في حلقتنا الأخيرة من “دراسات يسيرة في رحاب السيرة” نستكمل حديثنا عن “بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم” فتتناول شخصية الرسول صلى الله عليه البشرية فقط، وهي التي تجعل لكل نبي شخصيته المتفردة عن النبي الآخر، وكيف نتعامل مع بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم فلا نغالي فيها، حتى نجعلها في مقام فوق مقام الربوبية، ولا نجافيها حتى نغمطها حقها، بالتقليل من قدرها، والتنقيص من شأنها، كما أشرتُ سابقًا في دراساتنا عن التأدب الواجب مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلنبدأ:
إن شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم كانت ـ ولاشك ـ هي حجر الزاوية في بناء الإسلام الشامخ.
يؤكد هذا محمد قطب في كتابه “منهج التربية الإسلامية”: (كانت شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم المحرك الأول للإسلام، وشخصيته صلى الله عليه وسلم تملك قوى الجذب والتأثير على الآخرين، فقد صنعه الله على عينه، وجعله أكمل صورة لبشر في تاريخ الأرض والعظمة دائماً تُحَبْ، وتُحاط من الناس بالإعجاب، ويلتف حولها المعجبون يلتصقون بها التصاقًا بدافع الإعجاب والحب، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يضيف إلى عظمته تلك، أنه رسول الله، متلقي الوحي من الله، ومبلغه إلى الناس، وذلك بعدٌ آخر له أثره في تكييف مشاعر ذلك المؤمن تجاهه، فهو لا يحبه لذاته فقط كما يُحب العظماء من الناس، ولكن أيضًا لتلك النفحة الربانية التي تشمله من عند الله، فهو معه في حضرة الوحي الإلهي المكرم، ومن ثم يلتقي في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم البشر العظيم والرسول العظيم، ثم يصبحان شيئًا واحدًا في النهاية، غير متميز البداية ولا النهاية. حب عميق شامل للرسول البشر أو للبشر الرسول ويرتبط حب الله بحب رسوله ويمتزجان في نفسه، فيصبحان في مشاعره هما نقطة ارتكاز المشاعر كلها، ومحور الحركة الشعورية والسلوكية كلها كذلك).
فالمواهب الشخصية للرسول وماجَبُلَ عليه من صفات وطباع تختلف من رسول لرسول فلا يمكن أن يكونوا جميعًا شخصًا واحدًا، ومع كونهم أخوة إلا أن أمهاتهم شتى وبيئاتهم شتى وعصورهم وأقوامهم وكذلك معجزاتهم متباينة من حيث الشكل متحدة من حيث جوهر الدين وفحوى الرسالة فدين الله واحد ألا وهو الإسلام، وإلا ما كان نبينا محمدًا سيد المرسلين وخاتمهم صلى الله عليه وسلم.
يطرح الأديب توفيق الحكيم سؤالًا: (هل للطبع والمزاج والخلق الذى رُكِبَ عليه النبي أو الرسول أثر فى أسلوب رسالته؟ هل شخصية الرسول تطبع بخاتمها شكل الدين الذى يدعو إليه؟).[توفيق الحكيم، تحت شمس الفكر ص33].
ويجيب مؤكدًا أن كل ما سبق له تأثيره على شخص الرسول لأن التبعة في أسلوب الأديان تقع بلا مراء على كاهل الأنبياء، فيقول: (والنبي إذن مسئول عن الطريق الذي اتبعه للإبانة عن الحق مسئولية ملقاة على شخصيته التي صبغت الشريعة بصبغتها، وعلى قدر الشخصية ذات الوجود الفعلى تقاس العبقرية العظمى والمجد الأسمى! ومن هنا فإن النبي أو الرسول لا يصل إلى الحق متجردًا عن شخصيته، إلا عن طريق إحساسه وطبعه وعقله، وهي ملكات تختلف باختلاف الأشخاص!).
يقرر الحكيم في النهاية بشكل حاسم وجازم: (ولعل “محمدًا” هو أكثر الأنبياء حرصًا على تنبيه الناس في كل مناسبة إلى وجود شخصيته المستقلة فهو لايفتأ يذكّرهم أنه بشر خاضع للقوانين التي يخضع لها البشر).
