الشاعر الجزائري الكبير عادل سلطاني، والباحث في علم الإجتماع من مواليد مدينة بئر العاتر ولاية تبسة عام 1967م، وهو شاعر يكتب بالعربية الفصحى، والأمازيغية، والفرنسية، إنه الرابض في أرض اللغات التي يرعاها بعين المحب العادل، فيتقن العربية، ويتجذر في الأمازيعية، ويتحدث الفرنسية، كما يكتب العامية، فلا يجد غضاضة في ذلك، ولا عوجًا ولا أمتًا، كما أنه لا يتحدث بتلك اللغات وحسب بل ينتجهم ثمارًا من الشعر الجيد، يسعدني أن ألتقيه عبر صفحات ذي المجاز، وأخصص هذا الحوار فقط عن الأمازيغية اللغة والتاريخ والثقافة، وما يتصل بها، فلنبدأ معًا:
ـ كيف تستطيع الأستاذ عادل سلطاني كباحث أن تقدم لنا الأدب الأمازيغي نحن أبناء المشرق؟ خاصةً ونحن الذين وأدنا اللغتين القبطية والنوبية لصالح العربية، وننظر إلى بروز الأمازيغية ـــ لقلة معرفتنا ــ بأنها ربما تشكل تهديدًا للعربية؟
ــ مشكور أستاذنا الفاضل الأديب المتميز السيد إبراهيم أحمد على استضافتك لي في هذه الفسحة الحوارية الممتعة المضيفة التي أتاحت هذا التواصل المثمر القارئ معية ذاتك المبدعة المثقفة لأبدأ رحلة الغوص الممتع لسبر غور أسئلتك العالمة العارفة العميقة.
مازلت أذكر حينما سألني الأستاذ الشاعر السوري الصديق حسن إبراهيم سمعون: ماالفرق بين "التيفيناغ" والحرف الدراج الآن، وحبذا لو بطرح مقارن، الأمازيغ أمة وشعب له الحق بتراب، ووطن، ولغة؟
فأجبته: بأن" التيفيناغ" هو الأبجدية الأمازيغية التي دونت بها هذه اللغة الممتدة من جزر الكناري بإسبانيا مرورًا ببلاد "تمازغا" الواسعة بمغاربها الثلاثة الأقصى والأوسط والأدنى مرورًا بليبيا إلى واحة سيوة بمصر إلى الصعيد الذي تقطنه قبائل هوارة إلى الهجرات الكتامية الأمازيغية المختلفة أثناء فترة حكم الدولة الفاطمية وهذه الحروف منحوتة في أكثر من موضع بالشمال الإفريقي في مناطقه الشمالية المختلفة والجنوبية بالصحراء الكبرى، وأمة الطوارق الأمازيغية هي الوحيدة التي استمرت في الكتابة بهذه الأبجدية العريقة إلى يومنا هذا.
وفي هذا الصدد أشارت الباحثة الجزائرية مليكة حشيد بأن هذه الأبجدية قديمة قدم الإنسان الشمال إفريقي، وهناك من الباحثين من يرجعها إلى سبعة آلاف سنة قبل الحاضر وهي امتداد للحضارة القفصية نسبة إلى إنسان قفصة الماقبل تاريخي وكانت هذه الكتابة تزخرف المصنوعات الفخارية التي أنتجها هذا السلف القديم بعبقرية فذة ولازالت هذه الرموز الموروثة من الأسلاف تنتج بذات الطريقة القديمة بكامل تراب الشمال الإفريقي وعليها نفس الزخارف القفصية القديمة.
