الاعتكاف في المسجد
<!-- / icon and title --><!-- message --> بسم الله الرحمان الرحيم
الاعتكاف في المساجد
.................................................. .......................................
الاعتكاف لغةً: لزوم الشيء وحبس النفس عليه. وهو المكث في المسجد بنية التقرب إلى الله سبحانه وتعالى. ومن معانيه: الرباط والجوار.
حِكْمة الاعتكاف
شرع الاعتكاف لحكم كثيرة، أعظمها: التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، والانقطاع عن الناس، والتفرغ للعبادة والقربة المحضة، وتكون في أوقات معينة يصفو فيها قلب العبد، ويقبل على ربه، ويتخفف من الشواغل، حتى ما كان منها واجباً كحقوق الأهل وحقوق الأولاد، وغير ذلك. فبالاعتكاف يمتنع عن هذا كلِّه، ويتفرغ لعبادة الله سبحانه وتعالى وذكره وتسبيحه واستغفاره وقراءة القرآن، وفي هذا تصفية للقلب. وبالاعتكاف يصير أنسه بالله بدلاً عن أنسه بالخلق، فيدخره ليأنس به يوم الوحشة في القبور حين لا أنيس له ولا ما يَفرحُ به سواه، وهذا مقصود الاعتكاف الأعظم.
قال ابن القيم رحمه الله: لما كان صلاح القلب واستقامته على طريق سيره إلى الله تعالى متوقفاً على جمعيته على الله ولمِّ شعثه بإقباله بالكلية على الله تعالى فإن شعث القلب لا يلمه إلا الإقبال على الله تعالى.. شرع لهم الاعتكاف الذي مقصوده وروحه عكوف القلب على الله تعالى وجمعيته عليه والخلوة به والانقطاع عن الاشتغال بالخلق والانشغال به وحده سبحانه، حيث يصير ذكره وحبه والإقبال عليه في محل هموم القلب وخطراته فيستولي عليه بدلها ويصير الهم كله به والخطرات كلها بذكره والتفكر في تحصيل مراضيه وما يقرب منه.
حكم الاعتكاف
الاعتكاف سنة بإجماع أهل العلم كما ذكره ابن المنذر وغيره. ويرى الأحناف والشافعية أنه سنة مؤكدة في العشر الأواخر من رمضان، أما الحنابلة فيطلقون السنية ولا يؤكدونها. والدليل على سنيته قول الله سبحانه وتعالى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (البقرة: 187)، وقوله سبحانه وتعالى: {أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (البقرة: 125).
واعتكف الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيحين من حديث ابن عمر وأبي سعيد وعائشة وغيرهم رضي الله عنهم(1)، واعتكف أزواجه - صلى الله عليه وسلم - من بعده، واعتكف الصحابة رضي الله عنهم، وعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - أَنَّ عُمَرَ سَأَلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: كُنْتُ نَذَرْتُ في الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً في الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، قَالَ: ( فَأَوْفِ بِنَذْرِكَ)(2).
أقسام الاعتكاف
الاعتكاف قسمان:
الأول: مندوب أو مسنون.
الثاني: واجب، ويدخل فيه الاعتكاف المنذور.
وقت الاعتكاف
جمهور العلماء على أنه مسنون في كل وقت، في رمضان وغيره، وأفضله في رمضان، وآكده في العشر الأواخر منه.
شروط الاعتكاف
الاعتكاف يصح من كل إنسان بشروط:
1- أن يكون مسلماً، فلا يصح من كافر.
2- أن يكون عاقلاً، فلا يصح من مجنون.
3- أن يكون بالغاً أو من مميز؛ لأنه لا تتصور النية إلا ممن حصل عنده تمييز.
4- أن يكون طاهراً من الحدث الأكبر، ويدخل في هذا الجنب إذا تعمَّد المكث، فإنه لا يصح منه الاعتكاف، ويدخل في ذلك الحائض والنفساء عند الجمهور، وفي المسألة قول آخر في الحائض والنفساء في جواز مكثهما في المسجد إذا أمنتا تلويثه.
