا فلان ولا علتان …

الحداثة مقطوعة موسيقية جماعية … بدأت في الثلاثينيات … وشارك فيها كورس كامل من الشعراء العرب المقيمين والمغتربين …

كل واحد بآلة …

أو بجملة موسيقية …

أو بلازمة …

أو بقرار …

أو بجواب قرار …

وكل من يدعي أنه بتهوفن الشعر العربي الحديث … يجب أن تقام عليه الدعوى بتهمة النصب والاحتيال …

- 25 -

ليس هناك في رأيي لغة عربية واحدة …

ولكن هناك لغات …

هناك لغة الجاحظ …

وهناك لغة ابن المقفع …

وهناك لغة ابن قتيبة …

وهناك لغة الجرجاني …

وهناك لغة البحتري .. وأبي نواس .. والمتنبي .. وأحمد شوقي .. وأمين نخلة .. وإلياس أبي شبكة .. وبشارة الخوري .. وسعيد عقل .. وأدونيس ..

كل واحد من هؤلاء اشتغل على لغته ورتبها وفرشها على ذوقه وصبغ جدرانها على ذوقه …

وإذا سألتموني :

- وأنت .. ماذا فعلت بالشأن اللغوي ؟

أجيبكم ببساطة :

- لقد اخترعت لغتي …

طبعا أنا لا أدعي أنني فتحت القسطنطينية أو أنني كألفرد نوبل اخترعت البارود …

ولكنني أقول بكل تواضع أنني عمرت لنفسي بيتا صغيرا ومريحا .. ووضعت بطاقتي الشخصية على بابه …

قد أصل في خطابي الشعري إلى مستوى الكلام العادي وقد أتهم بالنثرية حينا وبالتقريرية حينا آخر …

ولكنني لا أغضب مما يقال لأنني أعتقد أن الجدار الفاصل بين الشعر وبين النثر سوف ينهار عما قريب
كما انهار جدار برلين …

إن بريستروكيا الشعر قادمة …

وإذا كان غورباتشوف نادى بالبريسترويكا السياسية والاقتصادية والاجتماعية فإن التغييرات التي أحدثتها في لغة الشعر منذ خمسين عاما هي أيضا بريسترويكا نزارية ..

نزار قباني
جينيف – 15/1/1990

 

 

 

 

fahadalsuwaigh

مرحبآ بك بمجلة بشرى الأدبية الإلكترونية Bouchra Electronic Literary Magazine

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 117 مشاهدة
نشرت فى 13 سبتمبر 2016 بواسطة fahadalsuwaigh

ساحة النقاش

مجلة بشرى الأدبية الإلكترونية 99

fahadalsuwaigh
مجلة أدبية ثقافية تهتم بالشعر الفصيح المعاصر و القديم , وتهتم بتقديم أجمل القصائد الغزلية والوطنية والدينية وقصائد المديح النبوي الشريف . »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

102,921