<!-- / icon and title --><!-- message -->
الحضارة الاسلامية بين الحضارات




تهيمن الحضارة العالمية الحديثة بخيرها و شرها على الأفكار والثقافة والحياة والواقع الاجتماعي حتى كاد الانسان لا يفكر بغيرها أو ينتظر بديلاً عنها أو يتطلع إلى مصحح لعيوبها وانحرافاتها مع أن الإخلاص للإنسانية وللحضارة ذاتها يقتضي معرفة محاسنها ومساوئها، وبما يمكن أن تقوم به حضارة أخرى من دور بناء إيجابي يتسم بمقومات الخلود والثبات والأمن والاستقرار؛ ونحن المسلمين كجزء كبير من هذا العالم نستطيع المساهمة في توجيه الحضارة وجهة أسلم وأقوم لتتمكن من إثبات ذاتها وتوفير البرهان العملي على مدى صلاح هذه الحضارة وجدارتها بالوجود والتنافس الشريف ؛ إن أساس حضارة الاسلام ليس هو تمجيد العقل كما هو الشأن عند الإغريق، ولا تمجيد القوة وبسط النفوذ والسلطان كما كان عند الرومان، ولا الاهتمام بالملذات الجسدية والقوة الحربية والسطوة السياسية كما هو الأمر عند الفرس، ولا الاعتداد بالقوة الروحانية كما عند الهنود وبعض الصينيين، ولا الافتتان بالعلوم المادية والاستفادة من ذخائر الكون وبالمادية الطاغية كما هو منهج الحضارة الحديثة المتوارثة عند اليونان والرومان ـ وإنما أساس حضارتنا هو فكري ـ علمي ـ نفسي يشمل جميع شعب الحياة الانسانية وبهذا كانت حضارة الاسلام مستقلة كاملة ذات دستور محدد شامل تختلف به اختلافاً جذرياً عن مبادئ الحضارة الغربية وتصطرع معها كما تصارعت مع الحضارات القديمة فصرعتها بسبب سيطرة الدين على القوى الفكرية والعملية ولقوة روح الجهاد والاجتهاد لأن الاسلام لا يمنع العلم ـ طريق الحضارة ـ وإنما يضع له المنهج الملائم لمبادئه ؛ وإذا كان التقدم الحضاري الصادق بوسائله المدنية المختلفة ليس مقصوداً لذاته ولا غاية في نفسه، فإن غاية الحضارة الصحيحة تحقيق السعادة النفسية والطمأنينة القلبية والتوصل إلى ما هو خير ونافع والبعد عما هو شر وضار؛لكن الحضارة الحديثة لم تحقق الغاية المنشودة وإنما أدت إلى القلق والاضطراب وطحن الانسان في حمى المادية الطاغية والبعد عن الخلق والفضيلة والدين ونحوها من القيم الانسانية.
وأما الحضارة في تقدير الاسلام فغايتها الأولى تحقيق الطمأنينة والسلام والأمن وإقامة المجتمع الفاضل وإسعاد البشرية بما هو خير ومحاربة كل عوامل الشر؛ فالاسلام في حقيقته مصدر الحضارة الانسانية التي شعّ نورها بامتداد الدعوة الاسلامية بعد الاستقرار في المدينة وبناء الدولة فيها عقب اكتمال بناء الفرد في مكة، وذلك لأن الاسلام هو دستور التقدم الانساني بالقرآن العظيم والسنة النبوية الشريفة ؛ فكل ما يعد تقدماً وعمراناً هو من الاسلام، وكل تخلف مضاد للتقدم ليس من الاسلام في شيء؛ لذا يخطئ الكاتبون سهواً الذين يريدون التوفيق بين الاسلام والحضارة كأنهما أمران متغايران أو ضدان، إذ لا خلاف مطلقاً بين الاسلام والحضارة، فالحضارة نتيجة من نتائج النظام الاسلامي والفلسفة الاسلامية التجريبية العملية.
والاسلام أب الحضارة وراعيها يتقبل منها قديماً وحديثاً كل ما ينفع ويرفض كل ما يضر لأن الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها التقطها؛ ولأن الانتفاء والاصطفاء عن عقل وتمييز هو من صلب تعاليم الاسلام التي تقر الأعراف الصالحة وتنبذ العادات والتقاليد الفاسدة أو المعارضة لمبادئ التشريع ونصوصه وليس أجل على ذلك من أن الاسلام تبنى ما كان صالحاً من حضارات البلاد التي فتحها في الشام ومصر وبلاد الروم والفرس وضم المسلمون إلى ساحتهم كل مخلفات الحركة العلمية لدى اليونان في مجال العلوم الطبيعية والطبية والرياضية، ثم أضافوا إليها معارف ومكتشفات جديدة صبوها في أبهى قالب في بلاد الأندلس التي كانت مصدر الحضارة الحديثة؛ فليس دور المسلمين مجرد تلقي لما عند الآخرين كما زعم المغرضون، وإنما كان لهم مشاركة إيجابية بناءة حققت لهم أرفع معاني العزة والسيادة والسبق الحضاري وهكذا كان المسلمون في كل عصر مصدر إشعاع لكل تقدم وخير وكانوا سباقين للمعالي والقدوة الطيبة للفضائل والمكارم ، ومع الأسف صرنا اليوم في حالة ضعف وكلمة الضعيف لا تسمع ولو كانت حقاً وعدلاً وشوهت حضارتنا وزيفت معالمها وسرق محتواها وتشكك الناس في مبادئها فلم يعد أمامنا إلا محاولة استعادة قوتنا المادية، ولكن على أساس صحيح من هدى الاسلام؛ ولكنا ما زلنا نؤمن بأن النصر والمستقبل سيكون لدولة الحق والاسلام المشرق بحضارته الوضاءة، لما نجده في النفوس من بقية طيبة من الإيمان والألفة والعزة والحمية والغيرة ولما نعيشه من واقع مؤلم تتوالى فيه الضربات والطعنات وتدمى منها القلوب والحناجر والصدور وتهتز الأرض من تحت الأرجل وتتهدد العروش والكراسي باحتلال الغاصب وظلم المستعبد ونار المستغل؛ ولن يعود مجد الاسلام وحضارته إلا بالثقة بالنفس ودفن العجز واليأس والقنوط
emansamy

Emi

  • Currently 45/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
15 تصويتات / 322 مشاهدة
نشرت فى 24 سبتمبر 2005 بواسطة emansamy

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

1,307,007