إن المتتبع لظاهرة الوشم العريقة القديمة كظاهرة عقدية طقوسية دينية لدى النساء الأمازيغيات، وأنا واحد من المتتبعين حيث وجدت أن أبجديتنا الأمازيغية حفظتها أجساد النسوة "عجائز الجيل الماضي الذي بات على عتبة الانقراض والزوال"، وغالبية الحروف موشومة على أجسادهن لا سيما الوجه والأطراف والأرجل، كممارسات طوطمية قديمة، والتيفيناغ أيضا يسجل حضوره في الصناعات التقليدية الأمازيغية على غرار المنسوجات الصوفية بأنواعها المختلفة إضافة إلى صناعة الحلي الفضية إلى تزيين الأواني الفخارية، كما نجده حاضرًا على أجسام الخيول البربرية البيضاء المستعملة في رياضة الفروسية الأمازيغية المنتشرة في بلاد تمازغا الواسعة بمغاربها الثلاثة أو ما يعرف بالفنتازيا مكتوبا مرسوما بالحناء على أجسادها الجميلة الرشيقة الناصعة ، حيث وجدت أن هذه الظاهرة الوشمية حفظت غالبية الحروف الأمازيغية بشكلها التيفيناغي العتيق، أما الحرف الدارج الآن فهو تيفيناغ حديث مستمد من القديم الذي اشتغل على معيرته المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية بالمغرب أي أنه أبجدية ممعيرة دخلت إلى لوحة المفاتيح ويمكن الكتابة بها الآن كأبجدية للغة الأمازيغية لأن هناك مخارج حروف في الأمازيغية التي تبلغ ثلاثة وثلاثين حرفا لايمكن أن يستوعبها بشكل صحيح إلا التيفيناغ، وإنما كتابتها باللغتين العربية والفرنسية فيندرج ضمن إطار تسهيلها على القارئ وحسب أثناء عملية التلقي.
من البديهي الساري السائد فإن اللغات كما نعرفها نحن المسلمون آيات من آيات الله وكلها أوعية نتاجية بشرية للتواصل ناقلة للوحي الرسالي السماوي، وكل لبنة لغوية في هذا الجدار اللساني الإنساني تؤدي إلى تماسكه، ولا أشق على نفسي من هلاك لسان واضمحلاله لأن ذلك يعني هلاك لبنة منه تؤدي في آخر المطاف إلى تصدع جدارنا اللساني الإنساني ومن ثمة انهياره وسقوطه وعلى كل حصيف عاقل ذي لب أن يتصور حجم الخسارة بزوال هذا اللسان أو ذاك.
ومن المهم بما كان فإن الأدب الأمازيغي شكل على مر التاريخ ولا يزال يشكل ذاكرتنا الجمعية، فهذه الظاهرة الأدبية الاجتماعية مازالت عالقة بالمخيال يحاول من خلالها المبدعون في هذا الفن أو ذاك نثرًا أوسردًا أو مثلاً أو أغنية أو شعرًا تخييل الواقع المعيش بكل حيثياته وتفاصيله فنجد الإنسان الأمازيغي يعيش في محيط واسع من العلامات التي مازالت تشغل فكره مشكلة منظومة علاماتية اتصالية على رأسها اللغة ناحتة بذلك هاجسه الإبداعي والوجودي والاجتماعي في تعاملاته اليومية الحياتية السارية في المحيط الذي يشغله ، فلاتزال هذه الأرصدة الثقافية تثري لغتنا الأمازيغية المطبوعة المختومة بالظاهرة الشفوية المستمرة في الزمان والمكان؛ فلغتنا قاومت شتى عوامل الذوبان وخرجت منتصرة بسمتها الشفوية التفاعلية كعملية اتصالية أوصلت لنا عبر المجايلات المختلفة هذا الأدب الجم الذي لايمكن لنا إلا أن نصفه بالظاهرة المقاومة لشتى أنواع التلف.
ــ هل معنى هذا أنك تنتصر للشفاهية السابقة على الكتابية كحافظ وموصل للتاريخ واللغة الشاعر والباحث الكبير؟
ــ لست بهذا الصدد أنتصر للظاهرة الشفوية وإنما أذكر ميزاتها وفضلها في حفظ الهوية الأمازيغية من الاندثار والتلاشي والانقراض وإنما لابد من ممارسة الظاهرة التدوينية في حفظ هذا الإرث الأسلافي الذي يجب أن لا نقف عند مقاومته المستمرة في الفضائين المكاني والزماني مكتفين بهذا المجد المكتسب، وإنما يجب علينا كحملة لهذه الرسالة الهوياتية أن نطور لغتنا في ظل التطورات السريعة المتلاحقة التي يعيشها العالم من حولنا ولانكتفي بأمجاد الماضي وحسب ولكن يجب علينا أن نجعل هذا الإرث قاعدة نحو الانطلاق لتطوير اللغة على جميع الأصعدة حتى نتبوأ مكانتنا اللائقة بين شعوب المعمور لنضيف لنا وللإنسانية هذه اللبنة الأمازيغية لتساهم في الحضارة الكونية، فكما يقول المثل الصيني: "حبر ضعيف خير من ذاكرة قوية"، فكم فقدنا نحن الأمازيغ من ذاكرات حفظت لنا تراثنا وأدبنا ..
