مع الحلقة التاسعة عشر من دراسات يسيرة في رحاب السيرة نعود لما كنا قد بدأناه في الحلقة السابقة من دراسات يسيرة في رحاب السيرة حول موضوعنا: “بوادر رحيـــل رسول الله صلى الله عليه وسلم بين العامة والخاصة”، ونحاول الإجابة في هذه الحلقة حول السؤال الذي كنا قد أثرناه:
هل غُم على ابنة الرسول صلى الله عليه وسلم فاطمة رضى الله عنها مع علمها اليقيني بوفاة والدها وأنها فرحت بلحوقها به؟ إذن فلماذا فعلت ما فعلت عند علمها بوفاته وبعد دفنه صلى الله عليه وسلم؟!
لم يكن حديث السيدة فاطمة ـ رضى الله عنهاـ مع الرسول صلى الله عليه وسلم من حيث كونها سيدة نساء العالمين مع سيد الأولين والآخرين من النبيين والمرسلين والبشرأجمعين، ولكنه كان حديث الابنة الوحيدة والأب الموَدِع فى مرضه الأخير؛ فهو إذن حديث خاصة الخاصة حيث الحديث بينهما فى أعلى درجات السرية والكتمان حتى عن أقرب المقربين ولو أزواجه وإن كانت عائشة أول من سألت وامتنعت عن إجابتها فاطمة فى حياته ثم أفشت لها السر بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، فالحديث عائلى بالدرجة الأولى والأب المُغادر لايُصرح تلويحًا أوكناية عن رحيله بل يصارحها بأنه لامحالة ميت كما أنها لامحالة ستموت بعده.
إنها فاطمة ابنته الحبيبة التى بشرها صلى الله عليه وسلم وهو فى مرض الموت بأنها ستكون أول أهل بيته الكريم لحوقًا به فتضحك، بعدما كانت قبلها تبكي عندما أعلمها صلى الله عليه وسلم بحضور أجله حتى تعجبت السيدة عائشة وقالت: “مارأيتُ كاليوم فرحًا أقرب من حزن!”
هل يستطيع أب أن يَزُف هذه البشارة لابنته الشابة البالغة من العمر ثمان ٍ وعشرين سنة ولها من الذرية الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم وهم صغار..من سيرعاهم بعدها؟! يبشرها والدها وتفرح ولم تجفل ولم تجزع ولم تراجعه وتستعطفه بأن يدعو لها بطول العمر حتى تربى أفراخها الزغب، وتسعد أيامًا بالعيش مع صنو روحها زوجها الحبيب علي رضى الله عنه ألا يذَكِّرُنا هذا الموقف بأبي الأنبياء إبراهيم وابنه الذبيح سيدنا إسماعيل عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام نفس الرضا والتسليم مع الفارق في سير الأحداث.
فاطمة الزهراء سيدتنُا سيدة هذه الأمة أو سيدة نساء العالمين، ابنة رسول الله وحبيبته التى أقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتاه حِبَهُ وحبيبه وابن حبيبه أسامة بن زيد مستشفعًا للمرأة المخزومية السارقة حتى لايقيم عليها حد السرقة ، فغضب من أسامة ثم جمع الناس صلى الله عليه وسلم فخطب فيهم فقال : ’’ياأيها الناس إنما أهلك من كان قبلكم انهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمدٍ يدها ’’، والشاهد من العظمة ماقد لايلحظه أحدنا على إعتبار أنها ــ أى فاطمة ــ لن تسرق، ولكن يجب أن تعلم أن الخطاب كان على الملأ، ويجب علينا أن نثـق تمام الثقة لو أن ابنته فعلتها لأبر النبى صلى الله عليه وسلم بقسمه.
ولئن تعجبنا كيف أن الابنة لم يروَّعِها النبأ بل سُرّت به فيما يمكن أن نسمي علاقة البنوة بالأبوة المتشابكة بين الزهراء وأبيها بأنها معجزة تُضاف لسيد الخلق حين نجح في أن يُهذب ويؤدب ابنته إلى هذا الحد الفائق من الطاعة حين لم ترد عليه مقالته، بل وجعلت نعيها بشارة فلم تغتم ولكن سُرَّت؛ ليس زهدًا في الحياة ولكن فرحًا بالمرافقة والمجاورة لأبيها فى رحلته الأخيرة عن الدنيا.
كما لم يكن هذا أنانية منها بترك زوجها وصغارها فقد أوصت بهم لمن بعدها ـ كما سيأتى ذكره ـ وغالبًا ما كانت تعرف من نبؤات أبيها بأن ولديها لن يُعمرا طويلًا، وكان من رحمة والدها بها ـ ربما ـ أن لا يُذيقها نار فراقهما فى حياتها كما تجرعها هو صلى الله عليه وسلم في أولاده وأخوتها وآخرهم إبراهيم آخر أبنائه من السيدة ماريا رضى الله عنهم جميعًا، فكم هو مؤلم على النفس والقلب فراق الأولاد فى حياة والديهم.
