عبر أربعة عشر قصة تفترش تسعين صفحة تضمها مجموعة: "رحلة عبر ضوء القمر للأديب المصري الأستاذ فوزي محمود، السويسي المولد والإقامة نسبة إلى مدينة السويس إحدى محافظات جمهورية مصر العربية، ندخل في جوانب سيرة ذاتية في معظمها، ومع ذلك فهيّ تخالف شرط الراحل نجيب محفوظ في اعتبارها سيرة ذاتية لافتقادها عنصر المصارحة الذي يوجب على كاتبها النص على أنها سيرته هو، وفي هذا لم يخالف فوزي محمود سابقيه بل سار على نهجهم من اجترار كلمات: الفتى، الصبي، هو، صاحبنا. وقد دار معظمها في جنبات المجموعة مضافًا إليها الرجل السويسي.
ما أجمل هذا السرد التاريخي الطويل الذي انتظم مشوار حياة الأديب الذي عاشه ولم ينقله حكايةً عن الأقدمين، ولم يتبرأ منه بفعل النسيان في خلفية حياته التي ضرب عنها صفحًا، ولم يفسره بحنكة الخبراء بفعل السنين، ولم يفلسفه برطانة المثقفين، ولم يبرر ما جاء فيه؛ إذ ليس فيه ما يخجل منه أو يدنس سيرته.
نقلنا فوزي محمود ببراعة وحرفية كلاسيكية تنازل فيها عن تقنيات القصة الحديثة إلى عوالمه التي عاشها طفلًا ثم يافعًا، ثم شابًا، ثم شيخًا،والتي تنقل فيها تلميذًا موهوبًا، ثم عاملًا، ثم محاربًا، ثم محبًا، وزوجًا وأبًا وجدًا، عبر قصصه: "رحلة عبر ضوء القمر، وحلقت النسور من جديد، بعد الغروب، الليالي المقمرة، الأزرار المفقودة، شهود الزور، أحجار على الطريق، الثوب الأبيض، العزف على الوتر الثالثن وضحك القمر، طفولة صفحتها بيضاء، دماء على الشاطيء الآخر، الصورة، نصف قرن مضى".
بلغت براعته وبراءته أقصاها حين صحبنا عبر ضوء القمر في رحلة امتزج فيها الخيال بالواقع دون تنافر، مع ذلك الطفل الذي اقتطعه من حياته الاجتماعية، ورماه نردًا وحيدًا على سطح مدينة لا يعيش فيها سواه، ليقودنا عبر رحلتين، أحدهما أرضية، تمثل جانبًا من حياته في شوارع وطرقات ومحلات مدينته التي حكى عنها بحميمية خالصة مع قارئه السويسي في المقام الأول، ومع قارئه بشكل عام الذي افترض فيه أنه خبير بدروب ومعالم مدينته التي تناولها بتفصيل كثير لم يكن لازمًا، وأخرى فضائية عبر التشبث بخيوط ضوء القمر الذي دار بينهما حديث طويل هاديء تطرحه أرضًا تقنيات القص الأخيرة.
في نقلة مباغتة نقلنا فوزي محمود مع بطل قصته الذي جاوز مرحلة الطفولة إلى اليفوعة، ومن التلمذة إلى ميدان العمل، ومن السلام إلى الحرب، ومن الخيال إلى الواقع، ومن القرار إلى الانتقال، ومن عالمه الذي ألفناه، إلى عالم أسرته الذي خبأه عنا، وعالم وطنه الذي ادخره مع تاريخ تلك الحقبة ليلقيه فوق رؤوسنا ملتهبًا حادًا، أو جليدًا صادمًا، فتتلمس أقدامنا الأرض معه، عبر قصته "وحلقت النسور من جديد" التي تغطي حقبة وطنية، تاريخية، أفقية عبر تاريخ مصر الحديث، يبدأها بالهزيمة ثم ينهيها بالنصر، وعبر امتداد جغرافي من جنوب مصر إلى العاصمة مرورًا بالسويس، ثم مكان تجنيده، مع ذكر الأماكن للقاريء وكأنه يعرفها مثله! ومع سخونة أحداث هذا الفصل، لم تنتقل ألفاظ القاص فوزي محمود إلى منطقة الزعيق والصراخ والنداء كالباعة الجائلين للتدليل على حبه لوطنه، وهذا يحسب له، بل قدم الدليل على وطنيته الصادقة تلك ووطنية أسرته عبر مشهد درامي واقعي حين تقدم للتطوع في الجيش المصري دون اعتراض من الأسرة وهو المعفي من التجنيد، ثم يكتشف أن شرط الإعفاء أُلغيَّ، والآن مطلوب القبض عليه من قبل الدولة لتهربه من التجنيد، بل يتبدى ذلك الحب للوطن حين يقضي أجازته من وحدته العسكرية ليس في العاصمة وملاهيها بل في السفر إلى مدينته المحتلة وبيته المهجور.
