شب (محمد التهامى) كاتب رواية هيروبوليس ليجد نفسه مواطناً يعيش تحت سماء مدينة السويس من أقاليم مصر المحروسة التى تشغل موقعاً هاماً على خريطة البطولات ، وحيزاً واسعاً فى تاريخ المجد الضارب فى الأزمنة القديمة ، حيثما ضرب قلمه ليكتب عنها انثالت منه الأفكار ..فمن أين يبدأ ..؟! من التاريخ القديم أم من تاريخها المعاصر ..؟!
وقف ( التهامى) حائراً ؛ فهاهى قد مضت مواكب الانتصارات والأمجاد سريعاً ولم تخلف وراءها مجداً جديداً واحداً ليحياه ، مر الزمن وطوى معه الأحداث والرجال ، ووقف الشاب وحيداً يخوض غمار المعارك التى سجلت أحداثها أقلام الساسة والمؤرخين ورجال الفكر ، كما أرهف سمعه لكل من سبقوه وعاشوا أو عايشوا مدينته ( هيروبوليس)ـ وهو من أسماء مدينة السويس ـ ليسمع من أقاصيصهم ، ولما لم يرتو أبحر بزورقه المتعطش لحكايات الأقدمين وسمع من أفواه العجائز سوالفهم .
لم تكن ( هيروبوليس) هى البطل الوحيد وإن كانت هى البطل الحقيقى كما رأى بعضهم ؛ فالتهامى فى الواقع هو البطل الثانى الذى اقتطع من وقته الشاب الذى توهج فى شيخوخة مدينته الذابلة ، ليبحر فى تاريخها القديم يلملم أشلاء المجد الغابر العابر محاولاً تجسيده فى تلك الراوية القصيرة التى تعج بشخصيات كثيرة وأحداث أيضاً كثيرة ومتنوعة حتى أصابنا اللهاث ونحن نحاول أن نلاحق شخصياته وأحداثه التى لم يرهقه أن يمسك بخيوطها جيداً ، بل يحركها ببراعةٍ جيدة أيضاً ، رغم أنها المحاولة الأولى له فى اقتحام ميدان الرواية الوعر الذى ظل نظره فيها يرنو إلى الماضى بحبٍ وتوقير ويستشرف المستقبل بخوفٍ وأمل خافت.
ما أن تطرق مسامعنا ( هيروبوليس ) حتى تردنا إلى رواية الكاتب الألمانى [أرنست جنجر (1895-1998)] المسماة ( هيليوبوليس) غير أن المفارقة تبدو بعد مطالعة رواية التهامى إذ يحكى فيها عن مدينة واقعية بينما (جنجر) يقدم نموذج المدينة الخيالية التى اختفت .. وهذا الذى وقر فى ذهنى حين باغتنى اسم الرواية إذ تصورت أن التهامى سيخطفنا إلى مدينة خيالية لا تنتمى لأى مدينة أرضية ناهيك أن تكون مصرية حقيقية ، وحقاً وٌفِق التهامى حين استعار هذا الاسم المقدس من شعلة الأغريق التى ألقت بظلال نورها ونارها على مصر.
إذن فرواية التهامى ( هيروبوليس) تأتى داخل اطار هذا الجنس الخاص من الأدب الروائى الذى عكف على معالجته أكثر من روائى وتدور معالجاته حول [ رواية المدينة أو مدينة الرواية ] لتتبلور الرؤية غالباً حول المقارنة بين مدينة الرواية ومدينة الواقع انعكاساً أو اسقاطاً ؛ فليس مهماً أبداً أن ( التهامى) عاش تلك الأحداث أو لم يعشها ، نقلها أم أخترعها فلكم أغرم كتاباً بمدن كتبوا عنها ولم يزوروها فأندريه مالرو الكاتب الفرنسى المعروف لم يكن يعرف شيئاً عن الصين حين كتب روايته ( الغزاة) ، غير أن أديبنا كان يعيش فى المدينة بل كان يعيشها ويعرفها وسار بعقله وقلبه على صفحات تاريخها يلتهمه التهاماً حتى غلبت نزعته ورؤيته التاريخية على التقنية الفنية للسرد الروائى انحيازاً لنقل الواقع مسلسلاً .
