اهتم العرب أيما اهتمام بعلم النسب سواء فى جاهليتهم أو بعد أن دخلوا فى دين الإسلام أفواجاً ، فكانت لهم فيه مدارس ، مثل: مدرسة المدينة والشام، والمدرسة العراقية ( في البصرة والكوفة ) ، والمدرسة اليمنية ، ولأن هذا العلم من أجل العلوم قدرا فقد وضع له النسابون مصطلحات يتداولونها بينهم بحيث تخفى عمن ليس منهم ، مثل :(صحيح النسب) ، فيمن ثبت نسبه في ديوانهم ،و(مقبول النسب) فيمن أنكره بعضهم وثبت نسبه بشهادة عدلين فصار نسبه مقبولاً عندهم فحينئذ ، فإن لم يوجد منصوصاً عليه من طرف مشائخ النسابين ، فلا تتساوى مرتبته بمرتبة من اتفق عليه بإجماع النسابين ، و( مردود النسب) : فيمن ادعى إلى قبيلة أي عائلة ولم يكن منهم فعلم به النسابون واعلموا به تلك القبيلة وثبت بطلانه ، فوجب منعه من دعوة الشرف فيصبح مردود النسب وخارج عن البيت الشريف .
وأما الأسباب التى دعت أهل العلم الاهتمام بعلم الأنساب أنه من الأمور المطلوبة والمعارف المندوبة لما يترتب عليها من الأحكام الشرعية والمعالم الدينية كالعلم بنسب النبي صلى الله عليه وسلم وأنه النبي القرشي الهاشمي الذي كان بمكة وهاجر منها إلى المدينة وهذا العلم لابد منه لصحة الإيمان ولا يعذر مسلم في الجهل به ، والتعارف بين الناس حتى لا ينتسب أحد إلى غير آبائه ولا ينتسب إلى سوى أجداده ، وعلى ذلك تترتب أحكام الورثة فيحجب بعضهم بعضًا ، وغير ذلك .
ولقد كان من أصحاب النبى من له باعٌ طويلٌ بالنسب وأشهرهم فى هذا صديقه الصدوق الصديق ولهذا فقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم الشاعر حسان بن ثابت الأنصاري أن يستعين بأبى بكر ليرد على كفار قريش لعلمه بأنسابهم ، نعم فقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه في علم النسب بالمقام الأرفع والجانب الأعلى وذلك أول دليل وأعظم شاهد على شرف هذا العلم وجلالة قدره .
ولعل أول ما كتب في صدر الإسلام إنما كان في علم النسب، فقد تزامن مع بداية التدوين فى عهد الفاروق وكان على يد أولئك الذين أتى بهم الخليفة عمر بن الخطاب ، فعهد إليهم بوضع سجلات الأنساب التي أنشأها وهم: جبير بن مطعم بن عدي القرشي ،عقيل بن أبي طالب عبد مناف الهاشمي ، مخرمة بن نوف بن أهيب الزهيري القرشي، وكانت توجيهات الخليفة عمرالصادرة إليهم فى هذا الشأن أن يدونوا ثبتاً بأنساب العرب على قبائلهم حسب قربهم من الرسول صلى الله عليه وسلم لاجل تنظيم ديوان العطاء.
فهل هناك من تسول له نفسه وهو مجهول النسب أو الهوية أن يجاهر متفاخراً بنسبه ، أو يغامر بأن يعرض نفسه على قومه وفيهم من فيهم من النسابة الأعلام ؟!.. سؤال لابد من طرحه على ذلك الذى جاء من دين مطعون فى نسب إلهه من تناقضات بين أسفاره المقدسة يندى لها الجبين ، ومع هذا يتجرأ فيتطاول على نسب سيده وسيد أجداده ويلمز بالقول هنا وهناك ، وكل ما أستطاع فعله هو السقوط على الأحاديث الضعيفة فى كتب التاريخ لا فى الكتب المعتبرة لدى المسلمين ، ناهيك عن كتابه المقدس الذى يروى المتناقضات وهنا مكمن الطامة الكبرى لأى دين .. فما بالكم بنسب إلهى ـ كما يزعمون ـ .
عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صالح قريشا يوم الحديبية قال لعلي اكتب بسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل بن عمرو لا نعرف الرحمن الرحيم اكتب باسمك اللهم فقال صلى الله عليه وسلم لعلي اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال سهيل بن عمرو لو نعلم أنك رسول الله لاتبعناك ولم نكذبك اكتب بنسبك من أبيك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي أكتب محمد بن عبد الله فكتب .
نعم .. أكتب محمد بن عبد الله ، وكتبها على ، ولم ينتهزها سهيل مطعناً فى نفى اسم النبى ونسبه أبداً ولا يجرؤ لاهو ولا غيره .
هل طعن أبو سفيان فى نسب الرسول صلى الله عليه وسلم أمام ملك الروم هرقل ولو فعلها لأنهى الجدال لصالحه وانخسأ أتباع النبى صاغرين ؟!
هل تخاذل عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة أن يواجها جعفراً ابن عم الرسول فى حضرة النجاشى ملك الحبشة وأمام هذا الحشد الوافر من البطارقة والحاشية بالطعن والقدح فى نسبه ، برغم الهدايا وما اتصف به عمرو من ذكاء وصداقته للنجاشى تعينه على فعل وقول ما يريد ؟!
ولو فعلوها جميعهم لما كان لمحمدٍ ولا لدينه ولا لأتباعه شأن يذكر ولقامت الدنيا حتى عهدنا هذا على ساقين فقط من الديانات السماوية هما اليهودية والمسيحية !!
ولو فعلوها فكيف خدعوا أنفسهم ودخلوا فيما بعد فى دين نبى مكذوب النسب ـ حاشَ لله ـ ؟!
من ذا الذى لم شمل الفوارس الفارة يوم حنين حين جاهر يناديهم بنسبه: أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ) ... قال النووي رحمه الله: فَإِنْ قِيلَ: كَيْف قَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: أَنَا اِبْن عَبْد الْمُطَّلِب؟ فَانْتَسَبَ إِلَى جَدّه دُون أَبِيهِ وَافْتَخَرَ بِذَلِكَ مَعَ أَنَّ الِافْتِخَار فِي حَقّ أَكْثَر النَّاس مِنْ عَمَل الْجَاهِلِيَّة؟ فَالْجَوَاب أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ شُهْرَته بِجَدِّهِ أَكْثَر؛ لِأَنَّ أَبَاهُ عَبْد اللَّه تُوُفِّيَ شَابًّا فِي حَيَاة أَبِيهِ عَبْد الْمُطَّلِب قَبْل اِشْتِهَار عَبْد اللَّه، وَكَانَ عَبْد الْمُطَّلِب مَشْهُورًا شُهْرَة ظَاهِرَة شَائِعَة، وَكَانَ سَيِّد أَهْل مَكَّة، وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاس يَدْعُونَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ابن عَبْد الْمُطَّلِب يَنْسُبُونَهُ إِلَى جَدّه لِشُهْرَتِهِ .
فالعرب من أهل الحجاز ، ومن بطون قريش وكذلك جميع القبائل العدنانية يلتقون مع سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم فى النسب ، كما قال ابنُ كثير رحمه الله في كتاب (سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم...) من (البداية والنهاية) باب (ذكر نَسَبِه الشريف وطِيبِ أصلِه الْمُنِيف) فجميعُ قبائلِ عربِ الحجاز يَنتَهُون إلى هذا النَّسَب.
فكيف إذن لمحمدنا الأكرم صلى الله عليه وسلم أن يقول : (أنا ابن الذبيحين) إلا إذا كانت قصة انتسابه للذبيح الأول مشتهرة فيهم ـ رغم بعد زمانها ـ وحقيقة انتسابه للذبيح الثانى عبدالله بن عبد المطلب على بعد فراسخ من وقائع أيامهم زماناً ومكاناً يعلمونها ويحفظون ما جرى فيها .
