دفاتر الرسامين العراقيين صارت لازمة عرض يتوقع المتلقون الاطلاع عليها في كل معرض يقام للرسم الحديث في العراق، فردياً كان ذلك المعرض أم جماعياً. لقد كانت تلك الدفاتر بمثابة حل سحري للكثير من المشكلات التقنية التي واجهها الرسام العراقي وهو يعيش عزلته عن العالم منذ سنوات، من غير أن يستند إلى مؤسسة فنية ترعاه وفي ظل ظروف قاهرة صار الحصول فيها على مواد الرسم التقليدية (أصباغ وخامات أخرى) أشبه بالأمنية.



تروي تلك الدفاتر سيرة شعب دخلت الحرب مثل البرد بين عظامه فأصيب بوبائها المستعصي على العلاج، لذلك فإن رسامي تلك الدفاتر لم يلجأوا الى الوصف الواقعي، فأي وصف هو خيانة لحقيقة ما جرى. هذا ما يقوله غير رسام عراقي، وهو يؤكد أن فعل الرسم لم يعد مجرد مهارة بصرية يعبر عنها احتراف تقني، بل هو نوع من الإلهام الذي يزيح عن الصرخة قشرتها ليصل الى قلب الألم. دفاتر الرسامين العراقيين التي ضمها غير عرض فني أقيم أخيراً هي أشبه باليوميات الهلعة والمجنونة التي يكتبها رجل يتعرض بيته للحريق، من غير أن يكون قادراً على إطفاء النار.

منذ أكثر من ربع قرن وسؤال الحرب يطارد الرسام العراقي. كانت هناك دائماً حرب في مكان ما، بشر يذهبون ولا يعودون، ليبقى أثر منهم يعد بيأس بعودتهم، وكان دعاة الثقافة التعبوية لا يرون الحرب في معنى هذا الفقدان وحيرته بل كانوا يسعون الى ضخ الدم في جسد الكذبة التي تصنع من حروبهم نوعاً من الحل. لهذا فقد سعوا الى الزج بالرسم في ماكينة إعلامهم المضلل، غير أن الرسامين الحقيقيين لم ينخرطوا في عملية التضليل تلك، كان ما فعلوه من عصيان عبر عقود من الزمن هو بمثابة نوع من المعجزة، ولم يجد الإعلام التعبوي من يستخدمه في ذلك المسعى إلا بين صفوف العاطلين عن الموهبة، الباحثين عن أية فرصة للظهور، بغض النظر عما يخالطها من التباسات أخلاقية وفنية. ولكن هل نأى الرسامون بأنفسهم عن الحرب؟ هذا ما لا يمكن تخيله، فحساسيتهم المرهفة تضعهم في مكان غير آمن دائماً. وهذا ما تكشف عنه دفاترهم التي يعرضونها اليوم وبكثافة في مختلف أنحاء العالم. كل صفحة من تلك الدفاتر هي بمثابة صيحة يمتزج فيها الألم والغضب والرجاء والقسوة الفاحشة والتأمل النبيل والاعتراض على الخراب الذي انتهى إليه الوضع البشري. هنالك في كل الصفـــــحات وصف ولكنه من نوع آخر، وصـــــــف لا نرى منه إلا شذرات تعبث بها موسيقى حزينة حانية. نحن نرى في بعض تلك الصفحات صور الذاهبين الى غيابهم، بقايا أوراقهم، خطوطهم، وكل ما يدعونا الى المشي في جنازاتهم، هنالك مدائح من نوع مختلف غير ذلك النوع الذي كان دعاة التعبئة يفكرون به، هو مديح مضاد يستسلم للأسى الرقيق ويقاوم النسيان. في هذه الدفاتر تحل التفاصيل اليومية الصغيرة محل الأفعال الملحمية الكبرى لتكون رموزاً لحياة، كان من الممكن تخيلها.