ــ السؤال الذي يفرض نفسه: ماذا فعل أهل القلم من المبدعين الأمازيغ في سبيل إحياء لغتهم وأنت واحد منهم الشاعر والباحث الكبير عادل سلطاني؟
ــ المبدعون الأمازيغ اليوم يشتغلون على إحياء لغتهم الأم التي فطرهم الله عليها وتطويرها حيث تم إدخال الأبجدية الأمازيغية المعروفة بتيفيناغ التي طورها المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية بالمغرب في لوحة المفاتيح بعد أن اشتغل على معيرة اللغة لتصبح الآن في متناول الراقن على الحاسوب، وهذا الحدث الهام في مسيرة تطوير الأمازيغية أتاحته التقنيات الاتصالية الحديثة في مجال الحوسبة والمعلومات، وبعد سنوات مريرة وطويلة من النضال الأمازيغي من أجل الاعتراف بالهوية الأم لشمالنا الإفريقي المسمى "تمازغا" أو كما كان يسميه الفراعنة المصريون "أمينتي" أي عروس المغرب حيث أدى هذا النضال إلى الاعتراف باللغة الأمازيغية كلغة رسمية وطنية في الجزائر تدرس في المدارس بأطوارها المختلفة من الابتدائي إلى الجامعي وحذت مغاربنا الثلاثة حذو الجزائر مطالبة أنظمتها بدسترة اللغة الأمازيغية كلغة وطنية ورسمية ولم يؤت النضال أكله إلى حد الآن في الدول الثلاث رغم ضغط هيئات المجتمع المدني على غرار المنظمات والجمعيات الفاعلة سواء كانت حقوقية أو ثقافية لافتكاك هذا الحق الشرعي العادل.
ــ فما المشكلة إذن وقد تم الاعتراف بالأمازيغية كالعربية تمامًا بتمام؟
ــ المشكلة في الأساس ليست مشكلة تعايش لساني لغوي، وإنما المشكلة الحقيقية تتمثل في الأنظمة السياسية القمعية وشوفينيتها المتطرفة جراء غياب المناخ الديمقراطي الذي يكفل الحريات للجميع وحينها ستعيش الألسنة متناغمة متساندة متآزرة فيما بينها متكاتفة تعضد بعضها بعضا لتحقيق آية الاختلاف اللساني الرباني المعجز فالهوية اللسانية الإنسانية في حقيقتها الفطرية الجبلية متشكلة من فسيفساء جميع الهويات المبثوثة في هذا النسيج اللساني الاجتماعي أو ذاك، فالظاهرة التدوينية الأمازيغية قديمة قدم الكتابة وارتباطاتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في تمازغا الواسعة السعيدة من جزر الخالدات بإسبانيا إلى واحة سيوة المصرية، حيث التفت المثقفون المبدعون بهذا اللسان الأم إلى نشر إبداعاتهم المختلفة شعرًا وسردًا بمختلف أنواعه بالحرفين العربي واللاتيني والتيفيناغي إضافة إلى الدراسات الأكاديمية والرسائل والأطروحات الجامعية والترجمة من اللغات إلى الأمازيغية ومنها إلى العربية والفرنسية وغيرها من الألسن، فالأدب الأمازيغي لم يكن يومًا منكفئًا متقوقعًا على ذاته يرفض الاختلاف والآخر بل يساهم ما وسعه الجهد إلى تعريف الآخر بهذا الإبداع والانفتاح على العالمية في زمننا العولمي المعيش بكل تغييراته السريعة المتواترة، فكما يقول توماس فريدمان: "أصبحنا في عالم مستو أنت لم تبدأه ولا تستطيع أن تنهيه". راميًا من هذه المقولة الرجراجة الهلامية إلى فتح قوسي الهيمنة الثقافية الأمريكية على العالم وسبكه في ثقافة واحدية ينتهي عندها التاريخ.