إن الذين لاموا التهامى لأنه أوجز هذا العمل الكبير خلال صفحات روايته القليلة عليهم أن يلتمسوا له العذر ؛ فالرواية مطبوعة على نفقته الخاصة ، وكلما زادت الصفحات زادت الجنيهات ، أما الأمر الثانى فربما خاف الروائى الشاب من قرائه الشباب أن يخذلوه لو زادت روايته كماً وكيفاً فيعرضون عن المضى فى قراءتها ، مما دفعه ـ ثالثاً ـ إلى العدو نحو سرد حكاياته عبر شخصياته متنقلاً عبر الأماكن والأحداث ليدفعها أمام القارىء دفعة واحدة وكأنه هَماً يحاول التخلص منه .
أما الذين لاموه لأنه جعل معظم صيغه الأسلوبية تدور فى الزمن الماضى ، فهذا ما لايجب أن يلومه عليه أحد خاصة وأن المساحة لم تكن تكفيه ـ كما أشرنا سابقاً ـ إلى التنقل بين الصورة الوصفية والصورة السردية مما نشأ عنه التوتر بين السرد والوصف ، والاختلاف بينهما يكمن فى أن الصورة الوصفية تصف ساكناً لايتحرك ، أما الثانية فتدخل الحركة على الوصف أى تصف الفعل ، والأخيرة هى التى ألح (الكاتب) فى الطرق عليها خشية أن يفر منه عنصر الزمن ، ذلك أن اللوحة فى الصورة السردية لاتتناول وصف أشياء أو شخصيات ساكنة وإنما تتناول الحياة أى الحركة ، فمن المعلوم أن زمن الرواية يختلف عن الزمن العادى بتوقيتاته المعروفة . وبالرغم من هذا فقد وقع التهامى فى غرام ذكر بعض التفصيلات التى كان يمكنه الاستغناء عنها كأسماء بعض الشواطىء والكافيتريات ظناً منه أن هذه واقعية ، ويباح له هذا لو أن تلك الأسماءالتى أوردها كانت مشهورة عند الكافة .. فهل ـ مثلاً ـ بلغت شهرة ( راتب) شهرة ( جروبى) ؟! .. وذكر عنوان وعدد زيارات ( أمينة) العلاجية للقاهرة والمنصورة يالاسم والعنوان ولم يتبق إلا ذكر أرقام التليفون ، كما أفلتت منه أحياناً بعض الجمل التى جمعها وتستحق التثنية ، ومرة راوحها بين التثنية والجمع وهذه ينفض منها ( التهامى) يديه ليضعها فى رقبة المدقق اللغوى .
أن ( هيروبوليس ) كعمل روائى تنتمى أيضاً فى جنس الرواية لما يسمى بـ ( رواية الأجيال) مثلها فى ذلك مثل ثلاثية نجيب محفوظ وكذلك رواية توماس مان ( آل بودنبروكس) وهو ما يجب أن أوُصىِّ به ( التهامى) بمراجعة قراءة هذه الروايات وإن كنت أرى بعض التماس أحياناً بين بعض شخصيات ( التهامى) وشخصيات ( محفوظ) من حيث التوجه العقائدى، كما أوصيه أن يجعل (هيروبوليس) خبيئته المستقبلية فيعاود الرجوع إليها وبسطها فى مساحة أكبر محاولاً وهو يتعامل مع مثل هذا النوع من الفن الروائى ككاتب أجيال أن يزاوج بين عالم الأمس وعالم اليوم ، وأن يصب الخبرة والسيرة الذاتية فى السيرة الغيرية موزعاً إياها على كل الأدوار تماماً كما يفعل (محفوظ) مع التأكيد على تضييق الفجوة الزمنية للزمن الطبيعى فى الرواية ؛ حيث أن للزمن الطبيعى ارتباطاً وثيقاً بالتاريخ وهذا من أهم ما يميز البناء الروائى فى الثلاثية لمحفوظ من حيث الشكل الزمنى المحدد بإحكام سواء فى الأجزاء المختلفة أو فى الثغرات الزمنية التى تفصل الأجزاء الثلاثة أو فى الفصول المختلفة إذ نجد أن :
1ـ بين القصرين : من أكتوبر 1917 وحتى إبريل 1919 (19 شهر).
