دكتور السيد إبراهيم أحمد

 

في هذه الحلقة من دراسات يسيرة في رحاب السيرة نعود لما كنا قد بدأناه في الحلقة السابقة من دراسات يسيرة في رحاب السيرة حول موضوعنا: “بوادر رحيـــل رسول الله صلى الله عليه وسلم بين العامة والخاصة”، ونحاول الإجابة في هذه الحلقة حول السؤال الذي كنا قد أثرناه:
إنها فاطمة .. التى قلما فارقت أباها؛ فمنذ طفولتها والدعوة مازالت في بواكيرها كانت تخرج معه صلى الله عليه وسلم إلى الحرم، وذات مرة بينما كان ساجدًا أحاط به أُناس من مشركي قريش وجاء عقبة بن أبي معيط بسلى جزور وقذفه على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه حتى تقدمت ابنته فأخذت السلى ودَعتْ على من صنع ذلك بأبيها وعندئذ رفع المصطفى صلى الله عليه وسلم رأسه، قال: ’’اللَّهُمَّ عَلَيْكَ الْمَلَأَ مِنْ قُرَيْشٍ ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ أَوْ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَف’’.. فخشع المشركون لدعائه وغضوا أبصارهم حتى انتهى من صلاته وانصرف إلى بيته تصحبه ابنته فاطمة وما هي إلا أعوام قليلة وترى فاطمة رضي الله عنها هؤلاء الملأ قتلى في بدر .
وكانت هناك لماخرج صلى الله عليه و سلم يوماً إلى قريش وقد نزل قوله تعالى : ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ فجعل ينادي : ’’يا معشر قريش اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئا ، يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئا’’، ثم اختص فاطمة من أولاده فخاطبها :’’ويا فاطمة بنت محمد سليني ما شئت من مالي لا أغني عنك من الله شيئا’’.
تقول الدكتورة عائشة عبدالرحمن تعليقًا على هذا الموقف: (وخفق قلب فاطمة حنانًا وتأثرًا فهمستْ تقول: “لبيك يا أحب والد وأكرم داع”.. فقد كانت رضي الله عنها حتى الرمق الأخير من حياتها لاتمل من تلبيته وطاعته صلى الله عليه وسلم).
وهل غابت فاطمة عن أبويها في شعب أبي طالب حيث عاشت هناك في حصار أجهدها سنوات عديدة كما أنهك أمها السيدة خديجة رضي الله عنهما، ثم عادت من الحصار إلى مكة لتشهد موت أمها رضي الله عنها، ثم هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يثرب وبقيت فاطمة مع أختها أم كلثوم في مكة حتى جاءها من عند النبي صلى الله عليه وسلم من يصحبها إلى المدينة المنورة.
كما خرجت السيدة فاطمة رضي الله عنها لمداواة الجرحى وسقايتهم مع نساء المسلمين يوم أحد، ولما رأت رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد انكسرت رباعيته وسال الدم على وجهه الشريف جرت عليه واعتنقته وأخذت تمسح الدم من على وجهه الشريف ولما وجدته لا يتوقف حرقت حصيرًا ومنعت به الدم فامتنع وأخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم، يقول: ’’اشتد غضب الله على قوم دموا وجه رسوله’’ ثم مكث ساعة ثم قال :’’اللهم اغفر لقومى فإنهم لايعلمون’’(29).
إنها الشبيهة الحبيبة والتي شاءت إرادة الله تعالى أن يمد فى عمرها رضى الله عنها وأرضاها ليكون منها ـ دون إخوتها ـ النسل المتصل برسول الله صلى الله عليه وسلم وهى من أعظم المناسبات التي أدخلت فيها الزهراء الفرحة على أبيها صلى الله عليه وسلم حين كان ينادي الحسن والحسين: يابَني، وكانا يدعوانه: يا أبت.
ولهذا كان صلى الله عليه وسلم ينهض إذا دخلت عليه فاطمة فيقوم بتقبيل رأسها ويدها، كما روت عائشة رضي الله عنها قالت: “ما رأيتُ أحدًا كان أشبه سمتًا وهديًا برسول الله صلى الله عليه وسلم من فاطمة، كانت إذا دخلت عليه قام إليها فأخذ بيدها وقبلها وأجلسها في مجلسه وكانت إذا دخل عليها قامت إليه وأخذت بيده وقبلته وأجلسته في مجلسها” وكان لا ينام حتى يقبًل عرض وجهها، وبين يديها، وكان يقول لها: ’’فداك أبوك كما كنت فكوني’’  حتى أنه كلما قدم من سفر بدأ بالمسجد، فيصلي ركعتين، ثم يذهب لفاطمة، ثم يأتي بيوت أزواجه.
