"إطلالة على جهود المخلصين في نشر الثقافة"..
إن التعرف على الأسباب التي تفضي إلى العزوف عن القراءة، يكمن في الغالب وبحسب العديد من الدراسات المطروحة والتي سننتقي بعض ما توصلوا إليه منها، ضعف مستوى القراءة عند الطلاب في المدارس والجامعات في الأساس، نتيجة تراجع جودة التعليم، عدم وجود الدافعية في طلب العلم، ومحو الجهل، عدم الوعي بأهمية القراءة وجدواها، ارتباطها بأسباب مادية تتعلق بالعائد من ورائها والذي لا يتمثل سوى في "وجع الرأس" كما يقولون، سرعة الملل وقلة المثابرة لانتفاء العزيمة والمداومة عليها لغياب الهدف من القراءة في الأساس، القراءة ليست شيئًا جديرًا بالاهتمام خاصة بعد انتهاء المراحل الدراسية، ولذلك لا يخصص لها المواطن العربي وقتًا في يومه، كما أن مكونات البيت العربي منذ فترة بعيدة وهو يهتم بـ "غرفة الطفل" عند تجهيز الأثاث، ولا يهتم بعمل مكتبة منزلية، الاكتفاء بكل ما هو سرعي وسطحي ومصور ومرئي، مثل: قراءة المجلات والنشرات والصحف ومتابعة التلفاز والنت، وقد أصبح كل هذا متاحًا ويحمله في يده "المحمول" ذلك الذي أغناه عن حمل الكتاب، ضعف الحالة المادية ، وسوء الأحوال الاقتصادية لا تغري المواطن العربي في بعض البلدان بشراء الكتب حتى لو كان عاشقًا للقراءة، وقد لجأ أكثر من يقرأ من المثقفين إلى الاعتماد بشكل واسع على الإصدارات المنشورة على مواقع الانترنيت، وهي التي تمكنهم من التصفح المجاني للكتب دون أن يفقدوا مالًا من ميزانيتهم أو ميزانية أسرهم، وفي نفس الوقت لم ولن يتحملوا مشقة الذهاب إلى المكتبة والشراء منها.
هناك من قدموا مشاريعًا أو آليات بشكل فردي لمحاولة جذب المواطن العربي نحو عادة القراءة، وبالتالي خدمة للثقافة، وهناك من قاموا بعمل كتب تتسم بالموسوعية من قديم ولكن ليس لهذا الغرض خصيصًا، ولعل من أول المحاولات التي وقعتُ عليها كتابيّ "المخلاه"، و"الكشكول" لبهاء الدين العاملي، يقول الطاهر أحمد الزاوي محقق كتاب "الكشكول" عنه: (جمع العاملي فيه من شتى الفنون، واختار له من أمتع البحوث العلمية، وأغرب المسائل التي لا تنتمي إلى فن بعينه، ولا أسرة علمية واحدة، فكان جديرًا بهذه التسمية لما بينهما من المشابهة على الدلالة على جمع أشياء متفرقة).
وقد جمع العاملي في الكشكول، أي الحقيبة بالفارسية، موضوعات تتعلق بالفقه، والتفسير، والحديث، والهندسة، والجبر، والحساب، والجغرافيا، والفلك، والسحر، والشعر الرقيق، والنثر البليغ، والأمثال، والفلسفة، وعلوم البلاغة، والصرف ، والنحو وغيرها من الفنون التي لم يجمعها غيره من الكتب السابقة عليه، مما يعني أنه نسيج وحده.
فإذا انتقلنا إلى زمن الراحل عباس محمود العقاد في مطالع القرن العشرين، سنجد أنه في مدينته أسوان قد اختط لنفسه مشروعًا آخر لم يكن القصد من وراءه أن يجذب القارئ للقراءة أو غيرها، ذلك أنه عند إقامته في بلدته بعيدًا عن القاهرة كان يقرأ الكتب ثم يثبت ما يكتبه في كتاب طويل عنده ــ آنذاك ــ شمل العديد من الفصول التي تدور حول الشعر، والتاريخ، والدين، والاجتماع، والأخلاق كان قد أصدر منه كراساتٍ خمس، ثم لما تولى الصفحة الأدبية عند عودته إلى القاهرة في صحيفة "البلاغ" الأسبوعية فكان ينشر من ذلك الكتاب أو مايرد إليه من كتب بعد أن يعرضها ثم ينقدها، بحسب الساعة أو الساعات التي عكف فيها على قراءتها.
عندما تصبح الروايات في الجيب:
يعد عام 1936 هو البداية الكبيرة للقارئ المصري والعربي في التعرف على الروايات العالمية وذلك حين أسس المترجم والكاتب المصري الراحل عمر عبد العزيز أمين دار نشر أطلق عليها "روايات الجيب" تولت إصدارر العديد من ترجمات للروائيين الكبار من أمثال فيكتور هوجو وألكسندر دوماس وأجاثا كريستي البوليسية. وما يعنينا هنا أن هذه الكتب كان يصدرها عمر أمين موجزة أي على هيئة روايات مختصرات من الأعمال العالمية مترجمة إلى العربية، وقد تتلمذ العديد من كبار الروائيين والأدباء المصريين والعرب على هذه السلسلة التي كانت سهلة الحمل، وخفيفة الثمن أيضًا، جاذبة للقراءة، ولقد قرأها نجيب محفوظ، وصنع الله إبراهيم، وعبد الرحمن منيف وغيرهم.