ــ معنى هذا أن هناك خطر ما يحيق بالأمازيغية، أو بشكل آخر أنت تقصد "العولمة"؟
ــ نعم، ولهذا كان على المبدع الأمازيغي أن يراعي الانفتاح على العولمة دون التفريط في أدق الخصوصيات الأمازيغية التي تعكس هاجسنا الهوياتي الممتد في الزمان والمكان أما فيما يتعلق بتقديم أدبنا الأمازيغي لتعريف أبناء المشرق بهذا الإبداع المختلف فإن الترجمة إلى اللغة العربية هي همزة الوصل لكي نتواصل والقارئ المشرقي ومن خلال احتكاكي ببعض الأصدقاء المشارقة من مصر وسورية الذين طلبوا مني ترجمة نصوصهم الشعرية إلى الأمازيغية على غرار صديقي الشاعر السوري حسن إبراهيم سمعون وصديقي الدكتور عزت رمضان الخطيب المصري الذي أجابني من خلال رده على ترجمتي الأمازيغية لقصيدة المخيم لشاعرنا الفلسطيني الراحل الصديق طلعت محمود سقيرق: "هذه أول مرة أقرأ فيها شعرا باللغة الأمازيغية وأدهشني وشعرت بالتقصير أيضا عندما رأيتها تكتب بحروف عربية ووجدت فيها موسيقى من نوع خاص لتراث إنساني أظنه يحارب من أجل البقاء على قيد الحياة.
ــ هنا يكون التساؤل أخي الكريم الباحث الكبير عادل سلطاني عن دوائر الانتماء اللغوي والقومي وهل تتعارض مع الانتماء القومي الأوسع للقومية العربية؟
ــ أنا أرى أن اللغات والقوميات المحلية هي إثراء لتراثنا القومي العربي والإسلامي والعالمي وواجبنا نحوه أن نثمنه غاليا ." وكان ردي عليه لأنقله للقارئ الاتحادي كما هو في هذه الفسحة الحوارية العاقلة القارئة الواعية: "أهلا بالحبيب الغالي، أسعدتني لمستك الخطيبية الدافئة أيهذا الشاعر الندي الإنسان، وأيضا قراءتك الواعية القارئة العاقلة لواقع الانتماء اللغوي المحلي الإقليمي ومدى تناغمه مع الانتماء القومي اللغوي الأوسع، فتساؤلك صائب وفي محله فالواقع اللغوي الأكبر الأوسع هو محصلة هذا الواقع اللغوي المحلي أو ذاك، فأنسجتنا اللغوية المبثوثة من المحيط إلى الخليج لابد أن تشكل تناغمًا ــ وهي كذلك ــ على سجيتها الفطرية الجبلية الاجتماعية، وآية الألسن واختلافها دليل قرآني رباني يعكس إنسانية وكونية ناموس التناغم الفطري هذا الذي جعل الألسن المختلفة آية تتعايش في ظلالها كل الألسن في انسجام وتناغم، ولكن الضعف البشري وانحرافه عن الجادة الفطرية السوية يجعل من هذه الآية المعجزة الخالدة مثار جدل وتصادم تحركه أياد خفية شيطانية تحرف الآية الفطرية عن مسارها التناغمي، واللغة الأمازيغية على غرار اللغات الشرقية الأخرى تعتبر أختا للغة المصرية القديمة فهما من العائلة الحامية السامية كما شاع في أدبيات الألسنيين.
ــ دعني أسألك عن تجاور اللغتين العربية والأمازيغية وأنت تجيدهما وتبدع فيهما؟
ــ اللغة الأمازيغية كما اللغة العربية من حيث سيولة الاشتقاق ثرية جدًا، وأول ترجمة للقرآن الكريم كانت باللغة الأمازيغية وبإمضاء الخليفة الموحدي "المهدي بن تومرت" لقبائل "المصامدة" الأمازيغية في جبال الأطلس الشاسعة أثناء الحكم الموحدي، والفعل الترجمي من العربية إلى الأمازيغية قديم ومستمر لدى قبائل الشمال الإفريقي، ولم يمر نصف قرن بعد الفتح الإسلامي لبلاد المغرب القديم حتى أتقن الأمازيغ اللغة العربية لقربها من اللسان الأمازيغي بينما لم تؤثر لغة الرومان ودينهم رغم بقائهم زهاء ستة قرون في الشمال الإفريقي.
ــ ينبغي أن أعيد سؤالي الذي أوردته في المفتتح: هل تشكل الأمازيغية ـ اللغة ـ تهديدًا أو خطرًا على اللغة العربية شاعرنا سلطاني؟
ــ هذا اعتراف شجاع في سؤالك لا يصدر إلا من مشكاة ذات متصالحة مع نفسها تقدم على المساءلة الناقدة الواعية أستاذنا الحبيب..