إنه محمد بن عبد الله ، أحب ولد أبيه إليه، وذبيح قريش وفتاها بل أجمل شبابها ، وحديث نواديها ومطمع بعض نسائها للنورالذى كان يشع من وجهه ، ومرادهن وغاية المنى لفتيات قريش فى الاقتران به ، وقصته مع زمزم وحفرها أيضاً كانت ذائعة فزمزم كانت قد طمرتها قبيلة جُرهم قبيل مغادرتها مكة لظلمها وانهزامها، وكان ذلك منها نقمة على أهلها الذين حاربوها وطردوها. وظلت زمزم مطمورة إلى عهد أبيه عبد المطلب الذى أُري في المنام مكانها، فحاول إعادة حفرها ، ومنعته قريش، ولم يكن له يومئذ من ولد يعينه على تحقيق مراده إلا الحارث فنذر لله تعالى إن رزقه عشرة من الولد يحمونه ويعينونه ليذبحن أحدهم، ولما رزقه الله عشرة من الولد أراد أن يفي بنذره لربه فاقترع على أيهم يكون الذبح، فكانت القرعة على عبد الله، وهمَّ أن يذبحه عند الكعبة فمنعته قريش، وطلبوا إليه أن يرجع في أمره إلى عرافة خيبر التى تدعى ( تابع) لتفتيه في أمر ذبح ولده. فأرشدته إلى أن يضع عشراً من الإبل وهي دية الفرد عندهم، وأن يضرب بالقداح على عبد الله وعلى الإبل، فإن خرجت على عبد الله الذبيح زاد عشراً من الإبل، وإن خرجت على الإبل فانحرها عنه فقد رضيها ربكم، ونجا صاحبكم!! فوصلوا إلى مكة وجيء بالإبل وصاحب القداح، وقام عبد المطلب عند هبل داخل مكة يدعو الله - عز وجل-، وأخذ صاحب القداح يضربها، وكلما خرجت على عبد الله زادوا عشراً من الإبل حتى بلغت مائة، كل ذلك وعبد المطلب قائم يدعو الله - عز وجل - عند هبل، فقال رجال قريش قد انتهى رضا ربك يا عبد المطلب فأبى إلا أن يضرب عنها القداح ثلاث مرات، ففعل فكانت في كل مرة تخرج على الإبل، وعندها رضي عبد المطلب ونحر الإبل، وتركها لا يُصدُّ عنها إنسان ولا حيوان، ونجَّى الله تعالى عبد الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
وكانت المكافأة لعبدالله بعد نجاته أن يتزوج فتاة زُهرة آمنة بنت وهب زَهرة بنات قريش وبنت سيد بنى زُهرة" وهب بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي" فأى شرفٍ وأى حسب ، وأما أمها فهى برة بنت عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي بن كلاب ، وجدها عبد مناف بن زهرة الذى يُقرن اسمه بابن عمه عبد مناف بن قصى ، فيقال: (المنافان) تعظيماً وتكريماً فهى كما حكى ابن هشام فى سيرته: (أفضل فتاة فى قريش نسباً وموضعا ً).
وهكذا قدر الله أن تعرف آمنة أن عبدالله ابن عمها التى التقته فى صغرها كما يلتقى أقارب العائلة الواحدة حيث كانا يسكنان في جهة واحدة من مكة أن يكون هو زوجها .
كما قدرالله أن يكون نبينا صلى الله عليه وسلم سليل عشيرتين كبيرتين من قريش بل أكبر القبائل التى عرفها العرب.
