كان لصحابة الرسول - صلى الله عليه وسلم - المكانة العالية عند الدارسين والمهتمين بالسيرة العطرة سواءٌ في ذلك المسلمين أو أهل الغرب من الذين أنصفوا أو حقدوا، فأفردوا لها صفحات في كتبهم، والتقت آراء الجانبين في مواضع كثيرة منها بالإشادة التي حكموا بمعجزيتها بعد أن قلبوها على كل وجوهها فحصًا وتمحيصًا.
استلفت الانتباه سر تلك العلاقة النبيلة الخالصة المخلصة بين الصحابة - رضوان الله عليهم - وبين الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى أنتجت هذا الجيل العبقري الفريد الذي لم يتوفر مثله لنبي قبله، ولن يتكرر في قابل الإيام جيل مثله يلتف حول قائده.
أرجع بعضهم سر تلك العلاقة إلى المحبة الناشئة بين الصحابة ونبيهم التي تبلغ حد الإعجاز، فيقول العقاد[1]: (هي المحبة التي جعلت كثيرًا من الناس يؤمنون بمحمد لمحبتهم إياه واطمئنانهم إليه، فكانت سابقة في قلوبهم وأرواحهم لحب العقيدة والإيمان، إن عطف العظيم على الصغير حتى يستحق منه هذا الحب لفضيلة يشرف بها المقام العظيم في نظر بني الإنسان. ولكن قد يقال إن استحقاق العظيم أن يحبه العظماء لأشرف من ذلك رتبة وأدل على حظه الجليل من فضائل التفوق والرجحان.. هذا صحيح لاريب فيه.. وهنا أيضًا قد تمت لمحمد معجزته التي لم يضارعه فيها أحد من ذوى الصداقات النادرة. فأحدقت به نخبة من ذوي الأقدار تجمع بين عظمة الحسب وعظمة الثروة وعظمة الهمة، وكل منهم ذو شأن في عظمته تقوم عليه دولة وتنهض به أمة.... تلك هي بلا ريب عظمة العظمات، ومعجزة الإعجاز في باب الصداقات).
لقد أحب الصحابة - رضي الله عنهم - نبيهم - صلى الله عليه وسلم - حبًّا جاء بعد حبهم لله قويًّا نقيًّا خالصًا أعلى من حبهم أنفسهم وأولادهم، حتى صار حبهم هو معجزة الرسول - صلى الله عليه وسلم - عند الدكتور محمد عبده يماني ويتجلى أدناه عند الصحابيات المؤمنات دون الرجال عندما سمعنَّ بما أصابه - صلى الله عليه وسلم - في غزوة أحد من كسر رَبَاعِيته، وشج رأسه الكريم، ومنهنَّ من مات أبوها وأخوها وزوجها ومن مات ابنها وقد استصغرن مصابهن ما دام الرسول - صلى الله عليه وسلم - بخير، إذ يقول[2]: (أرأيت إلى الحب كيف يصنع المعجزات؟ أرأيت كيف يغرس الرسول صلوات الله وسلامه عليه هذا الحب الذي يصنع المعجزات؟ امرأة يموت زوجها ويموت أخوها ويموت أبوها جميعًا في معركة واحدة، وتكون هذه المصائب الثلاث، وكل واحدة منهن فادحة، مفزعة، مجزعة، تكون كلها مجتمعة، إذا نجا الرسول صلوات الله وسلامه عليه، تكون كلها صغيرة هينة... حتى عند النساء لا الرجال.. والله لو لم تكن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا هذه المعجزة وحدها لأغنته... صلى الله عليه وسلم).
ولكن لماذا أحبّوه هذا الحب؟ إذ لا يوجد في التاريخ كله قوم أحبّوا إمامهم أو زعيمهم أو شيخهم أو قائدهم أو أستاذهم كما أحبّ أصحاب محمد محمدًا - صلى الله عليه وسلم - حتى افتدوه بالمهج، وعرّضوا أجسامهم للسيوف دون جسمه، وضحوا بدمائهم لحمايته، وبذلوا أعراضهم دون عرضه، فكان بعضهم لا يملأ عينيه من النظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إجلالاً له، ومنهم من ذهب إلى الموت طائعًا ويعلم أنها النهاية وكأنه يذهب إلى عرس، ومنهم من احتسى الشهادة في سبيل الله كالماء الزلل، لأنه أحبّ محمدًا ودعوته. بل كانوا يتمنون رضاه على رضاهم، وراحته ولو تعبوا، وشبعه ولو جاعوا، فما كانوا يرفعون أصواتهم على صوته، ولا يقدمون أمرهم على أمره، ولا يقطعون أمرًا من دونه، فهو المطاع المحبوب، والأسوة الحسنة، والقدوة المباركة.
