مجلة البحوث الجغرافية geographical researches journal
الثقافة الجغرافية من قوة الدولة
كَتَب: د. حمدي هاشم
تحدد الجغرافيا العلاقة بين الإنسان والأرض،باعتبار أن الجغرافيا توجه التاريخ،وتهيئ العوامل الجغرافية (الحرارة والمطر والرياح والتربة والأنهار والشواطئ وطرق التجارة وغيرها) سبل نشأة المدينة وازدهارها عبر مراحل التاريخ البشري. وتظل الثقافة الجغرافية هي الثقافة الأم التي تبنى الأمم وتخدم أهداف التنمية الشاملة لأفراد المجتمع، وبالاهتمام المطلوب بها ترسخ معايير الهوية الوطنية والانتماء والمواطنة. بل إن الارتقاء بقيادة الجيش رهن بمعرفة أساسيات الجغرافيا ومحددات شخصية المكان، من واقع تلك العلاقة العضوية بين الجغرافيا والحرب لإحراز النصر العسكري وتحقيق مغانم السياسة والاقتصاد.
وتظهر قيمة الثقافة باستمرار في تصحيح مسار المجتمع، رغم نزعة دولة أمريكا للسيطرةعلى العالم منذ الاستقلال (عام 1776) وإن صورة الحاضر في ظل العولمة إنما هي امتداد لماضي الرأسمالية المتوحشة؛ فحينما كشفت الجمعية الجغرافية الوطنية انتشار ظاهرة الأمية الجغرافية بين مختلف قطاعات المجتمع الأمريكي، بادرت الحكومة بتأكيد أهمية الثقافة الجغرافية من أجل مستقبل أفضل لمواطنيها وقامت بإلزام الطلاب قبل الالتحاق بالجامعات الحصول على درجات عالية في مادة الجغرافيا، بل طرحت في (25 يناير 1994) مشروع قانون تثقيف أمريكا 2000 وأيدت اختيار الجغرافيا ومعها فنون اللغة الانجليزية واللغات الأجنبية والتاريخ والعلوم، كمواد خمس أساسية ستواجه بها الدولة القرن الواحد والعشرين.
ويظل العلم جزء من الثقافة وبينهما تشهد وحدة المعرفة تداخلات شتى تدلو فيها الجغرافيا بدلوها، حتى صارت علم تكاملي يجمع كل العلوم بما له من جوانب التحليل والتنبؤ التي يتضمنها ويساهم بها في تنمية المجتمع المحلى والدولي؛ وكان ذلك وراء مشروع تحسين معايير التربية الجغرافية الأمريكية (1995) بهدف تخطي علم الجغرافيا مرحلة الأفكار والاستراتيجيات والتطبيقات الجديدة وصولاً إلى مرحلة الجغرافيات الجديدة فائقة المستوى العلمي والقادرة على محاكاة تلك الإمكانات الهائلة للحاسب الآلي، ونظم الاستشعار عن بعد ونظام تحديد المواقع العالمي وذلك من أجل خدمة القضايا السياسيةوالاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية.
وفي مصر جاءت ندوة الجغرافيا في التعليم العام بالمجلس الأعلى للثقافة (2002) لتؤكد على أهمية نشر الثقافة الجغرافية بين مختلف فئات المجتمع، وحذرت من مخاطر غياب الجغرافيا كمصدر رئيس من مصادر الثقافة التي تخدم قضايا الوطن، وقررت مسئولية التربية الجغرافية في بناء فكر وشخصية الإنسان وسلوكياته وقيمه، لأصالة جذور الجغرافيا الثقافية في مثيلاتها من الثقافات العلمية الأخرى؛ وخلصت هذه الندوة إلى أن التعليم النظامي الحالي يفتقد القدرة على تأهيل ثقافة الفرد من جميع النواحي ومن بينها الناحيةالجغرافية، الأمر الذي يتطلب نشر هذه الروح الثقافية الفاعلة من أجل الحد من أخطار العولمة وحماية مستقبل الثقافة العربية.
هكذا تأتى مسئولية الثقافة الجغرافية والمطلوب منها تجاه تنمية البيئة والمجتمع في نشر ثقافة استقراء الحقائق والمفاهيم الجغرافية، واستكشاف قيمة الجغرافيا وتطبيقاتها في الحياة والمجتمع، والقدرة على توظيف المهارات الجغرافية لحل مشكلات وقضايا التنمية، علاوة على الارتقاء بسلوكيات المحافظة على البيئة مما يلوثها في الريف والحضر. ناهيك عن قدرة الجغرافيا على إعداد الفرد في عصر العولمة من خلال غرس مقومات الهوية وتنمية مشاعر وأحاسيس الولاء والانتماء للوطن والإعلاء من شأنه، ورفع وعي المواطن برسالته القومية والإنسانية.
وماذا بعد فشل المشروع القومي العربي ومشاريع الليبرالية التي عرفتها كثير من البلدان وتراجع اليسار وتنامي قوى التي توظف الدين في السياسة، وما يشهده الوطن الكبير من التغيرات الاجتماعية والسياسية في الآونة الأخيرة؟ سوى إعداد رؤية لمستقبل الثقافة العربية بالتوافق مع معطيات عصر تكنولوجيا المعلومات، وبالاعتماد على برامج متطورة لنشر الثقافة الجغرافية ذات الاتصال المباشر بالحياة وما فيها من ظواهر مختلفة، والتي تسهم في تنمية القيم بجميع أنواعها وتساعد على ايجابية السلوك الاجتماعي. ويلزم ذلك الاهتمام بالتربية الجغرافية في التعليم العام وإدخال الجغرافيا السلوكية والجغرافيا الثقافية في التعليم الجامعي، وتفعيل الجغرافيا في تنمية الثقافة العسكرية والأمنية وغيرهما من أجل الاستقرار في المستقبل.