هم أحق بالرعاية

تحقيق: هند سليم

"أدولف هتلر" أراد يومًا أن يتحدى إرادة الله ليثبت أن الجنس الآري أفضل الأجناس على الأرض، وأعدم جميع المعاقين الآريين؛ اعتقاًدا منه أنهم وصمة عار على جبين هذا الجنس، فشاءت إرادة الله أن يولد جميع الأطفال الآريين في العام التالي لجريمة "هتلر" معاقين.

إذا كان هذا هو الأسلوب الذي استخدمه "هتلر" للتعامل مع المعاقين.. تُرى ما الأسلوب الذي اتبعناه نحن للتعامل معهم؟ هل حكمنا عليهم بالإعدام، أم أننا رضينا بقضاء الله، وتعاملنا معهم باعتبارهم بشرًا مثلنا؟

حاولنا الإجابة على هذا السؤال من خلال رصد أحوال الطفل المعاق داخل مجتمعاتنا.

سجون المعاقين

آلاف الأطفال يواجهون عقوبة السجن المؤبد لمجرد أن إرادة الله شاءت لهم أن يكونوا معاقين.. هذا ما اكتشفناه عندما تجولنا داخل المؤسسات التي تُعرف باسم "المؤسسات الخاصة برعاية ذوي الاحتياجات الخاصة"، وحتى تتضح الصورة فهذا ما حدث:

في البداية توجهنا إلى مؤسسة لاحتجاز الفتيات المعاقات بمنطقة المعادي بالقاهرة - وبالطبع حرصت على إخفاء هويتي كصحفية حتى أرى كل شيء بوضوح -وبمجرد دخولي من باب المؤسسة فوجئت بوجوه بائسة وأعين منكسرة تترقب الزائر الذي طرق الباب، لم أكن في حاجة لأن يخبرنني باحتياجاتهن حتى أدركها؛ فبمجرد أن رأينني – ورغم أنني لست مألوفة لهن - فوجئت بالصغيرات يحتضنني ويمسكن بيدي، ثم أقبلت على إحدى الفتيات المعاقات ذهنيًا، فقالت في براءة وتلقائية: أتمنى أن أرى أمي وشقيقتي.. فأنا لم أرَهُن منذ عام ونصف؛ حيث إنني حاولت الهرب من المؤسسة، وعندما علمت شقيقتي بمحاولة هروبي قالت: "لن أزورها حتى تتعلم الأدب".

داخل أحد العنابر شاهدت طفلة تبلغ من العمر حوالي 6 سنوات ترقد على الفراش، وتحاول إحدى زميلاتها المعاقات إطعامها ورعايتها، فسألتها: ماذا بك؟ فظلت صامتة، وأخبرتني زميلتها أن ساقها مكسورة، ثم رفعت الملاءة التي كانت تغطيها لأفاجأ بالطفلة وجسدها شبه عارٍ رغم برودة الطقس - في ذلك الوقت.

لقد توفيت هذه الطفلة الآن، وأخبرتني المشرفات في المؤسسة أن سبب الوفاة هبوط في الدورة الدموية، والله أعلم بالحقيقة!

أهذا هو الحزم !!

توجهنا إلى مؤسسة أخرى لاحتجاز الأولاد المعاقين في منطقة أخرى (الجيزة) من مناطق العاصمة المصرية، فوجدت الصغار يرتدون ملابس رثة، ويجلسون على الأرض؛ بل إن بعضهم كانت أجساده مصابة بالفطريات، بينما جلس مشرفو المؤسسة بعيدًا عن الأطفال ليتبادلوا أطراف الحديث في هدوء!

وفجأة انفجر طفل عمره حوالي 5 سنوات في البكاء، فحاولت تهدئته.. إلا أنه استمر في البكاء، فأدركت أنه يحاول إثارة اهتمامي، ولكن أحد المشرفين تدخل لعلاج الأمر، وصرخ في الصغار قائلا: "اجلسوا جميعكم، ولا أريد أن أسمع صوتًا، أو أرى أحدًا يتحرك من مكانه"!

أثناء زيارتي للمؤسسة علمت هذه القصة بالمصادفة، وهي أن إحدى الأمهات أخذت طفلها من المؤسسة ليقضي معها إجازة لمدة يوم واحد فقط! ثم أعادته للمؤسسة في اليوم التالي، إلا أن

 

 

الصغير هرب أملا في العودة إلى أحضان أمه، ولكنه لم يجدها، ووقع في يد الشرطة التي أعادته ليواجه مصيره داخل المؤسسة.

إخفاء المعاق

إن المأساة التي يعيشها هؤلاء الأطفال داخل المؤسسات الخاصة باحتجاز المعاقين ليست إلا انعكاسًا لنظرة مجتمعاتنا لهم. تقول حنان عبد الباسط -بكالوريوس تجارة وربة منزل: إحدى صديقاتي لديها طفل أوشك على إكمال عامه الرابع، ولا يستطيع السير، وتحرص صديقتي دائمًا على إخفاء مرض طفلها عن الجميع.. حتى وصل بها الأمر - رغم أنها جامعية - إلى أن تتوقف عن علاج الطفل حتى لا ينتشر خبر مرضه!

ويضيف محاسب - رفض ذكر اسمه، وهو أب لطفلة منغولية: "كثيرًا عندما أصطحب طفلتي في وسائل المواصلات أستمع إلى عبارات مثل: أبعدوا هذه الفتاة من هنا".