أما دواعي هذا الحب وأسبابه، فأعظمها أن هذا الإنسان هو رسول الرحمن، وصفوة الإنس والجان، أرسله الله ليخرجهم من الظلمات إلى النور، ويقودهم إلى جنة عرضها السموات والأرض، ثم إنهم وجدوا فيه - صلى الله عليه وسلم - الإمام الذي كملت فضائله وتمّت محاسنه[3].
لم تكن المحبة وحدها هي العامل الوحيد في تلك الوشيجة الكريمة بين هذا الجيل وقائده، بل يكمن وراءها سببٌ أعظم ألا وهو تربية الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهم والتي مازالت تُدْرس وتُدَرس عبر رسائل علمية أكاديمية عدة، شهد له فيها ثُلة من علماء العرب والعجم بالإعجاز البشري للنبي - صلى الله عليه وسلم - ومنهم الشيخ محمد الغزالي حين يقول[4]: (إن تربية محمد - صلى الله عليه وسلم - لهذا الجيل معجزته الكبرى بعد القرآن الكريم).
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم إنه مرسَلٌ للناس كافة، ومرسل لبني آدم مابقى على ظهر الأرض منهم واحد، ولا نبوة بعد بعثته، كما كان يدرك أنه لن يُعمَّر حتى يطوف القارات ويهدى العصور المتطاولة ولهذا فقد ربي الجيل الذي يستمع إليه تربية خاصة تؤهلهم لحمل أنوار الرسالة وعبء هداية تلك الشعوب من بعده.
والمنصفون يقولون: حسب محمد شرفًا أن ينشئ من الأميين شعبًا راقيًا واعيًا. فكيف وقد أنشأ منهم أمة حركت الرواسي وأتت العجائب.. من كان يخرج الرومان من مستعمراتهم التي احتلّوها قروناً عديدة؟ من كان يحاكم مواريثهم الفكرية والروحية التي فرضوها بالحديد والنار؟ من كان يقدر على تقليص ظلالهم وكسر كبريائهم بعد ما هزموا الفرس، واحتكروا السيادة في الأرض بالطول والعرض؟.. لقد قدر على ذلك الرجال الذين صلوا وراء محمد في سجدة التواضع بالمدينة، وسمعوا منه القرآن فحفظوه فلم يسقطوا منه حرفًا، ونقلوه إلى من حولهم وإلى من بعدهم في دقة لم تعرفها صحائف الوحى منذ نزل وحي.. من روح محمد القائد العابد الداعي إلى الله على بصيرة، انطلق قادة عُبّاد صوب المشارق والمغارب، و ما أُثِرَ عنهم اعتداد بجنس ولا اشتهاء لغرض ولا إخلاد لأرض، ولا تكاسل عن آخرة! فإذا حضارة جديدة تقوم، هتافها الدائم أذان يتكرر من الفجر إلى العشاء يدعو العباد إلى أداء واجبهم نحو رب العباد. إن محمداً صناعةً إلهية لم تتكرر، فسبحان من أبدع محمدًا[5].
لم تكن مهمة النبي - صلى الله عليه وسلم - مهمة سهلة بل هي من أشق المهمات إنها مهمة صناعة الرجال؛ فيثبت الدكتور محمد عمارة[6]أن الصحابة صناعة وتربية الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فيقول: (إن صناعة الرجال هي أعظم الصناعات الثقيلة في هذه الحياة.. وأعظم الزعماء في العبقرية هم أوائل الذين يعرفون المعادن النفيسة للرجال، فيضعونهم في مواضعهم الطبيعية فيحدثون التحولات الكبرى في النهوض والتقدم وتغيير مجرى التاريخ.. ولقد كان من إعجاز مدرسة النبوة في دار الأرقم بن أبي الأرقم.. وفي الروضة الشريفة صناعة الجيل الفريد من الرجال والنساء الذين غيروا مضمون الحضارة والمدنية والثقافة ووجهة التاريخ.. هذا الجيل الفريد الذي هزم الشرك والوثنية وأقام الدين وأسس الدولة وأزال بالفتوحات الإسلامية القوى العظمى الظالمة - الفرس والروم - التي قهرت الشرق دينيا وثقافيا وسياسيا ونهبته اقتصاديا لأكثر من عشرة قرون.. وذلك عندما فتح هذا الجيل الفريد في ثمانين عاما أوسع مما فتح الرومان في ثمانية قرون.. وكان فتحهم تحريرا للأرض.. وللضمير).
