لم يكن فى نيته يوماً الارتباط بها، فليس كل الأقارب يتزوجون بالضرورة من أقربائهم ، لكنها تصر عليه
ـ تربينا معاً ، وعشنا معاً ، وكبرنا معاً ، حتى العمل بالمدينة نذهب اليه معاً ونعود منه معاً ..
ـ اللعنة على مشوار المدينة اليومى ، فهو الذى يغذى ذلك الوهم النابع من رأسها فقط ..
ينحدر بهما الطريق الرملى جانباً وهما فى طريقهما لركوب قطار العودة .. أحس برعدة كاد أن يسقط.. تدركه من ذراعه . يمتقع لونه وهو ينظر اليها مشفقاً .. يخلفان وراءهما غباراً خفيفاً .. الأقدام تفر من تحتها الرمال ، الشمس يخنقها الغروب . تتوارى .. المقابر تسير مع الطريق تصاحب الأحياء رحلة الدرب الرملى الطويل .. ينظر نحوهم يتمنى لو كان هناك، تبدو عربات القطار المسترخية على أشرطة القضبان الفرعية أمام بقايا من بيوت رحل عنها ساكنيها .. ينظر نحوها يتمنى لوكان مع من رحلوا ..
ـ ما ذنبى ؟! أبى يهجرنى صغيراً لأمٍ أنهكها الانتظار وشماتة المحيطين فهجرتنى رغماً عنها بالموت ، يربينى عمى فى بيته .. أكبر معها ، تحبنى ولا أحبها ، ومن أحببتها وتزوجتها بعيدة حيث العاصمة وابنى معها ..
ينظر نحوها بعطف ، تنظر اليه شذراً ، يسكنه اللون الأصفر .. عيون الأموات ترقب حياتهما ، كادت تتعثر فى حجر ناتىء صغير ، يمسك يدها تجذبها دفعةً واحدة ، يغزوه اللون الباهت ثانيةً . يرتعد . تثبت عينيها فى عينيه .. شفتاها تتحركان ، تتلو صحيفة جرائمه . يسقط فى يده . يتسمر ..
ـ من المؤكد أنها عرفت قصة زواجه وانجابه سراً ممن استأمنهم على سره فأذاعوه.
تتكلم .. لم يكن معها . تنهره فى عنف . يغرس بصره فى موقع قدميه . تزجره . يتشجع على الكلام .. تدمدم الأرض تحتهما .. يغزو الكون صوت قادم . احتواهما الفزع .. قطار آت من بعيد .. يتكلم .. تسرح . لاتسمعه .. تستصرخه .. يحاول الكلام .. صوت القطار يبتلع صوته .. لا تسمع . تتلو عليه ذنباً آخر .. يعلو صوته مدافعاً رافضاً موقفه الذليل لفضل أبيها الذى تحسن استغلاله ..تصغى فى ذهول .. يأكل صوته غضب القطار البطىء .. تصرخ في وجهه.. بتقهقر ، تمضى أمامه يائسة .. السكون يشجعه على الكلام .. فتح فمه .. التقط صفير القطار عباراته . محاها .. تشده اليها .. القطار الغاضب مازال يسير الهوينى على القضبان المنهكة التى لا ترحب باستقباله .. نظر اليها النظرة الأخيرة .. ليس له من أمل هنا ، شاع أمر زواجه عندها فمن المؤكد أن البلدة كلها علمت بأمره وأهلها والعمدة وإمام المسجد وعمه وهذا ما فعلته ابنته فكيف هو ؟ محاكمات فى المجالس وتقطيع سيرته سهارى وحكايات على المصاطب و .... و .... و ...
ـ سأركب القطار .. ابنى ليس له عم هنا أو هناك ..
ـ قطارنا لم يأت موعده بعد .. انتظـ ـ ـ ـر .....
لم يسمعها .. كان قد أخذ قراره ، واتجه نحو القطار مسرعاً .. يعانق ظله ظله .. يتحدان .. تصرخ فيه .. رأتهما جسداً واحداً .. خيل إليها أنه غطى بجسده القطار أو أن القطار قد تمدد فيه .. يلوح لها من العربة الأخيرة .. تحاول أن تلحق به ، تصرخ باكية : عد .. يتكلم . تصغى .. يأكل آخر كلماته صوت قطار يعلن عن رحيله .. لم تسمع . تزجره .... ذهب صوته .. وذهب القطار ... لتبقى وحدها والدرب الطويـــل ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فازت قصة القطار للأديب السيد إبراهيم أحمد فى مسابقة قصص على الهواء التى تنظمها مجلة العربى مع إذاعة BBC وقد اختارها الناقد البحرينى فهد حسين لتفوز عن شهر مايو 2010 ، معللاً سبب اختياره لها بقوله بمجلة العربى عدد مايو 2010 : (قصة فنية تعاملت مع شخصيتين رئيسيتين لإيمان القاص بقدرة القصة على طبيعة استيعاب الشخصيات في القصة، بلغة قصصية جميلة وتقنية تعاملت مع القص بشكل فني. وضحت فكرة البعد التراثي في الفكر التقليدي للعائلات في المجتمع ).ــ رابط الاستماع للقصة من موقع إذاعة : BBC - Arabic :
http://www.bbc.co.uk/arabic/tvandrad...orytrain.shtml
ساحة النقاش