قبيل نكسة يونيه 1967عرفت الموسيقى في مدرستي تل القلزم الابتدائية بالسويس، وعرفتها أكثر في مدرسة بني هارون الابتدائية بمحافظة بني سويف بعد تهجيرنا إليها، وكانت مدرسة بالطوب اللبن مكونة من طابقين في إحدي غرفها تقبع آلات موسيقية توزع علينا في حصة الموسيقى بمعرفة الأستاذ عبد التواب الذي كان يأتينا من البندر، أما أولادي الذين التحقوا بمدارس اللغات فلم يعزفوا بل لم يمسكوا آلة طوال حياتهم الدراسية مقارنة بالألوف التي أدفعها، والقروش التي دفعها والدي.
ثم تابعنا رحلتنا مع الموسيقى عبر الإذاعة والتليفزيون من خلال برامج الدكاترة: يوسف شوقي، سمحة الخولي، رتيبة الحفني، وأخيرًا مع غواص في بحر النغم الراحل عمار الشريعي، ورغم ولوجنا إلى التدين إلا أن الموسيقى الراقية لم تزايل مكانها فينا، وكنت أنقذ أولادي من الاستماع للموسيقى الهزلية الفجة التي طغت علينا بقعودهم معي أمام تلك البرامج التي ذكرت، حتى ترسخت فيهم القيم الجمالية الأصيلة والناقدة والحاكمة على كافة ما يقدم من فنون.
ولم يحاول التليفزيون المصري، تليفزيون الدولة، أن يتقدم خطوة نحو إعادة لا تلك البرامج ذاتها، وإنما تقديم برامج مثلها بوجوه جديدة، خاصة أن أرض مصر لم تنضب من مثيلات الدكتورة سمحة الخولي، ولو تطوعت بمشاركة شخصية مني لاختيار إحداهن لاخترت على الفور الدكتورة رانيا يحي، ليس لمحبتي وتقديري لها الشديد، ولكن لتميزها بعدة مواصفات مجتمعة فيها لاتتاح لغيرها، تؤهلها عن جدارة لتقديم برنامج ثقافي ناجح وناجع في آن، أما تلك المواصفات، فهي:
أن رانيا يحي أكاديمية مثل من سبقها، بل تفوقهن بتخصصها في آلتها منذ صغرها، وتشترك مع الدكتورة سمحة في أنها كانت طالبة في ذات الأكاديمية التي أنشأتها، وتدرس فيها الآن مما يجعلها تقف على أهم معوقات التذوق الفني عند هذا الجيل.
كما أن الدكتورة رانيا شابة، وهو ما سيكسر هذا الإيهام عند الشباب بأن تلك الموسيقى العالمية لاتناسب إلا الطاعنين في السن، وبالتالي سيقبل عليها محاولاً تذوقها.
بحكم تخصص الدكتورة رانيا في النقد، وإجادتها اللغة العربية بطلاقة، مكنها من تناول الظواهر الحياتية المختلفة سواء أكانت اجتماعية أو فنية أو ثقافية بالنقد من خلال مقالاتها التي تنشرها لها أكثر من جريدة يومية ومجلة أسبوعية، وهو ما سيضفي على برنامجها الحيوية والتجديد بتناول تلك الظواهر من خلال استضافة المسئول عنها، والنقد والقراءة الصحيحة مشترك قوي بين الدكتورتين سمحة ورانيا، وسيكون للقراءة الصحيحة الأثر البالغ في تقديم البرنامج.
بحكم عمل الدكتورة رانيا في المجال الثقافي سواء في الأكاديمية، أو المجلس الأعلى للثقافة، أو الأوبرا، أو جمعية كتاب السينما، سيتيح لها التعرف على الأنشطة والفرق والوفود والفعاليات الوافدة، وتقديمها للمتلقي الذي لا يعلم عنها شيئًا، كما يتيح لها الإطلاع على كافة المثالب والظواهر السلبية من الفساد والترهل والتراخي الإبداعي، وتسليط الضوء عليها ومحاربتها، ومحاصرتها إعلاميًا، فالثابت أن ليس الخطاب الديني وحده هو ما يحتاج إلى تجديد بل الخطاب الثقافي برمته يحتاج إلى ترميم أو إعادة بناء، وليس هناك أفضل من هذه السيدة فهي من آل البيت الثقافي، وأدرى بشعابه.
من خلال حفلات الدكتورة رانيا التي تقدمها لجمهورها بانتظام تستطيع الوقوف وتلمس ما تطلبه الذائقة العربية والمصرية، كما أن مزجها للغربي والشرقي من خلال مقطوعاتها التي تعتمد بشكل كبير على الهارموني، أتاح لموسيقى الحضارتين الدخول بلا فظاظة إلى عقل وقلب السامع، كما أن إقبال الجمهور المصري والعربي كمًا ونوعًا ليدل دلالة بالغة على مدى نجاح الدكتورة رانيا في تسويق الموسيقى الراقية، وعلى مدى قبولها عند مشاهديها ومستمعيها، مما يعطي مؤشرًا جيدًا ولا شك على أن الجماهير التي لا تعرفها ستقبلها ولا شك وتقبل على برنامجها.
ولأن البرنامج الذي أقترح اسمه أيضًا "ساعة مع رانيا"، ستكون مدته ـ بداهةً ـ ساعة تنقسم إلى فقرات تتناول في مقدمته أحد أهم القضايا التي تناولتها خلال مقالاتها، ثم اللقاء بأحد الشخصيات ممن ترى لهم علاقة بسخونة الأحداث الجارية، أو شخصية ثقافية عربية زائرة أو مقيمة، أو مصرية لها ثقلها، وتقديم فقرة تاريخية عن أحد أعلام الموسيقى الراحلين، وتقديم عمل عالمي أو محلي وتشرحه ببساطة وتفسر الألفاظ الموسيقية السائدة عند الناس، وتقديم عمل من أعمالها من آن لآخر.
أرجو أن ينال اقتراحي هذا مكانه اللائق من وقت وفكر القائمين على التليفزيون المصري ممثلاً في رئيسه، أو رئيس اتحاد الإذاعة والتليفزيون، أو وزير الثقافة، والقائمون على الإعلام، أو السيد محلب رئيس الوزراء، أو نترجمها في صورة استغاثة ونداء إلى السيد رئيس الجمهورية نفسه، فمع تقديرنا لكافة الشيفات والأطباء والمحللين السياسيين والإستراتيجيين وفقرات المسلسلات والأغاني، نحتاج إلى جانب كل هؤلاء ثقافة أصيلة تتناولها مثقفة متخصصة أصيلة مثل الدكتورة رانيا يحي، ولا داعي للتعلل بالتمويل فهذا برنامج قومي خدمي تنموي مردوده أقوى من نفقاته.
ساحة النقاش