أما الذى يعنينا هنا ليس أمر زواج آمنة وحسب ولكن الوقوف على أمر تلك الفتاة التى حسدتها صويحباتها ولداتها لنيل هذا الشرف العظيم بالفوز بفتى مكة الذى كان حلم معظمهن، ثم مالبثت أن جنت بعد تلك الفرحة الغامرة القصيرة حزناً وهماً طويلاً بعد حياة زوجية قصيرة أيضاً؛ فقد فارقها زوجها فراقاً أبدياً وهى التى ودعته على أمل اللقاء به بعد رحلة تجارية فإذا بها بعد الانتظار المضنى تفجع بأن الغربة صارت غربتان غربة السفر ثم أعقبها غربة الفراق الذى لا لقاء بعده ، وكيف للحياة أن تحلو وفى أحشائها يسكن جنين سيخرج للدنيا يتيماً ، فمن لها ومعها وهى تصارع وحدها أهوال وشدائد الحياة التى عصفت بكل أحلامها وآمالها دفعةً واحدة . مات عبدالله ولم يكن للجنين عند فقده إلا شهران، وهذا هو الرأي الذى ذكره ابن إسحاق، وتابعه عليه ابن هشام، وهو الرأي المشهور بين كتاب السير والمؤرخين وكان عمر عبد الله حينذاك ثماني عشرة سنة.
شاءت إرادة الله أن يطل على الدنيا الجنين يتيماً فى صبيحة يوم الأثنين التاسع من شهر ربيع الأول لينطلق نوره من شعب بنى هاشم بمكة لا ليضىء قصور الشام وحسب بل ليضىء كل جنبات الدنيا عندما يصبح رسولاً صلى الله عليه وسلم ، ثم سمى عبد المطلب جد الرسول صلى الله عليه وسلم (محمد) ، ودخل به الكعبة ، ودعا له .
يقول البروفيسور عبد الأحد داود : إنها لمعجزة فريدة حقاً فى تاريخ الأديان ، أن يُطلق اسم محمد من جميع أبناء آدم على نجل عبدالله وآمنة فى مدينة مكة لأول مرة ، ولايمكن أن تكون هناك حيلة زائفة أو محاولة ما أو تزوير ما فى هذا المجال ، لأن والديه وأقرباءه كانوا وثنيين ولم يعلموا شيئاً مطلقاً عن التنبؤات العبرية ، وأن اختيارهم لاسم محمد أو أحمد لايمكن تفسيره بأنه كان على سبيل المصادفة ، أو حدثاً عرضياً .
قال البعض أن من سماه بهذا الاسم أمه آمنة وقال بعضهم بل الله سبحانه وتعالى وإن كان المشهور هو أن الذى سماه جده عبد المطلب ، ولأن عبد الأحد لا يتصور أن يكون هذا الاسم ـ محمد ـ جاء مصادفة أو عَرَضاً ، يقول الدكتورمحمد شيخانى فى كتابه (محمد عبقرى مصلح أم نبى مرسل) موفِقاً بين أنه إلهام من الله وأن الذى سماه جده : ومن الموافقات الجميلة أن يًلْهَم عبد المطلب تسمية حفيده محمداً ، وأنها تسميةٌ أُعِينَ عليها ولم يكن العرب يألفون هذه الأعلام ، لذلك سألوه : لم رغبت عن أسماء آبائه وأجداده ؟ فأجاب : أردتُ أن يحمده الله فى السماء ،وأن يحمده الخلق فى الأرض فكانت هذه استشفافاً لغيب، فإنه لايوجد فى الإنسانية من يستحق ازجاء الشكر والثناء كما يستحق المحمَّد صلى الله عليه وسلم لِما أسدى للإنسانية من خيرٍ عميم .
مات عبدالله وكل ماتركه لآمنة وابنها خمسة أجمال ، وقطعة غنم ، وجارية حبشية اسمها بركة وكنيتها أم أيمن ، وهى حاضنة الرسول صلى الله عليها وسلم ، حتى اللبن فى ثدى آمنة قد جف فلم تقو على إرضاع وليدها وذلك بعد أسبوع من ولادته صلى الله عليه وسلم فأول امرأة أرضعت رسول الله صلى الله عليه وسلم هي ثويبة كما في تاريخ الطبري ، حيث قال: أول من أرضع رسول الله صلى عليه وسلم ثويبة بلبن ابن لها يقال له مسروح أياما قبل أن تقدم حليمة ، وكانت قد أرضعت قبله حمزة بن عبد المطلب وأرضعت بعده أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي . وثويبة هذه مولاة لأبي لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم.