ثقافة الوعي العربي حين تستلهم "اقرأ":
في أربعينيات القرن العشرين أصدرت دار المعارف المصرية سلسلة "اقرأ" والتي قدم لها الدكتور طه حسين بكلمة موجزة أبان فيها السبب الحقيقي وراء إصدارها وهو نشر الثقافة من حيث هي ثقافة، والإيجاز هنا ليس له محل، بل هي ثقافة تستهدف نشر الوعي بين شعوب الأمة العربية قاطبة.
"كتابي" وثقافة الإيجاز:
يبدأ الإنجاز الحقيقي للمشاريع التي تستهدف توسيع رقعة القراء، وتوسيع مداركهم، وثقافتهم المتنوعة المتباينة مع الدكتور حلمي مراد الذي كان قاصًا ومترجمًا وكان له مشروع عظيم، بتقديم ملخصات وافية لأبرز كتب التراث الإنساني في سلسلة "كتابي" التي أصدرها عام 1952 بشكل شهري، وظلت تصدر منتظمة حتي أواخر الستينات، وفي أواخر التسعينات قامت إحدي دور النشر الكبري، وهي المؤسسة العربية الحديثة بإعادة طبعها مرة أخري وتوزيعها، كما يقول الأستاذ محمود قاسم، في مقاله "المجهول في عالم المعرفة الثقافية أكثر من المعلوم".
غير أن الأستاذ محمود قاسم يسقط فترة تاريخية أخرى كانت قبل هذا التاريخ الذي ذكره، عندما عاود الدكتور حلمي مراد بنفسه إصدار سلسلة كتابي عن طريق دار المعارف في ثمانينات القرن العشرين، وكتب لها المقدمة التي خاطب فيها القارئ الذي كان يناشده بجمع كل نوعية من المواد التي سبق نشرها وإعادة نشرها مجتمعة في كتاب واحد أو عدة كتب، فلبى النداء وأصدر "مختارت كتابي" وأصدر أعدادًا جديدة من "مطبوعات كتابي" و "كتابي" التي كان يصدرها في سلسلة نجحت في إصدار الترجمات الكاملة لأكثر من مائة رواية عالمية، منها: "هل تحبين برامس، لفرانسوا ساجان" و"اعترافات جان جاك روسو" و"مرتفعات ويذرنج"، و"دكتور زيفاجو" و"مدام بوفاري" و"الألياذة" و"الطريق إلي بئر سبع" و"المسبحة" أو قربان الحب"، و"مدموازيل جوفر" غير مجلة للصغار مع بعض الأعداد وغيرها.
الرغيف الثقافي في "كتابك":
مع سبعينيات القرن العشرين أصدرت دار المعارف المصرية أيضًا سلسلة "كتابك" والذي قدم لها المستشار الثقافي للدار الأستاذ إبراهيم زكي خورشيد مع أول كتاب يصدر عنها للأديب توفيق الحكيم، يذكر خورشيد السبب وراء إصدار هذه السلسلة التي لا تعتمد مثل سلسلة اقرأ على النقل والترجمة والإيجاز بل العناية بالثقافة، فيقول: (وقد أحست دار المعارف حاجة القارئ العربي الشديدة إلى الثقافة العامة التي لا غنى عنها لكل إنسان يعيش في القرن العشرين، فاستقر رأيها على أن تمده بهذا الرغيف الثقافي الذي لا يقل وزنًا ولا خطرًاعن رغيف العيش. بل هو أسمى منه وأرفع وأقدرعلى تنمية الذوق. وإمتاع الفكر. وصقل الوجدان. وإفساح الرؤية).
نواصل الحديث عن جهود المخلصين في نشر الثقافة في الحلقة القادمة، ألقاكم على خير..
هل من جديد نطرحه حول مشكلة ضعف الإقبال على القراءة عند العرب سواء من الكبار أو الصغار، هل الأمر يكمن في البحث عن الأسباب ثم تقديم الحلول فما أيسر هذا؟! ولكن الأصعب منه والأفضل والأجمل هو المساهمة الواقعية الفعالة في تبديد هذه الأسباب، ومحاولة كسب وجذب القارئ الذي تعود القراءءة ثم هجرها لأسباب معيشية أو غيرها، أو خلق قارئ جديد، أو خلق مناخ جاذب للقراءة والثقافة، أو محاولة للقضاء على المغالاة في أسعار الكتب، أو طبع طبعات رخيصة الثمن وتفي بالغرض مثل "بنجوين".
ساحة النقاش