وتقول السيدة زينب محمد - لديها طفل مصاب بإعاقة ذهنية وحركية وصعوبات في النطق: عندما يخرج ابني بمفرده إلى الشارع يتعرض لمضايقات وعبارات سخرية، إلا أنني حرصت على أن أدفعه للاختلاط بالناس؛ حيث أصطحبه إلى النوادي أو في زيارة الأهل والأصدقاء.

وتؤكد السيدة زينب: أحرص على إشعار طفلي بأنه مثل إخوته الطبيعيين، وفي نفس الوقت أدفع إخوته ليساعدوه، وأحاول إقناعهم بحاجته إلى اهتمام أكبر ورعاية أكثر.

معاملة الأغنام

وتقول إخصائية اجتماعية وأم لطفلة منغولية - رفضت ذكر اسمها: "في البداية ألحقت طفلتي بمدرسة لذوي الاحتياجات الخاصة، إلا أنني وجدت المعلمين يتعاملون مع الأطفال كأنهم أغنام.. حتى وصل الأمر بأحد المعلمين أن حاول ركل طفلتي بقدمه! مما دفعني إلى إلحاقها بمدرسة عادية.

وتضيف: "في البداية كان الجميع يحاول الربط بين أي تصرف خاطئ ترتكبه طفلتي وإعاقتها، فطلبت من المعلمين أن يحاسبوها على أخطائها مثل الأطفال الطبيعيين". وتؤكد أن طفلتها تمكنت من الاندماج في المدرسة بشكل طبيعي، وهي الآن تبلغ 10 سنوات وتدرس بالصف الثاني الابتدائي، كما أن نسبة ذكائها ترتفع بشكل واضح. وتضيف أن المعاق يحتاج أن يشعر دائمًا بالحنان ودفء الأسرة، ولكن يجب أن يقترن ذلك بالحزم وتوجيهه نحو السلوك الصحيح.

كلام الأم دفعني للحديث مع الطفلة؛ فكانت ودودة ومرحة، أخبرتني بأنها تريد أن تصبح مهندسة، وتحب أصدقاءها في المدرسة، وتستطيع الذهاب بمفردها لشراء احتياجات الأسرة من المتجر المجاور للمنزل.

الخلل في الذات

يوضح د. "إلهامي عبد العزيز" أستاذ علم النفس، وكيل معهد الطفولة للدراسات العليا بجامعة عين شمس، أن مدارك الإنسان تتأثر باختلاف صورة الجسم، والطفل المعاق يشعر بأن ذاته بها نوع من الخلل يجعله مختلفا عن باقي الأطفال؛ وهو ما يدفعه للشعور بأنه دون الآخرين، ومعاملة الآخرين للطفل قد تؤدي إلى تعزيز هذا الشعور أو القضاء عليه. فمثلا بعض الأسر تتعامل مع أطفالها المعاقين كأنهم لا يصلحون لأي شيء، متجاهلين المواهب والقدرات التي لديهم، بينما تستطيع الأسرة أن تساعد الطفل على اكتشاف مواهبه وقدراته بشكل يدفعه إلى التميز.

ويضيف د. عبد العزيز أن الطفل المعاق قد يحتاج إلى قدر أكبر من الحنان والرعاية من جانب الأبوين، ولكن دون أن يشعر باقي الأبناء بذلك حتى لا تتأثر علاقتهم بشقيقهم، ويؤكد أن الحنان الزائد تجاه الطفل المعاق يؤثر على ثقته في نفسه، وقدرته على الاستقلال، والاعتماد على

النفس، فالمطلوب هو الاهتمام بالطفل مع دفعه نحو تطوير سلوكه، والاندماج في الحياة، والاعتماد على النفس.

تأهيل المجتمع

ويؤكد د. "أحمد المجدوب" مستشار المركز القومي للبحوث الجنائية والاجتماعية، الحاجة إلى تعديل سلوك المجتمع تجاه المعاق، ويضيف أنه بالرغم من أننا مجتمع إسلامي ومن المفترض أن نرحم الضعفاء والمرضى، فإن الواقع غير ذلك؛ فكثيرًا ما نجد الأطفال يسخرون من المعاقين ويعترضون طريقهم، والسبب في ذلك هو التنشئة الاجتماعية التي تفتقر إلى الجانب الديني والإنساني، ولقد ساهمت الأعمال الدرامية في تشويه صورة المعاق لدى المجتمع، فعلى سبيل المثال: في أحد الأفلام كان البطل كفيفًا، والمحيطون به يسخرون منه ومن إعاقته.

ويوضح د. المجدوب أن سوء معاملة المعاق تدفعه لانتهاج سلوك عدواني تجاه المجتمع الذي رفضه من البداية، في الوقت الذي يمكننا فيه مساعدة المعاقين على الاندماج في المجتمع من خلال مؤسسة حقيقية متخصصة في رعاية المعاقين، تقوم بدراسة شخصية المعاق وظروفه اجتماعيًا ونفسيًا وثقافيًا، وتضع برنامجًا يعمل على دمج الطفل داخل المجتمع، ولا يُشترط في هذه المؤسسة أن يقيم فيها الطفل إقامة دائمة.

وفي النهاية لا بد أن نعترف جميعًا بأن الإعاقة ليست جريمة حتى نخجل منها أو نخفيها عن الآخرين، كما أن المعاق ليس مجرمًا حتى نعزله عن مجتمعه. فالمعاق قادر على تطوير سلوكه والاندماج في مجتمعه، بل والإنتاج فيه، ولكن يجب أن نعطيه الفرصة

emansamy

Emi

  • Currently 45/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
15 تصويتات / 315 مشاهدة
نشرت فى 11 سبتمبر 2005 بواسطة emansamy

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

1,306,890