إن بشرية محمد صلى الله عليه وسلم حين التقت برسالة السماء جاء الإعجاز في شخصه الكريم التي كانت محملة بالملكات والمواهب الذاتية.
يقول الدكتور محمد شيخاني: (هذه هى النبوة شخصية متزنة منذ ولادة صاحبها، عاقلة مفكرة مميزة بين الخير والشر. هذا هو الاستعداد لتلقي رسالة السماء وكيف لا؟ فإن التكامل في هذه الشخصية لابد له من القدر الإلهي، لابد له من الرسالة، لقاء السماء بالأرض، آيات من الله لتكون دستورًا أبديًا متجددًا وشخصية مميزة بكل ما يعنى التميز من معنى، تلتقى الشخصية بما لديها من ملكات بما تنزله السماء فتحدث المعجزة؛ معجزة الله في شخص هذا النبي) [الدكتور محمد شيخاني، محمد عبقرى مصلح أم نبي مرسل ص 18].
لقد صدق من قال أن الرسول صلى الله عليه وسلم لو لم يكن رسولًا كريمًا لكن بحق رجلًا عظيمًا، فلو لَم يكن صلى الله عليه وسلم رسولًا لكان “إنسانًا” في مستوى الرسول يبتدره من يراه هاتفًا: هذا الرجل كاد أن يكون نبيًا، وحاشاه أن تنفصل نبوته عنه صلى الله عليه وسلم، فالنبوة رسالة وليست وظيفة، بقدر ما نريد أن لا نغمطه حقه صلى الله عليه وسلم حين نحيل كل مافيه إلى النبوة منكرين عليه أن يكون له ملكاته وأخلاقه وصفاته الخاصة.
ينبه الإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الجامع الأزهر الأسبق ــ رحمة الله عليه ــ من خلال كتابه “الرسول صلى الله عليه وسلم: لمحات من حياته ونور من هديه” كل من يتعرض من المسلمين للكتابة عن بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون حريصًا مع ما يتناسب ومقام وجلال شخصه الكريم بحيث لا يسلك مسلك المستشرقين فيقلل من شأن الرسول صلى الله عليه وسلم في التركيز على “البشرية” فقط، وكأنه ليس فيه صلى الله عليه وسلم شيء سوى البشرية.
كما ينبه الدكتور عبد الحليم محمود إلى وجوب من يتعرض لهذا الجانب من حياة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى أن يلازم ويناسب ويوائم بين ﴿بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾ وبين ﴿يُوحَى إِلَيَّ﴾، وهذه المناسبة أو تغليب أحد القولين على الآخر إنما يعود إلى قوة الشعور الدين والإيماني عند الأديب أو الكاتب.
غير أن الدكتور عبد الحليم محمود يقرر في النهاية إلى أن الرسول صلوات الله وسلامه عليه نبي ورسول فهو متصل بالله دائمًا، فيقول: (إنه صلى الله عليه وسلم في السماء على الدوام، وهو متصل بالبشر، يؤدي رسالة السماء غير منقوصة. إنه كان على حد تعبير القرآن: “بشرًا رسولا” فهو ببشريته مع الناس، وهو بسره مع الله؛ إنه مع الناس بإرادة الله وتوجيهه وأمره، إنه مع الناس بكلمة الله ورسالته، إنه مع الناس رسول من قبل الله).
إن تركيز القرآن الكريم على بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم يحمل وراءه سرًا كبيرًا في العقيدة الإسلامية التي تحافظ على ضرورة ولزوم أن تظل هذه العقيدة في مقام “التوحيد” بحسب المفهوم الإسلامي، بعيدة بعد السماء عن الأرض من الشرك أيًا كان نوعه أصغر أو أكبر، وهذا الحرص يوجب تحديد الصفات الإلهية التي لا يمكن أن يتشارك فيها أحدًا من البشر ولو كانوا من الأنبياء والرسل مهما بلغت معجزاتهم.
