جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
في حوار دار بيني وبين مجموعة من الأدباء العرب، ولأني مصري كان محور أسئلتهم يدور في أجواء الربيع العربي المصري الحائر بين كونه ثورة أو مؤامرة، وكانت الأجواء غائمة بل ضبابية خاصةً بعد أن تولى الرئيس محمد مرسي زمام الحكم والعيون مصوبة نحوه، والأيدي تتناوشه تحاول إزاحته، والأصوات تعلو مطالبةً برحيله، وحناجر أتباعه تهتف للشرعية.
كانت إجاباتي تحاول استلهام الواقع وتستشرف المستقبل، حتى باتت وكأنها تنبؤات، وأمنيات، وملاحظة إرهاصات وإشارات تبدو هنا وهناك، وبعد أن يحل ربيعنا المصري في يومه الشتوي من يناير الموعود في كل عام، أنتظر ما تحقق منها وما تأخر، والواقع يصدق ذلك أو يكذبه، حتى ظننتني فلكي وربما حللت بعدها ضيفًا لقراءة طالع الأيام في البرامج.
كانت الأسئلة عن رؤيتي للثورات العربية، وهل كان هذا الربيع "أكذوبة نيسان"، أم أنه مسرحية مجهولة الهوية وسيكشف دلالاتها الزمن الآتي؟ وما قراءاتي للأحدات وقتها، وتوقعاتي لمستقبل مصر؟
لطول الإجابات والحوار سأختار منها فقرات وصولاً لينايرنا اليوم 2016:
الثورات العربية التي نجحت بقدر الله، وثورة الشعب، وتأييد الجيش.. صار لها اليوم ألف أب يدَّعون نسبتها إليهم، وبلغ السعار نحو اعتلاء سدة الحكم أمنية الأماني لكل ناشط أو ثوري أو حزبي أو من الصف الثاني..
ثورة مازالت في حالة المخاض العسير، تمارس التدمير، وبعض التزوير، والكثير من التخوين والتشهير، وعدم توقير الكبير، واستضافة الصغير، كأنه أستاذ بروفيسيير، وانزوى أهل الحكمة بعيدًا عن التشويش والمقاطعة بالشتم والسباب والصفير، وانفرد بالتنظير، أكثر من سفيهٍ حقير، وعلت الجرأة على الدين من أكثر من فسلٍ غرير.
ثورة في طور الإعداد لم تنضج بعد، وطرحها المبدئي مرير، استأسد التجار، وغلت الأسعار، واكتوى الفقير بالنار، ومازالت المظاهرات ليل نهار، تجوب الميادين والقفار، في كل يومٍ مطالب، منددين بالاستئثار، وصار هناك أشباه الثوار بالإيجار، والسراق ملأوا الدروب والمتاجر والفنادق والديار، وأصبح قطع الطريق على كل مار، هواية السفلة والشطار، والخطف ثم دفع الدية صار حديث الأخبار، والشرطة لفظتها الشوارع وأصبح من المعجزات رؤية الحكمدار.
وصرير الأقلام لم يعد يقرأها غير كاتبها، فالتوك شو خطف الأنظار، والكاتب والمفكر يعرض رؤاه أفكاره، ولكن من يسمع ويرى دُرر الأفكار، أقلام قل فيها المخلص وكَثُرَ المأجور منها وصار الأجير الفارس المغوار.. اختلطت الأهداف والوسائل، وصار كل فصيل يشد رأس الثور من إحدى قرنيه، والثور في مكانه لم يبرحه، ولم يتقدم، وكل هذا باسم الثورة .. حتى صار من آمن بها من الكفار..
الثورة ينقصها الحكمة.. أن نسمع لبعضنا البعض، ولا نسفه، ولا نسب، ولا نخوَّن..أن ننادي بالديمقراطية، ثم نهدم الديمقراطية بلا ديمقراطية وندَّعي أننا أرباب الديمقراطية، أن نهتف "ارحل ..ارحل" ثم يرحل رأس الحكم.. ثم يتباكى البعض على أيامه، ويتولي الجيش أمور البلاد.. ثم نهتف "يسقط .. يسقط حكم العسكر".. ولما تولى الرئيس الشرعي الذي أتى به الصندوق، نهتف "ارحل" ونسفه من أمر الصندوق، وننادي بـ "عودة العسكر".. لم تنضج ولن تنضج الثورة في الأمد القصير؛ فالمؤامرات من كل نوع تحيق ببلاد ثورات الربيع .. وندعو الله ألا تضيع.
لقد أصبح الربيع العربي كابوسًا ثقيلاً جثم على صدور ورقاب العباد؛ فقد غيمت الكآبة على المزاج النفسي والعصبي بل والمزاج العام لكافة شعوب الربيع العربي على مختلف أطيافها ماعدا البلطجية والشبيحة والطبقة الجديدة من المنتفعين بالثورة..