ونتاج هذه التربية تبدى في بلوغ الصحابة شأو العظمة التي فاقت حد الإعجاز كما يشهد بهذا خالد محمد خالد[7]، فيقول: (إن التاريخ لم يشهد رجالاً عقدوا عزمهم ونواياهم على غاية تناهت في العدالة والسمو، ثم نذروا لها حياتهم على نسق تناهي في الجسارة والتضحية والبذل، كما شهد في أولئك الرجال حول الرسول.. لقد جاؤوا الحياة في أوانهم المرتقب، ويومهم الموعود.. فحين كانت الحياة تهيب بمن يجدد لِقِيّمِها الروحية شبابها وصوابها، جاء هؤلاء مع رسولهم الكريم مبشرين وناسكين. وحين كانت تهيب بمن يضع عن البشرية الرازحة أغلالها، ويُحرر وجودها ومصيرها، جاء هؤلاء وراء رسولهم العظيم ثوارًا ومحررين.. وحين كانت تهيب بمن يستشرف للحضارة الإنسانية مطالع جديدة ورشيدة، جاء هؤلاء روَّادًا ومُسْتَشرِقين.. كيف أنجز أولئك الأبرار كل هذا الذي أنجزوه في بضع سنين..؟! كيف دَمْدَمْوا على العالم القديم بإمبراطورياته وصولجانه وحوَّلوه إلى كَثيب مَهيل..؟! كيف شادوا بقرآن الله وكلماته عالَمًا جديدًا يهتزُّ نَضْرَة.. ويتألق عظَمة.. ويتفوق اقتدارًا..؟! وقبل هذا كله، وفوق هذا كله.. كيف استطاعوا في مثل سرعة الضوء أن يضيئوا الضمير الإنساني بحقيقة التوحيد ويَكنُسوا منه إلى الأبد وثَنِية القرون..؟!
تلك هي معجزتهم الحقة.. وأيضًا فإن معجزتهم الحقة تتمثل في تلك القدرة النفسية الهائلة التي صاغوا بها فضائلهم واعتصموا بإيمانهم على نحو يَجِلُّ عن النظير..!!
على أن كل معجزاتهم التي حققوها، لم تكن سوى انعكاس مُتواضع للمعجزة الكبرى التي أهَلَّت على الدنيا يوم أذن الله لقرآنه الكريم أن يتنزل، ولرسوله الأمين أن يُبلغ، ولموكب الإسلام أن يبدأَ على طريق النور خُطاه..!!).
إنهم تلامذة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين التحقوا بجامعته منذ أن نطقوا الشهادتين، وعاشوا في هذا المحيط التربوي الإلهي المحفوف بالروعة والجلال، يا لها من جامعة استمرت ثلاثة وعشرين عامًا تخرج فيها الخلفاء والقادة وأمراء الجيوش، وولاة الأمصار والقضاة والفقهاء، والمحدثون والمستنبطون والمشرعون، تخرجت فيها أمة كاملة تحب العدل، وتعتز بكرامة الإنسان، وترضى بالمساواة، وتركَن إلى الشورى، وتمجِّد الوفاء، وتحفظ حقوق العلماء، تعلم الجهلاء وترشد السفهاء... ثلاثة وعشرون عامًا والوحي ينزل من السماء ومحمد يبلغ ويحدث، فتبليغه وحي، وكلامه سُنة، وفعله قدوة، والناس راضون والإسلام يعلو شأنه يومًا بعد يوم، ومن هذه المدرسة اندفع الرعيل الأول من المؤمنين إلى العالم يحملون قرآن - رب - محمد - صلى الله عليه وسلم - وأدبه، والقدر يخط لهم في صحائف المجد في فتوح البلدان ونور الإسلام يشع فيضيء الدجنة الحالكة بين الناس، تخرج فيها: أبو بكر في إدارته وحزمه، وعمر في تنظيمه وعدله، وعثمان في كرمه وحلمه، وعلي في شجاعته وزهده، وقادة الجيوش وأمراؤهم: خالد بن الوليد والمثنى بن حارثة وأبو عبيدة بن الجراح وسعد بن أبي وقاص وعمرو بن العاص، وغيرهم من عباقرة الإسلام[8].
