السيد ميم /قصه قصيرة
‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘
ما أصعب أن تصحو يوماً من نومك وتجد نفسك ناسياً لكل شئ مر بك .
كل ماضيك ما عاد يبرق فى ذاكرتك وما عدت تذكر أى شئ مما حدث لك طوال عمرك الفائت .
من أنتَ ؟ ومن تكون ؟
ما إسمك ؟ وأين تعيش ؟
من أهلك ؟ ومن أصدقاؤك ؟
لا تذكر أى شئ عن كل ما سبق ، كل ما تعرفه هو ذلك الشكل الذى هو أنتَ عليه الآن وتراه فى مرآتك ، رجل يافع .. خمرى اللون ، حليق الشارب والّلحيه ، يبدو أنه على عتبات خريف العمر من ذلك اللون الأبيض الذى زحف على جوانب شعره ومقدم الرأس .
حتى الملابس التى يرتديها الآن لا يعلم عنها شئ فقد أتت بها الممرضه وطلبت منه أن يرتديها ليستطيع أن يخرج بها من المستشفى وينتقل إلى مشفى خاص للدكتور / إسماعيل مدكور لتأهيل مثل هذه الحالات للإندماج فى الحياه بعد ذلك حتى تعود لهم الذاكرة أو يعتادوا على حياتهم الجديده . حيث كانت حالة بطلنا لها إهتمام إنسانى خاص لدى الدكتور إسماعيل .
وكانت مشفى الدكتور إسماعيل التأهيلى عبارة عن فيلا كبيرة وحديقه أكبر يُمارس فيها النزلاء كل هواياتهم لرفع معنوياتهم ولإكتسابهم مهارات مختلفه تمكّنهم من التغلّب على ظروفهم .
وبدأ أيامه الأولى هناك منزوياً بعيداً عن الإختلاط بأحد ، يجلس فى غرفته ساعات طويلة ، وحين يخرج إلى الحديقة يجلس وحيداً أيضاً وبين يديه كتاب يقرأ فيه ، كان الكتاب هو السلوى الوحيده له ، لا يذكر أين تعلم القراءة ولا أى شهادات حصل عليها .
وكان يقرأ أى شئ يقع أمامه ، تجذبه القراءه بشكل عام . وكان من الطبيعى أن يسجّل الدكتور إسماعيل هذه الملحوظه الهامه فى سجل بطلنا .
وظل على هذا النحو ليس كثيراً إلى أن جاءت إلى المشفى إخصائية نفسية جديده وكانت شُعلة من النشاط وتحب عملها وتتقنه جيداً ، ولفتت حالة بطلنا نظرها وحاولت مساعدته وأقنعت الدكتور إسماعيل بنشر صورته بالجرائد وعلى شبكة التواصل الإجتماعى ليتم التعرّف عليه لأنه حين أتى إلى المستشفى جاء ضمن حادث اتوبيس السوبر جت وعربه نقل ترلّه على الطريق السريع ولم يحصلوا على اىة بيانات أو أوراق تكشف عن هويّة من مات ولامن أُصيب .
وتعاطفت كثيراً الإخصائية النفسية مع حالة (السيد ميم ) وهو ذلك الإسم الذى أطلقوه عليه فى المستشفى وسبب إختيار ذلك الإسم هو أن حالته كلها محصورة فى تساؤلات حرف الميم :
من هو ؟ .. ما إسمه ؟ ..ما عمله ؟..من أهله ؟..من أين أتى ؟.. ما وجهته ؟
واستطاعت أن تخرجه من حالة العزلة شيئاُ فشيئاً ... وبدأ يندمج مع نزلاء المشفى ويسهر معهم فى إستراحة المعيشة لمشاهدة التلفاز .
وبعد عدّة أيام من نشر صورة السيد ميم فى الجرائد وشبكات التواصل الإجتماعى جاءت إلى المشفى إتصالات عديدة يدّعى أصحابها أنهم أهل السيد ميم ولكن لم يتمكّن أحد من إثبات حقيقة إدعاءه إلاّ السيدة / نوال والتى قدّمت لإدارة المشفى جواز سفره وصوره ضوئيه لبطاقته وشهادة ميلاده وصور له مع عائلته وفى مقر شركته وأقتنعت إدارة المشفى بصدق السيدة نوال بعد أن تأكّدوا من سلامة الأوراق المقدّمه .
ولكن كل هذا لم ينعش ذاكرة السيد ميم فى شئ ، ولم يهتم بظهور السيده /نوال والتى تقول أنها زوجته بل كان ينفر من الحديث معها ويرفض أى تعامل منها معه أو محاولة لتذكيره بشئ من ماضيه .
كان السيد ميم قد تعلّق بالإخصائية النفسية التى إستطاعت أن تخترق حاجز الصمت عنده وأن تجعله يقبل الخروج من الشرنقه التى ظل حبيساً بها فى أوائل أيامه بمشفى الدكتور إسماعيل .. وكان يحادث نفسه كثيراً كل الشواهد تقول أن السيدة نوال هى زوجتى وأن الأوراق التى معها سليمة وحقيقيه ولكن أشعر بنفور من أى تعامل معها ولا مع الواقع الذى تحكى عنه ، ولم أتمكن من تذكّر أى شئ من الأمور التى تتحدث عنها ، كل ما يشغلنى هو ذلك الملاك الذى دخل حياتى القاتمه فى صورة الإخصائية النفسية فقلبت كل الموازين عندى ، وصرت أحب الحياة وأحب الناس بعد أن كنت أهرب من أى شخص يحاول الإقتراب منى وكأننى كنت سعيداً بذلك الغموض الذى غلّف حياتى فجأه وجعلنى أبدأ من جديد وأُولد من جديد ....
وما دام الأمر كذلك فمن حقى أن أختار من جديد شكل الحياة التى أريد أن أعيشها
كيف للحياة أن تمضى على وتيرة واحده ؟
وكيف إذا ما جاءت لنا لحظة اختيار لنختار حياتنا من جديد أن نُضيّع تلك الفرصه أنا حقاً لا أذكر شيئاً عن الماضى ، ولا أريد أن أذكر شئ .
أنا فقط السيد ميم عمره أيام أو اسابيع أو شهور فى خريف عمره يعشق القراءه ويحب مساعدة الآخرين ... ويحب الإخصائية النفسيه ... ويحب مشفى الدكتور إسماعيل ولا يتمنى الخروج منها أبداً .
ولم تكن الإخصائية النفسية على نفس قدر المشاعر التى يحملها لها السيد ميم
ولكنها كانت تتعاطف معه وتتعاطف مع حالته التى ترفض الإنصياع لواقع لا ترضاه رغم أنه يحمل حقيقة شخصيته وماضيه
ولم يكن أمام الدكتور إسماعيل إلاّ أن يجد عملاً للسيد ميم داخل المشفى والرضوخ إلى إلحاحه الشديد وتوسلاته
ويظل السؤال المطروح قائماً : هل إذا ما جاءت أحدنا لحظة اختيار لحياة جديده وهو فى خريف عمره أن يترك كل ماضيه خلف ظهره ويبدأ من جديد مع أشخاص يختارهم من جديد وطريقه للحياة من جديد ؟
ربما
فقد يكون السيد ميم داخل كل إنسان منّا ،،،،،،،،،
بقلم / إبراهيم فهمى المحامى
2/11/2015