أمَّا كونها مسرحية ..فلم تكن في بدايتها كذلك، بل كانت شرارة انطلقت من أحداث صغيرة فجرت غضب مكتوم، من حريات مكبوتة، داخل سجن كبير أحاط قضبانه الأقلام والألسنة، لكن عندما تلقفت كرة الثورة أقدام المحترفين من أمريكان وصهاينة وفلول وتيارات إسلام سياسي وقوى علمانية وقوى عربية مناوئة للثورة ومتفقة معها.. ضاعت القضية، وتشرذمت الآراء .. وأصبح الأمر فعلاً أشبه بالمسرحية التي لا ندري أحداثها أو شخوصها أو التصاعد الدرامي الذي ينبيء مع تعقد الصراع عن انفراجة في سبيل تفكيك الخيوط بغية الوصول إلى الحل..
أصبحت الثورة فعلاً "أكذوبة نيسان" التي مرت أمامنا كحلم ليلة صيف.. دفعنا ثمنها ولم نقبض ربحها.. تحملنا الغرم ولم نذق الغنم.. بتنا نتشهى الأمن، وركب الشارع البلطجية والقتلة.. وانقلب من يلبسون مسوح الثوار إلى إما مغتصب أو منافق أو قابض ثمن ثوريته من بعض الدول.. والأخلاق قتلوها تحت سنابك الابتذال والامتهان .. نعم .. قد تؤتي الثورة ثمارها ولكن في أجيال قادمة ..وإذا خلصت النوايا واتفقت الآراء .. وهذا مستحيل في عالمنا العربي .. فمتى وأين الوصول؟!.. وإذا مر الزمن كعادته وخرجت الأسرار من الأضابير.. سنعرف من الأسرار الفواجع الشيء الكثير والمرير عن الدسائس والمؤامرات .. أما الآن فياويل من يضع يده في عش الدبابير .. ويبحث عن حل للخروج من الأزمة.. أو حتى فهم لغزها .. فستطارده أسراب من النحل المُسَيْس غير البريء ينتهك عرضه وشرفه وتاريخه ..ولن يصل .. ولن نصل.
أما عن المستقبل الذي ينتظر مصر.. فالرؤية غائمة .. والوقائع معتمة، ولكن يرى البعض أن الثورة مع الوقت ستؤتي ثمارها وأن ما سيحدث سيكون أحسن مما كان سيكون عليه الحال لو كان نظام المخلوع قد استمر.. ورأي يقول ربما شهد القادم تغييرًا أحسن في ظل قيام حكومة إئتلافية قد تأتي بها الانتخابات البرلمانية المقبلة..والذين ينظرون إلى الأمر بقتامة ــ مثلي ــ ينتظرون خطوة استباقية جريئة من العسكر نحو التقدم لقصر الرئاسة من أجل إنقاذ البلاد في ظل أحكام عرفية يتعطل فيها تكوين الأحزاب، وإصدار الصحف، وحل مجلسي الشعب والشورى..وتتعطل الحريات..من أجل عودة الرخاء والأمان .. والانضباط..ولتذهب الحرية إلى الجحيم .. طالما الأمور ستستقيم .. هذا هو الرأي القويم .. وإن عارضه بعضهم، والجيش ينتظر توافق آراء القوى السياسية والشعبية .. وربما بعدها تقدم، فقائده يرقب المواقف من بعيد.. وربما انتظر إشارة الداخل مع الخارج.. ثم يبدأ.
ومصر تحتفل اليوم لا بثورتها ولكن بعيد الشرطة، وتحية الجيش، والبكاء على الشهداء منهما، وقد اتفقت الأبواق في معظم القنوات على هذا الطرح، إذ استقبلت أكثر برامج التوك شو أبناء وأسر شهداء الجيش والشرطة، بينما أبناء وأسر شهداء الثوار فقد أهالوا عليهم التراب، وطاردتهم اللعنات بأنهم ومن ماتوا سبب النكبات، وهم من أعانوا وعاونوا على إشاعة الفوضى في البلاد، وتشريد العباد، بل تطوعت بعض البرامج المملوكة لفلول مبارك باستدعاء أصدقائهم من الفلول للحديث عن طهارة ورجولة وقداسة مبارك وعائلته وكل رجاله، مع قذف الثوار ورموزهم بنصيبٍ وافر من الشتائم التي تحوي اتهامات بالخسة والدناءة وسوء الأدب.
للتاريخ والإنصاف، احتفلت بعض القنوات على استحياء، ومنهم من استدعى ضيوفًا تفتخر بالثورة وتذكر الأسباب التي أدت إليها، وبالتبعية كلها تخص مبارك وعائلته ورجاله.
تبًا لهذا اليوم المسخ المشوه، مجهول الهوية، سهل المطية، أيستحق منا الرجم أم التحية، أيستحق أن نبكي من استشهدوا فيه أم ندعو عليهم باللعنة الأبدية، هذا اليوم الثوري الذي كنا نتفاخر باشتراكنا فيه، ونباهي به الأمم التي أكبرتنا على صنيعنا وقتها، واليوم صار يومًا متآمرًا نحاول أن نتبرأ منه..
الويل لنا جميعًا على هذا الفعل الفاضح في تاريخ الشعوب بالسكوت أو السلبية .. وبعد أن رأيت أم شهيد تلعن تلك الثورة التي فقدت فيها ابنها الذي مات على التآمر وظنته ثوري، نصحت ابني أن يصون دمه، ويحتفظ بحماسته فلا يثور ولا يتآمر، ولا يحتفي بهذا اليوم أو يأسى عليه.
ساحة النقاش