* ولج عطا الله الغرفة المخصصة له من بيت عمه خلسة وبحذرشديد آملا أن لا يراه أحد المتواجدين في البيت *ولم يوصد الباب تماما *لحظته ابنة عمه هند *فاستغربت سلوكه غير المعهود هذا *نهضت *تقدمت بهدوء نحو الباب التصقت بالجدار*وأخذت تسترق النظر من الفتحة الطولية الضيقةالتي تقع بين الحائط و الباب المفتوح ربع فتحة*رأته يفتح الخزانة ويتناول منها بنطالا وسترة رماديين عتيقين ويدسهما بسرعة البرق في حقيبة قماشية صغيرة *ثم يلحقهما حذاء طويلا أسود شبه مهترىء ومنشفة صغيرة ويغلقها بمعصمها الخيط السميك * ثم يخرج بطاقته الشخصية وبطاقته الجامعية من جيب قميصه الذي يرتديه ويضعهما على الرف العلوي من الخزانة *ثم ينبش بين الملابس التي رتبتها له هند بإتقان في ذلك الرف ويسحب ما يشبه البطاقة ثم يدسها في جيبه*ويعيد الكرة ليسحب قلادة من قماش رفيعة يعلقها في رقبته *وقد تدلت منها قطعة معدنية مربعة *وقبل أن يغلق باب الخزانة ويخرج *كانت هند قد صبت كل ما شاهدته في أذني والدها بسرعة وانفعال وخوف وحرص *بينما كانت أمها تلقي السمع باستغراب*وما إن وصل عطا الله وسط الردهة في طريقه للخارج حتى سمع صوت عمه محمود : يا طبيب العشيرة! أقبل ! تعال ***ارتبك عطا الله قليلا ثم انثنى صوب غرفة عمه *حيا الحاضرين ثم قال: نعم يا عم*تفضل *ماذا تريد ؟؟؟ --:اجلس*جلس نصف جلسة ووجه بصره تلقاء عمه *--:أمرك يا عم*قال عمه محمود: مالي أراك اليوم لست كماضي الأيام *كنت عندما تدخل ساحة البيت تعلن الوصول بكلمات الاستئذان العالية والتحية الصاخبة *ثم تسلم علينا* تصافحنا فردا فردا * تسأل عن الغائب *تطمئن على أم سليم *تداعب الصغير *تمازح الكبير فيضج البيت بوصولك *وتنشط حركته *وما عهدت البسمة شردت يوما عن شفتيك *وكنت عندما تنوي الخروج تبلغنا حتى عن عدد محاضراتك في الجامعة* ومتى تنتهي منها *ومتى تصل البيت * بينما اليوم دخلت خلسة وأخذت ما أخذت وحاولت الخروج دون علمنا *ووجهك متجهم * ما الأمر يا عطا الله ؟*وماذا في حقيبتك؟ *هاتها لأرى ما بها* *****مد عطا الله الحقيبة لعمه ولم ينبس ببنت شفة *طأطأ رأسه*عدل جلسته*وضع كفه اليسرى على فخذه ومد سبابة اليمنى بعد ضم أصابعها وأخذ يداعب بها قشة صغيرة أمامه*فتح الحاج محمود الحقيبة وحرك يده داخلها متفحصا وعيناه صبتا نظريهما فيها ثم أغلقها وأمر هند الواقفة بحذاء ابن عمها وقد حاصرها الغم والدهشة والاستغراب مما يحصل أن تصنع لهم إبريق شاي* ونصح من تبقى من أبنائه الصغار بالتوجه للدراسة *وكتابة الواجبات المدرسية البيتية ** انصاع الجميع *خلا الحاج محمود وزوجته بابن أخيه:--:في هذه الحقيبة سر تحاول إخفاءه عنا *أنت هنا كأمانةوضعها أخي علي عندنا *والأمانة ثقيلة* وكونك ابن أخي وقد أصبحت فردا من هذه الأسرة *فحري بنا أن ننصحك ونحرص عليك ونهتم بك ونعرف كل صغيرة وكبيرة تقوم بها *غادرت الظاهرية ملتحقا بالجامعة تدرس الطب *والتفاؤل يحدو جميع أهل القرية أن تعود أول طبيب يفتح عيادة في القرية كما وعدت مودعيك *والآمال معقودة عليك *ووالدك لم يأل جهدا في تلبية كل متطلباتك المالية*ولم يقصر يوما*ولم نشعر نحن لحظة أنك في عوز *ما الذي يدفعك للعمل؟ هل ينقصك مال ؟؟؟ هل تحاول تخفيف وطء المصروف عن كاهل أبيك ؟ صارحني!! أصدقني القول !! أنا بمنزلة أبيك ******* تربع عطا الله في جلسته ونقل يده اليسرى إلى حجره وكفها للأعلى كأنما يجمع الردود فيها *بينما تلون وجهه ثم امتقع باحمرار شديد* لاحظت أم سليم ارتباكه الشديد *وكادت صينية الشاي تقع من بين يدي هند بما عليها وسط الجالسين نتيجة توترها وتأثرها لمشهد ابن عمها المؤثر * كيف لا وهوفي نظرها رفيق العمر المأمول لها ؟****وقبل أن تفكر هند بالجلوس دفعتها أمها بإشارة للمغادرة *ثم قالت للشاب:إذا طغى عليك الحياء بوجودي وألجمك عن الحديث فأنا ذاهبة *قال عطا الله :لا لا لا *ابقي واسمعي * يا عم !يا عمة ! اسمحوا لي بالخروج فهناك من ينتظرونني على تقاطع الشوارع منذ نصف ساعة *والوقت قد ضاق كثيرا علي*** أدرك عمه أن نية العمل عند عطا الله ليست المقصودة *بل هناك سر آخر لهذه الملابس شبه البالية*والتي لا تصلح إلا لعمل في المزارع أو في البناء *شددا الضغط عليه وحاولا منعه بكل الوسائل ثم أقسم عمه أن لا يخرج إلا بعد مصارحته واقتناعه بعذر***** أدرك عطا الله الشاب المطيع المهذب الصادق الخلوق أن لا مفر من فتح صفحة الصراحة وقراءتها عليهما ****** تغيرت أسارير وجهه* وشنف الاثنان آذانهما لسماع ما يقول:عندي عمل خارج الجامعة* ربما ليوم أو ليومين *ولا يتجاوز الثلاثة* وأعاهدك بعد عودتي إن كتب الله لي العودة أن أكمل دراستي وبانتظام ومثابرة *ارتجفت أم سليم *استنفرت قواها*سوت جلستها ثم سألته: ماذا تقصد بقولك/إن كتب الله لي العودة/*بالله عليك لا تخف عنا أمرا يخصك *نحن نحبك *****قال : يا عمتي !!! صليت الصبح قرأت ما تيسر *دعوت ما شاء الله *ثم أخذتني غفوة فرأيت في السماء فتحة وعليها ثلاث حوريات تتنافس علي *وأخيرا اتفقت الثلاث أن أكون لهن كلهن * ثم قلن لي ننتظرك الليلة الثالثة*قلت لهن:أعدكن *ثم استيقظت سعيدا بهذه الرؤيا *فيا عم !!! هل تأذن لي بالخروج *وأنا عند وعدي لك أيضا أن لا أكرر الغياب عن الجامعة بعد هذه المرة *** نظر ابو سليم لزوجته***ثم ذرفت عيناه دمعتين حزتا قلبه بحرارة الوداع الأخير *ثم قال له:أطعمك الله مناك* نهضا فودعه عطا الله وقبل جبينه *وأما زوجة عمه فقد خارت قواها مما سمعت وعجزت عن النهوض *وانطلق صوب البوابة مسرعا مرفرفا كالطائر الذي منح حريته وهو يكرر :دعواتكم دعواتكم *سبقته هند تفتح له البوابة*وهي ترتجف هلعا __: هند!!! ادعي لي !!!التقت نظراتهما * تبسما بسمتين رقيقتين حزينتين *قالت :ترجع سالما *قال : أنت لن تكوني الرابعة ****ثم انطلق مسرعا***ولم يترك لهند فسحة ولو قصيرة كي تطلب منه تفسير جملته عميقة المعنى ****كان وقت أبي سليم الصباحي هو فقط الزمن المنظم في حياته :يستيقظ*يتوضأ* يتوجه للصلاة في المسجد ثم يعود دون أن يعرج على أي مكان *يقرأ جزأه *ثم يفتح المذياع لسماع نشرة الأخبار الصباحية الثانية *ثم يغوص وقته بعد ذلك في فوضى الحياة**** لكن !!! خلال الأيام الثلاثة الأخيرة نسي أبو سليم نومه و ماضيه وحاضره بعد خروج عطا الله وانغرس تفكيره المستقبلي في صباح الليلة التي سيستقبل فيه ابن أخيه ****كان يحس أن الوقت يكاد يتسمر ثم تستمر حركته *كأنه يدب طورا ويحبو تارة إلى أن شنف أذنيه عند سماع أول خبر في النشرة الإخبارية الصباحية الأولى : جاءنا الآن ما يلي:نفذت إحدى المجموعات الفدائية عملية بطولية ضد قوات العدو الرابضة على الجبل واستمرت المواجهة المسلحة حتى قبيل فجراليوم وقد حققت المجموعة أهدافها *واستشهد قائد المجموعة الشهيد البطل عطا الله علي سليم* أغلق أبو سليم المذياع بيد مرتجفة عل الصمت يفتح أمامه فرجة للتدبر *لكن!!! لم يخيم الصمت : كان ذكر الله يجلجل في كل مكان