كما أنها لم تتركه في أوقات مرضه الأخير في بيت السيدة عائشة وحتى وفاته صلى الله عليه وسلم ورضى الله عنها وأرضاها .. ولهذا لم يطق رسول الله صلى الله عليه وسلم بُعدَها عنه وكذلك لم تتحمل فاطمة بُعده عنها وذلك في أول أيام زواجها من علي رضي الله عنه حين أسكنها بيت أمه وكانت دارها بعيدة عن بيت النبوة، كما جاء في رواية ابن سعد في الطبقات عن أبي جعفر لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة نزل منزلًا فطلب علي منزله حتى يسكن فاطمة فيه، وبنى بها فى بيت أمه فاطمة بنت أسد وكان ذلك بعيدًا عن بيت رسول الله وكانت تتمنى أن تكون من السكن بقرب أبيها وسرعان ما تحقق أملها فقد جاءها النبى قائلاً: ’’إني أريد أن أُحَوِّلَك إليَّ’’، فقالت لرسول الله : “فكلم حارثة بن النعمان أن يتحول ـ ينتقل من منزله ـ وأكون إلى جوارك”. 
وكان حارثة كلما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم تحول له حارثة عن منزل بعد منزل، حتى صارت منازل حارثة كلها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله: ’’يا بنية، قد تحول حارثة عنا حتى استحييت ُمما يتحول لنا عن منازله’’، فبلغ ذلك حارثة فتحول وجاء إلى النبي، فقال : “يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد أن تحول فاطمة إليك وهذه منازلي وهى أسقب ـ أقرب ـ بيوت بني النجار بك وإنما أنا ومالي لله ولرسوله والله يا رسول الله للذي تأخذه مني أحبُّ إلىّ من الذى تدع، فقال له الرسول: ’’صدقت، بارك الله عليك’’ فحولها رسول الله إلى بيت حارثة.
ذكر ابن حجر في الإصابة عن عبد الرزاق عن ابن جريج قال”: كانت فاطمة أصغر بنات النبي – صلى الله عليه وسلم – وأحبهنَّ إليه، وسئلت عائشة رضى الله عنها ، كما روى الترمذي في سننه بسند حسنه، قيل لعائشة: أي الناس كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: فاطمة قيل: فمن الرجال؟ قالت: زوجها إن كان كما علمت صوامًا قواما.
هكذا كانت رضى الله عنها دائمًا فى كل المواقف معه صلى الله عليه وسلم الابنة الحبيبة الرفيقة الشفيقة المواسية وكيف لا وهى فرع الحنان المتدلي من شجرة الحنان الكثيفة الوريفة التي أظلت المسلمين ورسول الإسلام صلى الله عليه وسلم بحنوها وعطفها ومالها وجهادها حتى صار لها في عنق كل مسلم دَيْن حتى قيام الساعة أنها فاطمة بنت خديجة رضى الله عنهما وعن كل أمهات المؤمنين.
أما ماينفي الأنانية عن السيدة فاطمة لفرحها بمغادرة الدنيا التي فيها الزوج والأولاد هو حديثها مع زوجها علي أحب الناس لقلبها بعد والديها الكريمين حيث رأت أن توصيه وتقبَّل منها وصاياها ونفذها بعد موتها وفاءً لها لأنه كان يعلم أن أمر وفاتها وحياتها ليس في يد أبيها وإن كان رسولاً بل يقف موتها عند حد التبليغ من الرسول الكريم لابنته وغالبًا ما أوجعه وما كان ليبوح لها به إلاَّ لمَّا رأها تأَذَّت وبَكتْ حين سَارَّها برحيله، كما أنها تعلم كما يعلم زوجها الذي نبَّأهُ الرسول سابقًا أنه شهيد؛ أنهم لم يجربوا الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لا هم ولا عامة المسلمين ومادام قال فقد صدق وما عليهما إلا التسليم بقضاء الله كما فعلا فعلاً، ونستشف هذا من الحوار الرقيق الدقيق الأخير عن الرحيل الأكيد فتجد الكلام في موضعه فهي تُوصي بحق لا لتستشف تعلق زوجها بها وحزنه عليها من عدمه، كما أنه لايجاملها أو يخفف عنها بأنها ستتعافى وسيشد الله أزرها ويمد في عمرها مواساةً منه فإن عليًا يعلم أنه لو فعل هذا فإنما يرد كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ويُكَذِبه وحاشاه أن يفعل، ولهذا تعامل مع الموقف تعامل الرجل الحكيم.
ويقتلني الشوق لأن استكمل الحديث عن السيدة فاطمة رضي الله عنها، ولكن نواصل مع الزهراء وعنها حلقتنا القادمة.. إن شاء الله.. أترككم في أمان الله.. إلى اللقاء…

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 70 مشاهدة
نشرت فى 24 يوليو 2017 بواسطة elsayedebrahim

ساحة النقاش

السيد إبراهيم أحمد

elsayedebrahim
الموقع يختص بأعمال الكاتب الشاعر / السيد إبراهيم أحمد ، من كتب ، ومقالات ، وقصائد بالفصحى عمودية ونثرية ، وكذلك بالعامية المصرية ، وخواطر وقصص و... »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

70,058