فلماذا فعلت ما فعلت بعد وفاته صلى الله عليه وسلم وعانت ماعانت من ألم الفاجعة وشدة المصيبة، وعظم النازلة بفقده عليه الصلاة والسلام حتى قالت عندما جاءها نبأ وفاته : “يا أبتاه.. أجاب ربًا دعاه، ياأبتاه.. مَنْ جنة الفردوس مأواه، ياأبتاه.. إلى جبريل ننعاه”. وحين قالت لأنس بعد دفن الرسول صلى الله عليه وسلم: “يا أنس أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب”.
وعندما أخذت ترثي أباها قائلة:
أغبـر آفــاق السماء فكورت شمس النهار وأظلم العصـران
الأرض من بعد النبي كئيبــة أسفًاعليه كثيــرة الأحـــــزان
فليبكـه شرق العباد وغربهــا وليبكه مضـر وكــل يمانـــــي
وليبكــه الطـود الأشم وجوده والبيـت والأستــار والأركـان
يا خاتم الرسل المبارك ضوؤه صلى عليك منزل القــــرآن
وعندما قامت ترثى أباها عند قبره صلى الله عليه وسلم بعد أن أخذت قبضة من تراب القبر فوضعتها على عينها فبكت وأنشأت تقول:
ما ضر من قد شم تربة أحمد ألا يشم مدى الزمان غواليــــا
صُبَّتْ عليَّ مصائب لو أنها صبت على الأيام صرن لياليا
كيف لفاطمة ألا تفعل ما فعلت حتى لو علمت بأنها ستلحق بأبيها بعد دقائق معدودات؟! ولكن الأهم عندها أنه سيموت قبلها ولو بدقيقة، أن علاقة فاطمة بأبيها علاقة خاصة من حق المتعجب أن يتعجب لأنه يجهلها وإذا علمها دون أن يتعمقها ويُعايشها ويتعايش معها فما أحسها ولا علمها مادام لم يعاين وقائعها وأحداثها منذ ولادة فاطمة ومعاصرتها أحداث الدعوة وفراق الأحبة من الأهل ثم هجرة أبيها للمدينة وبقائها فى مكة حتى استدعاها إليه.
فاطمة أصغر بنات الرسول صلى الله عليه وسلم إذ كانت زينب الأولى، ثم رقية الثانية، ثم أم كلثوم الثالثة، ثم الزهراء الرابعة، وهي أطول أخوتها صحبة لأبيها صلى الله عليه وسلم فلم تتركه منذ ميلادها حين كانت قريش تبني بيتها أي قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم بخمس سنين وعمره آنذاك خمس وثلاثين سنة، ولطول صحبتها مزية لها كما أن لها ضريبتها القاسية التى دفعتها من سنوات عمرها وشبابها وصحتها فقد كانت بحق سيدة الصابرين التى تجرعت كوؤس الآحزان مترعات كأسًا كأسا؛ فقد مات أخويها القاسم وعبد الله ثم ماتت أمها ثم تتابعت الأحزان بوفاة أختيها: رقية يوم بدرفى العام الثامن من الهجرة وأم كلثوم في العام التاسع من الهجرة، وآخر من شيعت إبراهيم أصغر أخوتها من السيدة مارية، ثم عاشت لتشهد رحيل أعز وأعظم الناس قاطبةً الأب الحاني والبقية الباقية لها بعد موت الأم والأخوة والأخوات فزهدت في الابتسام ولقاء الناس بعده إذ ليس بعده عندها إلا أن يحين دورها في الرحيل لتلحق به صلى الله عليه وسلم، فكانت بحق أم أبيها تلك الكُنية الفذة التي فازت بها دون بنات جنسها على الإطلاق وذلك لكونها عاشت مع الرسول صلى الله عليه وسلم بعد موت والدتها ترعى أموره وتشد أزره، كما كانت قريبةً منه أشد القُرب في معظم أوقات حياته، فلم تغب عن بصره ـ ربما ـ إلا ساعات خروجه من الدار، فقد كانت رضي الله عنها شديدة التعلق والاهتمام به ـ حتى بعد زواجها ـ كما كانت تحدّثه بما يُسلّي خاطره ويدخل الفرحة على قلبه برغم ما كانت تعانيه وتتحمله بثبات أهل الإيمان العميق.
ويقتلني الشوق لأن استكمل الصورة عن السيدة فاطمة رضي الله عنها، ولكن نواصل مع الزهراء وعنها حلقتنا القادمة.. إن شاء الله.. أترككم في أمان الله.. إلى اللقاء…
ساحة النقاش