لم تكن الأمازيغية يوما تشكل خطرًا لسانيًا على أي لسان كان بشكل عام وعلى اللغة العربية بشكل خاص لأن هذا الخوف في الحقيقة مبطن بدعاوى إيديولوجية قومية وبعثية واهية ضيقة جدًا تحسب كل صيحة لسانية عليها تلك النظرة المتعالية التي تظن بأن اللغات الأخرى التي بثها الله هنا وهناك في نسيجنا الاجتماعي الإنساني لا ترقى بأن تكون لغات لتصبح حينئذ ضاربة بظاهرة التواصل الاختلافي كآية من آيات الخالق في كونه عرض الحائط، فهذه النظرة التهميشية الإقصائية تعكس الخلل البنيوي في الحقيقة لدى هذه الذات اللا متوازنة التي فقدت البوصلة الائتلافية لتحقير المختلف لسانيًا وإقصائه وتهميشه فهي لا تتورع بهذا عن ممارسة ظاهرة الوأد اللساني بهاجس جاهلي منحرف عن النظرة الفطرية السوية التي تقبل بالظاهرة الاختلافية المتناغمة الصحية، فالتعصب للسان في المطلق لا يؤدي إلا إلى بث الفرقة والشقاق داخل الجسد الاجتماعي الذي تشكلنا فيه لسانيًا في سيرورته وصيرورته في إقليمنا الجغرافي من المحيط إلى الخليج لنحقق ظاهرة التعارف والمفاضلة بيننا بالتقوى ومخافة الله فالمحبة الجبلية الفطرية أساس التعارف اللساني بين الآدميين في فضائنا الأرضي المعمور.
ــ شاعر الجزائر الكبير عادل سلطاني: هل غاية الأمازيغ أن يحيوا أدبهم بلغتهم ليتخاطبوا هم به أم طرحه من خلال الترجمة على الساحة العربية، ومن ثم إلى الفضاء الأدبي الغربي، من خلال ترجمة نصوصه إلى العربية وغيرها، وخلق المتعاطي لهذا الأدب حتى لاينكفأ على ذاته؟
ــ أشكرك على هذا السؤال العاقل الواعي أستاذنا الأديب السيد إبراهيم أحمد، مما لاشك فيه كما أسلفت سابقًا مجيبًا على سؤالك الأول فإن الغاية من إحياء الظاهرة الأدبية الأمازيغية باختلاف الأجناس الإبداعية التي تشكل مفراداتها المتباينة حوامل تخييلية تحمل الهوية في طياتها الوجودية لا تتجاوز في الواقع إطار ظاهرة التعارف البناء، والحركة الثقافية الأمازيغية الحديثة ركزت على النشر من خلال الإصدارات المختلفة الورقية وأيضًا على تحديث آفاق هذه الحوامل لتواكب سيرورة التطور والانفتاح والتعايش السلمي الصحي معية نظيراتها في اللغات الأخرى في عالمنا المفتوح المنفلت المسطح جراء الثورة التقانية الاتصالية المذهلة، حيث نجد جميع الأجناس الإبداعية وبكل اللغات تسبح جنبا إلى جنب في فضاءات العالم الافتراضي الخائلي فلماذا لا نستغل نحن المبدعون هذه الظاهرة الصحية "البروكسيمية .
ـ دعني شاعرنا المثقف الكبير أوضح للقارئ "علم البروكسيميا"، ويقصد به "عمرانيُا" بأنه "علم المكان" وهو العلم الخاص بالمسافة وبالحواسيّة التي تصنعها العلاقة بين انسان وآخر داخل مسافة محددة ينشأ عنها تناغم وانسجام يؤثر في طبيعة الاتصال والاستقبال بينهما فيما يعرف بالثقافة البروكسيمية، التي تهتم بدراسة وسائل الاتصال بين مجموعتين ضمن ظروف مكانية متباينة.