ألا يكفي هذا الجيل الفريد العبقري الفذ شهادة وإشادة القرآن الكريم لهم ولقائدهم وأستاذهم من قبلهم النبي المعلم - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا * مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾[9].
من أشد ما يدهش معظم المستشرقين ممن تناولوا تاريخ وإنجاز جيل الصحابة هيَّ تلك البيئة الحاضنة لهم، والتي تحولوا فيها، وشهدت انطلاقتهم إلى باقي الأمم، وذلك عبر دراسة استقصائية لمروياتهم تتبعًا لكتبهم ودراساتهم ولا يتسع المقال بالطبع لسردها على نحوٍ تاريخي، ومعقد الدهشة هو أن البيئة بكل معطيات المنطق الذين درسوه لا يمكن أن تؤدي إلى تلك النتيجة الباهرة التي لا تفوق حد الواقع فقط بل حد الخيال.
ربما تمثل هذا أحسن تمثيل بالنيابة عن أصحابها من أهل الاستشراق الكاتبة الإيطالية الدكتورة (لورا فيتشا فاليري)[10]، فتقول: (في بلدٍ قَفرٍ بوادٍ غيرِ ذي زرعٍ منعزلٍ عن الإنسانيةِ المتمدنةِ، تفجَّرَ ينبوعُ ماءٍ سلسلٍ عذبٍ منعشٍ، بين قومٍ من الهَمَجِ جبابرةٍ غلاظِ القلوبِ لا يخضعونَ لسلطانٍ ولا يتقيدون بقيدٍ. ذلك الينبوعُ هو دينُ الإسلامِ الذي تدفَّقَ بغزارةٍ، واتَّخَذَ سبيلَه في الأرضِ سربًا، فكان نُهَيرًا استحالَ بعده إلى نهرٍ عظيمٍ. سرعانَ ما تفرَّعَتْ منه آلافُ الجداولِ والأنهارِ التي تغلغلتْ في البلادِ طولاً وعرضًا. ولم يلبثْ الناسُ أن تذوَّقوا هذا الشرابَ العجيبَ، وشُفوا من أمراضِهم الاجتماعيةِ، واتَّحَدَ المختلفون منهم والمتخاصمونَ، وانطفأتْ نيرانُ الحقدِ والكراهيةِ المبثوثةِ في صدورِهم، وزالَ من بينهم أسبابُ النفورِ والخلافِ. استحالَ هذا الماءُ المقدَّسُ سيلاً جارفًا اكتسحَ بقوته الساحرةِ بلادًا عظيمةً، فثَلَّ عروشَها وطُوِيَ مجدُها طيّ السجِلِّ للكتبِ. لم يعرفْ التاريخُ حادثًا مماثلاً لهذا الحادثِ الخطيرِ، لأن السرعةَ العظيمةَ التي أتم بها الإسلامُ فتوحاتِه، كان لها أبلغَ الأثرِ في حياته. إذ أنه بعدَ أن كان عقيدةَ نفرٍ كثيرٍ من المتحمسينَ، أصبحَ دينًا لعدةِ ملايينَ من الناسِ! وليتَ شعري كيف تأتّى لهؤلاء المجاهدينِ غيرِ المدربينَ أن ينتصروا على شعوبٍ يفوقونهم مدنيةً وثروةً، ويزيدونَ عليهم درباً ومراساً للحروبِ؟ وكيف استطاعوا أن يبسطوا سلطانهم على بلادٍ متسعةِ الأرجاءِ، وأن يحتفظوا بفتوحاتِهم هذه ويوطِّدوا هذا الصرحَ العظيمَ الذي ثبتَ أمامَ حروبٍ شديدةٍ استمرَّتْ قروناً عديدةً فلم تقوَ على هدمِه ونقضِ بنيانِه الشامخِ المتينِ؟ وكيف أمكنَ لهذا الدينِ أن يوطِّدَ في نفوسِ أولئك المهتدينَ الحديثي الإيمانِ أمتنَ الأسسِ؟ وكيف تسنى له أن يحتفظَ بحيويته العظيمةِ التي لم تعرِفْ مثلَها ديانةٌ أخرى من قبلُ، حتى بعدَ ثلاثةَ عشرَ قرنًا خَلَتْ بعد حياةِ مؤسِّسِهِ؟ وكيف استطاع هذا الدينُ أن يغرسَ تلكَ الحماسةَ الدينيةَ في نفوسِ أتباعِه الجددِ، المختلفينَ عن أتباعه الأولِ في الجنسِ والثقافة، فحذَوْا حَذْوَهم في الإخلاصِ والتضحيةِ في سبيله؟ لعَمري إن هذا كلَّه ليبعثُ في الإنسانِ الشيءَ الكثيرَ من الدهشةِ والذهولِ.