ها قد بلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم السادسة من عمره غاب فيها عن عينيِّ آمنة قرابة العامين فى مضارب بنى سعد ابن بكر مسترضعاً عند حليمة بنت أبى ذؤيب ، وذلك جرياً على عادة أهل الحضر من العرب من التماس المراضع لأولادهم من نساء البادية ، فارتأت أن تذهب بطفلها وهو فى هذه السن إلى أخوال جده عبد المطلب بالمدينة من بني عدى بن النجار؛ لأن أم عبد المطلب هى : سلمى بنت عمرو النجارية ، وقد كان هدف آمنة أن تُرىِّ ابنها بقية أهله فى المدينة وماهم عليه من عز ومنعة وجاهٍ وشرف ، وكذلك ليزور قبر أبيه هناك ، وكأنها أرادت أن تصل ابنها برحمه سواء بمكة أو المدينة ، وكأنها استشعرت دنو الأجل فكانت الرحلة محملة بكل تلك القيم الأصيلة لامرأةٍ عربية تعى وتخبر التقاليد العربية الأصيلة .
خرجت آمنة وطفلها ومعهما أم أيمن بركة الحبشية جارية أبيه، ووصل الركب إلى المدينة. وكان المقام في دار النابغة من بني النجار، ومكثوا عندهم شهراً، لم تمل الزوجة الثكلى من زيارة قبر زوجها الذى واراه التراب سريعاً ، وعند قبره أدرك الابن أن الميت لا يعود فأدرك معنى فقد الأب ، وكانت آمنة الحزينة ترقب تصرفاته فيعتصر قلبها حزناً عليه ، وتخرج الكلمات والإجابات الملتاعة من صدرها وهى تنتزع من شفتيها ابتسامة لتخفف آلام وأحزان وأسئلة الطفل اليتيم عن معنى الموت ، وفراق الأب ، ولم تحتمل آمنة المقام أكثر من هذا وكأن داعٍ دعاها فأعلنت القوم بنيتها فى العودة إلى مكة.
وفى الأبواء بين مكة والمدينة قضى الله أمراً كان مفعولاً ، حيث لم تحتمل آمنة مشقة البعد عن قبر الحبيب ، وربما مشقة السفرفى جو قائظ لا ترحم فيه شمس تلك البلاد ماشياً ولا راكباً تحتها فمرضت ، وزاد المرض عليها والطفل يرى التغيرات التى تصيب أمه من ضعفٍ وذبول بدا واضحين على محياها ، وهو لا يملك غير مواساتها والتخفيف عنها ، وبينما كانت أم أيمن تقوم على رعايتها كان محمداً يرقب المشهد فى صمت وحزن واشفاق والأم رغم أناتها تنظر إليه طويلاً وتهدأ من روعه كثيراً حتى فرت بقايا مقاومتها وعافيتها أمام جحافل الموت الذى اختطفها أمام عينيه وهو لا يملك لها شيئاً .
وكأن الله قد رسم لنبينا قبل المبعث مسيرة حياته فهو سيبدأ الدعوة من مكة ثم يهاجر ويعيش ويدفن بالمدينة فى نفس البلدة التى تضم رفات أبيه ، وليكون قبر أمه بالأبواء فى منتصف المسير بين مكة والمدينة ترعاه فى مسيره.
أصبح الطفل نبياً ولم تغب عن باله آثار تلك الرحلة الثقيلة ، وكيف لرحلةٍ مثل هذه ألا تكون ثقيلة على نفس طفل ما كاد يعلم معنى اليتم عند قبر أبيه الميت ، حتى عرف معنى الموت مجسداً أمامه فى فقد الأم ، ولهذا كان النبيّ صلى الله عليه وسلم ينظرإلى دار بني النجار بعد الهجرة قائلاً: (هنا نزلت بي أمي، وفي هذه الدار قبر أبي عبد الله، وأحسنت العوم في بئر عدي بن النجار).