ــ أصبت أستاذنا الكريم، فلماذا لا نستغل نحن المبدعون هذه الظاهرة الصحية "البروكسيمية".التي تتجاور فيها كل هذه الأجناس الأدبية الإبداعية والعلمية والتاريخية والإعلامية وغيرها لتكون هذه الأجساد التخييلية متجاورة في هذه الفضاءات التي يجب أن نكون فيها كفاعلين حقيقيين متسامحين وذواتهم الهوياتية الأم لنحقق انسجام الهوية الإنسانية الكبرى الجامعة اتصاليا من خلال هذا المتاح التقاني المذهل الذي يسهم في الحقيقة في تقريب هذه الهويات الإنسانية المختلفة لتنفتح على بعضها بعيدًا عن منطق الصراع والهيمنة مرسخة ظاهرة الحب ونظريته المتسامحة التي ترسي الآية الاختلافية على أرض الواقع، حيث يجب علينا أن نبتعد قدر المستطاع عن ظاهرة التعصب النصي الأعمى لهذا الشكل الإبداعي أو ذاك أو ما يمكن لي أن أسميه "العصبية النصية"، لأن هذه المؤسسات الخطابية اللغوية لابد أن تشكل منظومات متساندة متراصة كما اللبنات في جدارنا التخييلي كما جدارنا اللغوي الإنساني، ومن المعروف أن للأدب علاقة وطيدة وثيقة الوشائج والعرى باللغة الأم ولايشذ أدب الأمازيغية عن هذه القاعدة ولكننا نحن أمازيغ القرن الواحد والعشرين رغم خصوصية طابعنا الأدبي التخييلي وتناقله بيننا في أوساطنا الاجتماعية إلا أننا نريد من خلال إرادة جادة أن نعرف الآخر المختلف الأقرب فالأقرب فنقله إلى اللغة العربية يسهل طريقة التلقي والتواصل معية قارئِ العربية في أي مكان من المعمور ونقله إلى اللغة الفرنسية وغيرها من اللغات يسهل نقل تخييل الحياة الأمازيغية بجميع مفاصلها وتفصيلاتها الاجتماعية والتاريخية والسياسية والاقتصادية والأنثروبولوجية إلى الآخر المختلف دائما حتى لاينكفئ أدبنا الأمازيغي بفسيفسائه المختلفة على ذاته ويتقوقع في دائرته اللسانية والعرقية الإقليمية فحسب ، ولكن لابد أن يتعداها إلى الآفاق الإنسانية الأرحب حتى تصل رسالتنا الأدبية الهوياتية إلى أبعد حد لساني ممكن، وبهذا تدخل ظاهرتنا الأدبية الأمازيغية دائرة الاحتكاك اللساني لإثبات الذات دون تعصب فج معوق قاتل، وبالتالي نشحن هويتنا الأم بطاقة الانفتاح على حياة الألسن كظاهرة تواصلية اختلافية صحية سليمة وفق سنن الله الثابتة في خلقه، فأساس الخلق التعارف والظاهرة التخييلية الأدبية من الوسائل الاتصالية الناجعة لترسيخ الظاهرة التعارفية بين بني آدم باختلاف هوياتهم.
ــ شاعر الجزائر الكبير الأستاذ عادل سلطاني، من خلال قدرتكم الشاعرة على صياغة الكلمات من حشاشة القلب، وعميق التجربة: هل تكتفي بسبك القصيدة في الأمازيغية، ثم صبها قصيدة عربية أو فرنسية ـ رغم اختلاف التقنية ـ ولا يتبقى فقط غير تغيير الألفاظ والقوالب لنفس التجربة؟ ألا يتشعب بك الاستبطان الهوياتي، والتشظي الفكري بين المسارب الثلاثة؟.. أرجو من شاعر وتنظيري بقامتك، يعيش مثل هذه التجربة الفريدة بين سواحل وخلجان هذه الثقافات الثلاث، أن يقودنا نحو النور في هذا التيه الفكري الذي نحياه مع ما فيه من الانتصار للأحادية الفكرية في حياتنا العربية على امتداد جغرافيتها وتاريخها؟
ــ حينما أمارس الكتابة الشعرية التي تفرض ذاتها وحضورها وهاجسها المؤرق المقض المضني المرهق أجد ذاتي تترجم شعورها وخواطرها في إطار شكلي لغوي يفرض حضوره لأكون منغمسًا منخرطاً في دائرة نص شعري أو نثري أمازيغي أو عربي أو فرنسي بمعنى أن النص ينزل بلغته وكينونته المفروضة فلا أختار مثلاً أن أكتب اليوم نصًا أمازيغيًا بلغتي الأم أو نصًا شعريا باللغة العربية أو باللغة الفرنسية أو بالعامية.