أفليسَ من أكبرِ معجزاتِ هذا الدينِ الجديدِ أن يؤلِّفَ بين قلوبِ أقوامٍ كهؤلاءِ العربِ، عاشُوا أجيالاً عديدةً في مخاصماتٍ شديدةٍ وحروبٍ أهليةٍ مستمرةٍ، فعرفوا بفضلِه الاتحادَ والإخاءَ والسلامَ؟
إن الإسلامَ يمتازُ بفضائلَ، وأكبرُها فضيلتا الرحمةِ والعدلِ. وإن الناس لتتلهفُ على دينٍ يتفقُ وحاجياتهم ومصالحهم الدنيوية ولا يكون قاصرًا على إرضاءِ مشاعرِهم، بل يريدون أن يكونَ وسيلةً لأمنِهم وطمأنينتهم في الدنيا والآخرة. وليس هناك من دينٍ تتوفَّرُ فيه هذه المزايا كلُّها بشكلٍ رائعٍ سوى دين الإسلام).
من الملاَحظ أن لورا فيتشا فاليري أرجعت ما أصبح عليه الصحابة - رضوان الله عليهم - إلى الإسلام فقط كمعجزة بينما الواقع يشهد أنهم ما تشرَّبوا هذا الدين بعباداته ومعاملاته وسلوكياته قولاً وفعلاً إلا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذى جسَّد الإسلام تجسيدًا شبهته فيه زوجه السيدة عائشة- رضي الله عنها- بأنه كان خلقه القرآن، فيصبح فضل ماهم فيه مردود إليه صلى الله عليه وسلم.
يؤكد هذا الشيخ محمد الغزالى[11]، حين يقول: (ونبى القرآن كان في حياته الخاصة المثال الأول، والأزكى، والأرقى، لكل ما أرضى به الله ووجه إليه العباد.. أمر الله بفرائض، وحث على نوافل، وأحل حلالا، وحرم حرامًا، وضع حدودًا، وساق عبرًا إنك واجد ذلك كله "نظريًا" في كتاب الله، ولكنك واجد التنفيذ "العملي" له ظاهرًا وباطنًا في سيرة محمد نبي القرآن).
إن ما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أخرج للبشرية هذا الجيل الفائق الجودة في كل منحى ليقف - وحده - دليلاً كافيًا من دلائل نبوته - صلى الله عليه وسلم - لا يحتاج دليل سواه، ويشهد بهذا الفقيه المالكي شهاب الدين أبو العباس القرافي، فيقول: (لولم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم معجزة إلا أصحابه، لكفوه لإثبات نبوته)[12].
[1] عباس العقاد، عبقرية محمد ص 81-82.
[2] الدكتور محمد عبده يماني، السلام عليك يا رسول الله، مجلة المنهل العدد 484 المجلد 52.
[3] الدكتور عائض القرني، محمد صلى الله عليه وسلم كأنك تراه ص115.
[4] محمد الغزالي، علل وأدوية ص 122.
[5] محمد الغزالي، الغزو الثقافي يمتد في فراغنا ص 136-137.
[6] الدكتور محمد عمارة، رجال عصر النبوة بمجلة المنار الجديد العد 39/ 2007.
[7] خالد محمد خالد، رجال حول الرسول ص 7-8.
[8] الدكتور محمد بديع شريف، المساواة في الإسلام ص47-49.
[9] سورة الفتح: 28-29.
[10] لورا فيتشا فاليري، محاسن الإسلام، ص 115.
[11] محمد الغزالي، ركائز الإيمان بين العقل والقلب ص 195.
[12] الرسول المعلم للشيخ عبدالفتاح أبو غدة ص 14.
ساحة النقاش