والمرأة يصح لها الاعتكاف باتفاق الفقهاء كالرجل، وورد في السنة أن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتكفن كما قالت عائشة رضي الله عنها: (ثم اعتكف أزواجه من بعده)(3).
5- ولا بد أن يكون الاعتكاف في مسجد باتفاق؛ لقول الله تعالى: {وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}(البقرة: 187)، وقوله سبحانه: {أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (البقرة: 125)، ولما جاء عن عائشة وعلي وابن عباس وغيرهم - رضي الله عنهم - أنه لا اعتكاف إلا في مسجد(4).
وأفضل المساجد للاعتكاف والصلاة المسجد الحرام، ثم المسجد النبوي، ثم المسجد الأقصى، ثم المسجد الجامع، ثم المسجد الذي تُقام فيه الجماعة.
ويصح الاعتكاف في المسجد الجامع غير المساجد الثلاثة، وما ذكر بعض أهل العلم من أنه لا يصح الاعتكاف إلا في أحد المساجد الثلاثة فقول مرجوح، والجماهير من أهل العلم قالوا بصحة الاعتكاف في كل مسجد تُقام فيه الصلاة؛ لعموم قوله تعالى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}، فعمَّم ولم يُخصِّص.
آداب المعتكف
يستحب للمعتكف الاشتغال بما يتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى من القُرَبِ المحضة، وهي التي تكون بين العبد وبين الله - تبارك وتعالى - كالصلاة والاستغفار والذكر وقراءة القرآن والتسبيح ونحو ذلك. أو القرب المتعدية إن خلصت فيها النية: كتعليم القرآن الكريم، والتحديث، وتدريس العلم، والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، والنصح، وما أشبه ذلك.
وكذلك اجتناب ما لا يعنيه من قول أو فعل وهو مأمور به في كل وقت؛ لحديث: (إن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)(5).
حكم الخروج من المعتكف
الخروج لغير حاجة مبطل للاعتكاف باتفاق الفقهاء، كما أن الخروج لحاجة لا يبطل الاعتكاف عندهم.
وهنا مسائل حول خروج المعتكف من المسجد:
الأولى: يجوز الخروج لقضاء الحاجة للتبول ونحوه، وهذا بإجماع الفقهاء كما ذكر ابن المنذر وغيره.
الثانية: جواز الخروج للوضوء والاغتسال الواجب، وخصوصاً إذا لم يتمكن منه في المسجد من غير أذى ولا ضرر، وهذا بإجماعهم أيضاً.
الثالثة: الخروج للأكل والشرب، فإن كان يمكن إحضار الأكل والشرب له من غير ضرر وجب عليه المكث، وحرم عليه الخروج، أما إذا لم يجد من يأتيه بطعامه وشرابه فإنه يخرج، ولا يُخلُّ هذا باعتكافه.
الرابعة: الخروج لغسل الجمعة وغُسل العيد ونحوهما من الأغسال المستحبة، فهذا جائز عند المالكية خلافاً
للجمهور، والأقرب أنه لا يخرج إلا على القول بوجوب الغُسل.
الخامسة: الخروج لصلاة الجمعة، وهذا واجب كما أسلفنا، ويخرج حتى لو لم يشترطه.
السادسة: الخروج لعيادة المريض وصلاة الجنازة، فعند الجمهور أنه لا يخرج لذلك إلا إذا اشترطه؛ لحديث عائشة - رضي الله عنها - أنها كانت تقول: إن كنتُ لأدخل البيت للحاجة والمريض فيه فما أسأل عنه إلا وأنا مارَّة(6). فهذا دليل على أنه لا يخرج لعيادة المريض، ولا لاتباع الجنائز.
السابعة: الخروج نسياناً، فلو أنه نسي وخرج من معتكفه فإنه لا يبطل اعتكافه بذلك عند الجمهور، وهو الصحيح، وهو مذهب الحنابلة والشافعية؛ لقول الله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (البقرة: 286). ولحديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه: (إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان)(7)، ولأن النسيان في الصوم لا يُفسده، فكذلك في الاعتكاف.
الثامنة: الخروج للمرض. والمرض نوعان: مرض يسير مثل الصداع اليسير أو الحُمى اليسيرة، فهذا لا يخرج بالاتفاق، أما المرض الشديد الذي يحتاج الإنسان معه إلى الخروج فإنه لا يُبطل الاعتكاف على الصحيح، كأن يذهب إلى المستشفى، وقد ينام فيه بعض الوقت، أو يتناول مغذياً أو غيره، ثم يعود إلى معتكفه ويبني على ما مضى.