لا يغمسنا فوزي محمود في عالمه الخاص والعام بالكلية ولم يبعدنا عنه أيضًا؛ إذ سرد لنا ما يعتنق من قيم نبيلة عبر قصتيه: "الأزرار المفتوحة" و "شهود الزور" للدلالة على الصدق مع النفس ومع الآخرين، والتنازل عن الانتقام لنفسه، في سرد هاديء لا ينفصل عن نفسه وقلمه طوال صفحات مجموعته الرائعة، ومن أجمل القصص التي تقدم عملاً شبه متكامل لقصة قصيرة كلاسيكية كحدوتة هادفة، ناطقة بمشاكل البعد الاجتماعي المصري والبلدان النامية، تأتي قصىة "طفولة صفحاتها بيضاء" لتلعب على تيمة قديمة تكرارية أبدية خالدة صاغها القاص بحبكة تدور في أجواء محلية عبر صفحات قليلة تتعانق فيها قيم الحب مع التضحبة من أجل سعادة الحبيب، وبينما نسرح ونتألم ونفرح مع بطلي القصة، يفاجئنا صوت الكاتب بوسيلة عفى عليها زمن القص، وركلتها السينما تمامًا من أفلامها، وهو يعلق على الأحداث في صوت جهوري أفقدنا بتلك السطور القليلة الإحساس بأن هذا العمل من أجمل قصص المجموعة.
أن أكثر من عمل في هذه المجموعة القصيرة نسبيًا، يصلح لكي يتحول لعمل روائي قصير من خلال تقنيات السينما الحديثة مثل "رحلة عبر ضوء القمر" وتنقل البطل عبر مصر واليابان، وذلك الحديث الماتع مع القمر، والانسيابية الشعرية الصادقة في الوصف، والسير مع عالم طفل تلك المرحلة، لاستطاع ذلك الفيلم مخاطبة طفل اليوم، وتعميق الانتماء الذي تطبل وتزمر حوله أبواق الإعلام ليل نهار، ولو سكتت ووفرت ما تنفق من أجل انتاج عمل كهذا لكان أجدى وأنجح.
إن من أهم مزايا تلك المجموعة هو ذلك السرد التاريخي الذي رفض الأديب فوزي محمود ضمه بين جنباته باعتباره ملكية خاصة له، فسارع بتقديمه للأجيال القادمة من عائلته وأبناء مدينته ووطنه، سلط فيه الأضواء على مراحل تاريخية هامة من حياته وحياة الوطن، وقدم فيه شهادته على تلك المراحل التي عاشها وخاضها، ومثلما كان هادئًا منطقيًا متواضعًا صادقًا في حياته، كان كذلك في مجموعته، فلم يلجأ إلى التراكيب اللغوية الصعبة، ولا إلى التشبيهات المفتعلة الصياغة، ولا احتاج أن يبرز عضلاته الثقافية، بل ترك لفظه يسري فينا فوق موج الصدق والفهم والوعي، وتركنا لأنفسنا نصدق أو نكذب سيان عنده، فقد قال كلمته ومضى، مكتفيًا بتكريم التاريخ له على ما قدم من عطاءٍ خفي للوطن، وتقديمه تجربته المشحونة والحافلة بالأحداث في كتاب طبعه على نفقته ولم يطرحه للبيع بل وزعه إهداءً لمحبي الوطن، فآخر ما يتربح منه وطنه الذي عاش له وفيه.
ساحة النقاش