كما أن بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم تعطي فخرًا للبشر كلهم في كون الله تعالى لم يرسل ملكا من الملائكة، بل أن من يستبعدون أن يكون الرسول من البشر لم يعظم الله حق عظمته مطلقًا، ولم يفهم حكمته الإلهية من أن يكون الرسول بشرًا من البشر الذين يصلحون لئن يحملوا رسالات السماء إلى بني جنسهم، لتقطع الطريق على من يزعمون أن البشر لا يصلحون لتبليغ كلام الله تعالى، غير أن بشريته صلى الله عليه وسلم لا تعني أن مكانته فوق مكانة البشر، بل أن الأصل أنه تعطيه باتصاله بالسماء شرعية في أن كل ما يصدر عنه صلى الله عليه وسلم هو تشريعٌ لكل المسلمين يناسب بشريتهم بما لا يخرج عن استطاعتهم ومقدورهم، ويوافقها تمامًا فهم صناعة إلهية وهو سبحانه وتعالى اللطيف الخبير.
والحق أن جورج سارتون أصاب حين وصف الشريعة الإسلامية بالشريعة الإسلامية، حيث يقول: (أن مايتميز به الشرع الإسلامي من البساطة والاعتدال، يَسَّر لأي إنسان في أي موطن، أن يتقبله وينفذ إلى روحه وجوهره منذ اللحظة الأولى، ولهذا جاءت الشريعة الاسلامية شريعة بشرية من يوم أرسل الله بها النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها).
إن النبوة صفة إيجابية مضافة لمن اختاره الله تعالىواصطفاه للقيام بأعبائها، ولا يمكن بأي حال أن تكون صفة سالبة للملكات الشخصية، والمواهب الفطرية، والخلال الإنسانية التي يتحلى أو تحلى بها قبلًا الرسول أو النبي، هذه الصفات التي تكون مركوزة في شخص الرسول/البشر من منح ربانية، وصفات موروثة استمدادًا من الأرومة والأسلاف، وصفات مكتسبة من البيئة، وهي التي تصنع التمايز والتباين داخل أفراد الأسرة الواحدة.
هنا لا تحلق البشرية بعيدًا عن مشكاة النبوة، كما لا تزايل النبوة أنفاس البشر/الرسول؛ فالوحي الإلهي ليس ملازمًا للنبي طوال يومه، وإلا فأين يقع اجتهاد الرسول فيما ليس فيه نص؟!
إن الذي يجب التنبيه عليه أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان وسيظل هو أكمل البشر في أي جانب من جوانب البشرية في مسيرتها؛ فلقد كان صلى الله عليه وسلم أكمل البشر عبودية لله تعالى انطلاقًا من كون كمال الرسول صلى الله عليه وسلم فى تمام عبوديته لله عز وجل، وأن مقام العبودية أرقى درجات الكمال البشرى، وعبوديتهم لله تعالى هي سر خلقهم، ووجودهم في الأساس، وهي الغاية التي أرسل الله بها رسوله ليخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادته وحده، وتحمل في سبيل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من مشاق وإساءات رحمةً منه بالبشر وإشفاقًا عليهم، حتى يركبون معه صلى الله عليه وسلم سفينة النجاة فرارًا من الوثنية والشرك، ليكون رسولًا من البشر إلى جنسه من البشر لكنه صلى الله عليه وسلم يبقى منفردًا، ومتفردًا، ومتميز عن جميع البشر.
الخاتمة
مع آخر كلماتنا عن حبيبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم البشر الكامل، وسيد الخلق تنتهي سلسلة حلقات “دراسات يسيرة في رحاب السيرة”، ولا يسعني أن أتوجه بالشكر إلى من فكر فيها، والداعي إليها، ومن قام بتنفيذها، والإشراف عليها، وفي مقدمتهم: مؤسس صحيفة ذي المجاز “نافذة الخير” الشاعر والإعلامي القدير الأستاذ محمد طكو، ومن زاملني رحلة النشر الشاعر القدير الستاذ ياسين عرعار، وكل فريق العمل بصحيقتنا “الغراء”.
كما أتوجه إلى سيداتي وآنساتي وسادتي من القراء الكرام بأسمى آيات الشكر لمتابعتهم الكريمة، واهتمامهم البالغ، والاعتذار الشديد لمن لم يجد فيما قلت كلامًا جديدًا… وكل عام وأنتم بخير، تقبل الله رمضانكم المبارك، وأسعدكم بفطركم المبارك، وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
ساحة النقاش