2ـ قصر الشـوق : من يوليــو 1924 وحتى أغسطس 1927 (3 سنوات وشهر ) .
3ـ السكريـــــــــة : من ينايــر 1935 وحتى 1944 ( 9 سنوات ) .
إذن فكل أحداث الثلاثية تمت فى حوالى 14 عاماً إلا قليلا فى عدد صفحات 1436 صفحة تقريباً . من هنا تعلم كم كنت مغامراً أيها ( التهامى) عندما كرست هذا العدد الوافر من الشخصيات والتنوع فى الأماكن والأحداث فى هذا العدد المتواضع من الصفحات التى لاتزيد عن المائة والخمسين صفحة على امتداد قرابة القرن من الزمان.
وبعد كل ما تقدم .. فهنيئاً للرواية العربية بفارس جديد ، واعد ، مقتحم ، مهموم بقضايا وطنه .. فارس يشتاق زمن الفوارس البائد ، يرنو إلى عصور الأمجاد والانتصارات والبطولات فلم يجد له دور فى الزمن الأخير غير أن يرصد الأمجاد فرصدها بتاريخية أكثر وفنية جيدة ، رصد أقدام الزعماء الذين تشرفت أقدامهم بأن تطأ أرض ( هيروبوليس) ، لكنه ـ للأسف ـ لن يستطيع أن يرصد فى زمنه موطىء قدمين الزعيم الحالى ـ وكان مبارك وقت صدور الرواية ـ فـ (هيروبوليس) محصورة الآن بين قيادة الجيش الثالث الميدانى شمالاً ، ومشروعات خليج السويس غرباً وهما فقط من تشرفتا بزيارته دون غيرهما ، وربما كان هذا عقاباً من الله للسوايسة حين لم يحسنوا استقبال الزعيم الراحل أنور السادات حين كان يزور مدينتهم فتجهموا له وأعرضوا عنه فثأر الله له وتلك بتلك .
وأرجو أن يطمئن ( يزيد) ـ وهو البطل الثانى من الجيل الثالث فى الرواية ـ من أن جيلكم لن يتحمل خوض حرب جديدة أو الدفاع عن السويس / هيروبوليس إذا ما شن الأعداء حرباً عليها ، وكذلك عليك أيضاً أن تطمئن يا ( تهامى) فالخير باقٍ فيكم شباب هذه الأمة ، وأنكم لم ولن تقلوا فروسية وجهاداً وبطولة وتضحية وفداء إذا ما جد الجد وليس أدل على ذلك أنك أنت الذى سطرت بقلمك الغض الفائر أحداث مثل هذه الرواية الرائعة التى قرأها وأهتم بها شباب جيدون ومتحمسون من أبناء جيلك الواعدون ، كما لا تنس أن الذى صنع نصر أكتوبرالمجيد كانوا شباباً فى مثل أعماركم نبتوا على أرض هذه البلد الولود دائماً بالرجال.(1)
وفى بلد مثل ( هيروبوليس) وغيرها يوجد الآن قبراً لا قصراً للثقافة يسكن أركانه عواجيز الأدب من تلك الثُلة التى أكل الدهر عليها وشرب من مرتزقة موائد السلطان لن تجد فيهم من يصغى لك أو يصفق لك أو يحتفى بك هذا إن لم يسعواْ إلى وأدك وقتل موهبتك فهم عادةً هكذا تجاه كل جديد ووليد .. فلا تضع سيفك .. ولا تطفىء شعلتك .. توهج أكثر .. أبدع أكثر .. فأنت القادم وهم الذاهبون ....
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(1) كانت هذه نبوء للكاتب صدقت فيما بعد حين قام الشباب حقاً بثورة 25 يناير المجيدة .
ساحة النقاش