ولا أجد ما يمكن تسميته "العقدة الهوياتية" في ذلك ما دمتُ ملتزمًا بخطي الهوياتي الأم الحقيقي المتصالح المنفتح على اللغة التي أتعامل من خلالها ممارسة وتجربة، ولا أشعر البتة بعقدة النقص أو التأزم الهوياتي لأن أناي الهوياتي مبثوث في جسد نصوصي بغض النظر عن الشكل اللغوي الذي سكبت فيه، لأتحول بعد ذلك إلى كينونات لغوية تترجمني وتوصلني إلى الآخر المتلقي لهذا الشكل اللغوي أو ذاك كما أريد، فلست من يقرر لحظة الكتابة بهذه اللغات الصديقة كمؤسسات تواصلية، وإنما النص ينزل في حينه ولحظة تجلي موضوعه بعيدًا عن "الآلية النظمية" الفجة في إطار "الطبع"، فيخرج النص كما يشاء عموديًا ببحره أو تفعيليًا أو أمازيغيًا عموديًا أو تفعيليًا أو عاميًا موزونًا، فمهما كتبت بهذه الأشكال اللغوية فإنني لن أحيد عن البوصلة الهوياتية الأمازيغية في أي شكل، لأنني لن أكون باحتصار إلا أناي الأم في أنسجة لغوية متباينة تنقلني مراكبها الخطابية الشعورية إلى متلقي الشكل الأمازيغي والعربي والفرنسي والعامي، ولن أكون في كل هذه الأشكال إلا ذلك الكائن الشعري الأمازيغي بكل انفعالاته وأفكاره وهواجسه وجنونه وعقله والتزامه المفتوح دون عقد على حب الإنسان في إطاره الكينوني النسبي بعيدا عن التعصب الانتمائي العرقي الضيق الفج المعوق، ويبقى هاجس التعارف كفضيلة وهبة ربانية تحركني في إطار هويتي الأمازيغية المفتوحة على حب الإنسان ولسانه أينما وجد في هذا المعمور الذي استخلفنا فيه، فهذه المسارب الثلاثة التي ذكرت لأضيف لها البعد الرابع العامي هي الطرق التي أسلكها لأنقل معاناتي ومشاعري وتجربتي ونزفي وحبي وحزني وفرحي وغضبي وطفولتي وشبابي وكهولتي وكل جنوني العاقل الإنسان إلى ذلك القارئ الذي يعيد بقراءته إنتاج هذا الشكل اللغوي النصي الذي عاشره قراءة واستئناسا ومتعة، فلا أشعر مطلقا بأن هذه اللغات التي تكتبني وتنقلني إلى القارئ الإنسان تدخل فيما يمكن تسميته "المنفى اللغوي" فاللغة لاتنفي المبدع والمبدع لايمكن أن ينفي اللغة التي ستبقى كمؤسسة اتصالية تفاعلية الحلقة التواصلية الواصلة لا الفاصلة بين المتلقين لأشكالها اللسانية المختلفة.
هذا في رأيي المتواضع خير تجسيد لظاهرة التعارف المبنية على الاحترام في حيز لغوي ثقافي معين، ولكل لغة تكتبني قاموسها الحاضر في عملية الكتابة الإبداعية المعقدة التي أوازن فيها بين الشعور والفكر لتحقيق فلسفتي الخاصة ممارسة وتجريبا، فأنا ككينونة حاضر في النص الأمازيغي وفي النصين العربي والفرنسي وفي العامي ولم تتمزق بي المسارب الثلاثة التي أسلكها فكريًا في ممارسة هذا الشكل أو ذاك لأصل إلى حالة من التثاقف المنفتح لأنها حوامل فكرية شعورية تنقلني للآخر وتساهم في توسيع دائرة الانتشار لدى شرائح متباينة من المتلقين وهذا ما لاتحققه لغة واحدة بتفكيرها الأحادي وشكلها الثقافي الإبداعي..
الشاعر والباحث الكبير الأستاذ عادل سلطاني لقد كان هذا الحوار دراسة ماتعة كاشفة عميقة لنا ــ نحن أبناء الشرق العربي ــ عن الأمازيغية: اللغة والتاريخ والثقافة والإبداع، وهو ما سيكون نافذة كبيرة، ومعبرًا للتعامل مع هذه اللغة باعتبارها إضافة ثرية لنا أبناء الحضارة الإسلامية من عرب وأمازيغ وغيرهم، أشكرك مرة أخرى، وأشكر كل من يتابعنا من قراء ذي المجاز الكرام.
ساحة النقاش