وجمهور الفقهاء يرون أن المعتكف إذا اشترط شيئاً قبل اعتكافه جاز له ذلك.^
والقول بالاشتراط يحتاج إلى دليل، ثم ما فائدة الاعتكاف إن كان اشترط؟ خاصة من يشترط الخروج لأشياء كثيرة كما هو الحال عند بعضهم لسوء فهمهم للاشتراط الذي ذكره الفقهاء.
مبطلات الاعتكاف
أولاً: الجماع باتفاق الفقهاء، إذا كان عامداً عالماً ذاكراً؛ لقول الله - سبحانه
وتعالى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}(187) سورة البقرة، لكن إن نسي فاعتكافه صحيح وماضٍ ولا شيء عليه، وإن باشر وقبّل فأنزل فسد اعتكافه، وإن باشر أو قبّل أو لمس ولم ينزل لم يفسد اعتكافه.
ثانياً: الخروج من المسجد، فإن ركني الاعتكاف: المكث فيه، والنية.
ثالثاً: زوال التكليف، كالجنون والردة والسُكر ونحوها مما يزول بها عن الإنسان التكليف.
رابعاً: الحيض والنفاس عند الأكثرين؛ لأن الحائض والنفساء لا تمكثان في المسجد.
هل الصيام شرط للاعتكاف؟
الصيام في الاعتكاف مستحب وليس بواجب، والأولى بالمعتكف أن يصوم، أو يعتكف في وقت الصيام، ولا يجب عليه ذلك، وهذا مذهب الحنابلة والشافعية والظاهرية، ونقل عن جمع من الصحابة كعلي وابن عباس وابن مسعود وغيرهم - رضي الله عنهم - وهو مذهب الحسن البصري وأبي ثور وداود وابن المنذر.
أقل قدر للاعتكاف
عند جمهور الفقهاء - أنه ليس له حد، فكل قدر مكثه في المسجد يمكن أن يُسمى اعتكافاً، حتى لو مكث ساعة من نهار، وبعضهم يقول: لحظة.
والقول الثاني: إن أقله يوم، وقيل: ليلة، وقيل: يوم وليلة، والأقرب أنه إن جلس وقتاً زائداً عن المعتاد في المسجد بنية الاعتكاف جاز له ذلك.
ثمرات الاعتكاف
أولاً: التربية على الإخلاص؛ لأن المعتكف لا يراه أحد إلا الله جل وعلا.
ثانياً: التربية على التخلص من فضول الكلام والطعام والنوم والخلطة.
ثالثاً: التربية على العبادة، وخصوصاً قيام الليل وقراءة القرآن والاستغفار والذكر والمناجاة.
رابعاً: تقوية الصلة بالله تعالى واللجوء إليه ومناجاته.
خامساً: التفكر والتعود على الاستخدام الأمثل لنعمة العقل.
سادساً: مراجعة النفس ومحاسبتها في أمور الدين والدنيا، في العبادة وغيرها.
سابعاً: التربية على الاستخدام الأمثل للوقت.
ثامناً: إحياء سنّة هجرها كثير من الناس وهي سنة الاعتكاف.
تاسعاً: ترك المعاصي أو التقليل منها.
عاشراً: التربية على الصبر، ومجاهدة النفس، وعدم اتباع الهوى والشيطان.

الهوامش
(1) حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- فرواه البخاري (2025)، ومسلم (1171)، وحديث أبي سعيد -رضي الله عنه- رواه البخاري (813)، ومسلم (1167)، وحديث عائشة -رضي الله عنها- رواه البخاري (2033)، ومسلم (1173).
(2) أخرجه البخاري (1927)، ومسلم (1656).
(3) رواه البخاري (2026)، ومسلم (1172).
(4) انظر ما رواه البيهقي في السنن الكبرى (316-4) وعبدالرزاق في مصنفه(8009).
(5) رواه الترمذي (2318) وغيره. والذي عليه جمهور المحدثين أن الحديث مرسل، فهو من حديث علي بن الحسين عن النبي - صلى الله عليه وسلم- مرسلاً، وهذا ما رجحه الإمام أحمد ويحيى بن معين والبخاري وابن رجب وغيرهم.
(6) رواه مسلم (297).
(7) رواه ابن ماجه (2043). <!-- / message --><!-- sig -->
emansamy

Emi

  • Currently 36/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
12 تصويتات / 354 مشاهدة
نشرت فى 25 أكتوبر 2005 بواسطة emansamy

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

1,306,852