غسان غائب وكريم رسن وفاخر محمد وهناء مال الله ونزار يحيى ومحمد الشمري، رسامون عراقيون ينتمون الى الجيل الفني الذي ولد في حاضنة الحرب الأولى. لذلك فإن أعمالهم الفنية اليوم هي شهادة لا يمكن الطعن بصدقها. وليس غريباً أن يكونوا من غير استثناء متأثرين بتجارب معلمهم الراحل شاكر حسن آل سعيد (1924 - 2004) الأخيرة. فآل سعيد وهو الصوفي العنيد كان قد نجح فعلاً في استدراج الحرب الى رسومه جمالياً، كانت رسومه في التسعينات تعبر عن تشبهه بالحلاج القتيل، من جهة كثافة اعتراضه وخفة كلماته وغموضها. دفاتره المتواضعة لم تكن بعيدة من متناول أيدي تلاميذه، لقد كان ذلك الرسام الكبير رجلاً متاحاً ولم يكن أنيقاً في صناعة دفاتره كما يفعل الرسام القدير رافع الناصري على سبيل المثال. كان لديه نوع من التقشف والزهد السـاحــــــريـــن (والشعبيين في الوقت نفسه) وهما العنصران اللذان يسعى الــــرسامــــون العـــراقيون الآن الى استلهام أسرارهما واقتفاء أثرهما. لقد تحررت دفاتر آل سعيد من الشكل، وهنا نجد غير رسام يسعى الى تحرير دفاتره من أي شكل ممكن. نعثر في عروضهم على دفاتر لا تقلد شكلاً سابقاً، إنها تخترع لها شكلاً، كما لو أن رسامها يريد أن يقول: ان ألمي غير مسبوق. وقد نلاحظ أن هناك سباقاً بين الرسامين في اختراع أشكال لا سابق لها. هي أشكال تستلهم الحرب، فكل لحظة حرب لا تشبه لحظة أخرى، حتى وإن كانت مقتطعة من الحرب عينها. دفاتر لا تريد أن تصل الى صفحاتها الأخيرة إلا بصفتها غباراً.

يمكن النظر الى تلك الدفاتر على أنها يوميات محاربين، جلهم نجا من موت محقق غير مرة، لذلك تحضر بعض تلك الدفاتر مثقوبة كما لو أن الرصاصة مرت لتوّها لتحيط بدخانها حياة بأكملها، من الغلاف الى الغلاف. تأمل تلك الدفاتر عن بعد يغني عن تصفحها، مشهدها الخارجي لا ينبئ بل يؤكد ما يمكن أن نلاقيه. فهي دفاتر تختصر المسافة كلها بين قوسي حياة معذبة، حياة تستمد معناها من صدفة قلقة قد لا تتكرر. الجمال هنا يسيل مثل نشيج، كل هذه العذوبة لأن ما يحدث لا يحدث إلا مرة واحدة. هذه الدفاتر تضعنا في مواجهة موعظة النجاة من القتل. إنها تصف اللحظة الكونية التي تلف الحرب بضبابها، حيـــث تبقــــى المسافة بين الحرب والمحارب غاصة بالغموض. هذه الدفاتر تضعنا في قلب تلك المسافة، وهي تدعونا الى تصفح كل ذلك العذاب الذي تسلقنا سلالمه من أجل أن نصل الى الهضبة التي تطل بنا على أسباب شقائنا. صحيح أن هناك موسيقى قوية تحنو علينا وهي تنبثق من بين تلك الصفحات، غير أن هناك أيضاً ما يجعلنا قادرين على استلهام جزعنا، كما لو أننا نضطر الى تجرع الكأس الأخيرة التي تقود الى سلامتنا. في دفاتر الرسامين الجدد في العراق دعوة باسلة الى الحياة.

  • Currently 90/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
30 تصويتات / 440 مشاهدة
نشرت فى 2 يوليو 2006 بواسطة essamRHM

ساحة النقاش

أ/عصام رشاد حسن محمد ((معلم اول حاسب ألى بمدرسة بنى حسين الثانوية ))

essamRHM
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

41,016