"جون كيتس".. اسمه مكتوب على الماء
كعادة العباقرة، لم يحظ الشاعر الإنجليزي "جون كيتس" بالتقدير أثناء حياته، بل وصل الأمر بالنقاد إلى احتقاره، وليس تجاهله فحسب؛ حتى أعادت الأجيال اللاحقة اكتشافه، فانتشرت أعماله وقصائده إلى يومنا هذا، ورآه البعض يُضاهي مواطنه الأشهر ويليام شكسبير في البراعة الشعرية.
كيتس من مواليد العاصمة البريطانية لندن في 31 أكتوبر عام 1795، وكان ابنًا لأبوين يعانيا الفقر، حتى أنهما لم يتحملا تكاليف المدارس باهظة الثمن، فأرسلاه في صيف 1803 لمدرسة قريبة من منزل جديه، ثُم لم يلبث أن قُتل أبوه الذي كان يعمل في تأجير الخيل والعناية بها، فتزوجت أمه بعد أسبوعين من مصرفي، لكنها سرعان ما فرت منه تاركةً أطفالها الأربعة، لتظهر بعد خمسة أعوام محطمةً جائعة ينهشها مرض السل، والذي انزل لعنته على الأسرة ليقتل الأم وأخاها، ثم أبناءها الواحد بعد الآخر، وهو نفسه الذي توفى جون بسببه فيما بعد.
ترك كيتس الدراسة وهو في السادسة عشرة للالتحاق بالعمل كصبي عند أحد الأطباء المحليين، فأظهر نجاحا لا بأس به، واجتاز امتحان الطب والصيدلة عام 1816، ولكنه سرعان ما قرر أن يترك الطب وأن يهب حياته للشعر، فنشر أول قصيدة له "آهٍ أيتها العزلة"، والتي ظهر فيها مُحاكاته للأسلوب الكلاسيكي، حيث أعجب بالإغريق والشعر الملحمي والأساطير، فوصل مرحلة من الإتقان الشعري قل نظيرها، حتى شبهه البعض فيما بعد بأنه كاد يصل لمكانة تصل للمرتبة التي وصل لها شكسبير.
وعلى الرغم من حياته القصيرة، التي لم يمُارس فيها الشعر إلا خمسة أعوام، خُلّد اسم كيتس في التاريخ كواحد من أهم الشعراء الإنجليز على مرّ العصور، رغم أنه طوال حياته لم ينل اهتمام النقاد، بل حظى بالتجاهل والاحتقار، لكنه استطاع بمقدرته الإبداعية أن يُسيطر على النظم الإبداعية في تلك الفترة بسبب نضج أفكاره وآرائه الشعرية، ورسائله التي نظّر فيها للشعر وخصائصه، ما جعله ظاهرة فريدة في تاريخ الأدب الإنجليزي، وكان شخصية حساسة جدًا، وعاني من القلق الوجودي، وكان شعره هو الملاذ الذي يُعزّي به نفسه، ويتنفس من خلاله الصعداء، وينطلق بعواطفه إلى الرومانسية.
تعرّف كيتس امرأة تدعى "فاني براون"، أحبها وتغنى بها في قصائد مؤلمة، ولكنه لم يستطع أن يتزوجها، فنشر قصيدته الرائعة "المرأة الجميلة بلا شفقة"، التي يتحسر فيها على المرأة التي أحب؛ وشهدت الأشهر الأولى من عام 1821 تراجعًا طفيفًا في المرحلة الأخيرة من إصابته بالسل، وبدأ بالسعال دمًا والعرق، وكان يبكي أحيانًا حين يستيقظ من نومه ويجد أنه مازال على قيد الحياة.
توفي كيتس في العاصمة الإيطالية روما يوم 23 فبراير 1821، ودفن في مقابر البروتستانت وكان طلبه الأخير أن يُدفن تحت شاهد قبر لا يحمل أي اسم أو تاريخ، وأوصى فقط بأن توضع على قبره جملة "وهنا يقبع شخص اسمه مكتوب على الماء".