وكان صلى الله عليه وسلم كلما مرَّ بقبر أمه زاره، ويبكي ويُبكي من حوله، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة – رضي الله عنه - قال: زار النبيّ - صلى الله عليه وسلم- قبر أمه، فبكى وأبكى من حوله ، ثم قال: (استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي، واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي، فزوروا القبور تذكركم الموت) [صحيح مسلم ، كتاب الجنائز، باب استئذان النبيّ صلى الله عليه وسلم ربه في زيارة قبر أمه.
جاء إعلان الرسول الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم بإعلان كفر والديه فى زمن بعثته ولم يأبه له أحد من الصحابة ، ولم يمتشقوا عصا التمرد إذ كيف ينتسب الرسول لأبوين كافرين ، ولأننا فى زمن أظلنا فيه الاهتمام بسفاسف الأمور دون النظر إلى أشرافها إلى الاهتمام بمثل تلك الموضوعات فأفرغنا فيه جل الطاقة ما بين مدافع ومهاجم ، وانقسمت الأمة وكالعادة تكاتف الشيعة والصوفية ومن يسمون أنفسهم بالقرآنيين صفاً واحداً ضد أهل السلف أو معتنقى الوهابية كما ينعتونهم ، وتابعهم فى العزف على نفس الوتيرة بعض أذناب النصارى.
وغاب عن الجميع أن هذه الأحاديث وهذا الإعلان دليل صدق على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، كما جاء القرآن كذلك دليل صدق له حيث جاء من بين سوره بسورة المسد وفيها ما فيها من ذم لعم الرسول نفسه أبا لهب ولو كان القرآن من صنع محمد لأزالها ، وكذك لم يخن الرسول أمته فقد كان أميناً فى التبليغ فما كتم شيئاَ علمه من الله مما أوحى به إليه صلى الله عليه وسلم .
يقول الدكتور محمد سيد أحمد المسير: إن الصدق ـ يقصد صدق الرسول عليه الصلاة والسلام ـ هو المعجزة الأولى التى دفعت الناس إلى الإيمان بالرسالة لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ...
نعم أنه الصدق وهو ماتنبه له بعقله الأديب البريطانى هـ .جـ .ويلز : إن من أرفعِ الأدلةِ على صدقِ محمدٍ كونَ أهلِه وأقربِ الناسِ إليه يؤمنون به فقد كانوا مطَّلعينَ على أسرارِه ، ولو شكّوا في صدقِه لما آمنوا به .
وربما السؤال هنا لماذا حكم الرسول صلى الله عليه وسلم بحكم الله عز وجل وأعلن ذلك ولم يضمرها فى نفسه ليس عن شجاعة وحسب بل لأنه كرسول من عند الله مكلف بأمانة التبليغ ، يوضح ذلك البيهقي :
حين قال في كتابه دلائل النبوة بعد تخريجه لحديث: ’’ أبي وأباك في النار ’’ : (وكيف لا يكون أبواه وجدُّه بهذه الصفة في الآخرة ، وكانوا يعبدون الوثن حتى ماتوا ، ولم يدينوا دين عيسى ابن مريم عليه السلام ) .
وكون النصرانية بلغت العرب فنعم .. ومنهم أهل مكة بالطبع فقد كان فيهم من تنصر كورقة بن نوفل ، كما أن المبشرين توغلوا فى أماكن نائية من جزيرة العرب ، ومنهم من رافقوا الأعراب وعاشوا عيشتهم ، حتى عرفوا بـ ( أساقفة الخيام ) و ( أساقفة أهل الوبر )، ومنهم ( أساقفة القبائل الشرقية المتحالفة ، و ( أساقفة العرب البادية ) وغير ذلك مما قاله لويس شيخو فى كتابه : النصرانية وآدابها . ج1ص 37، وقد أفلحوا فى إبعاد كثيرة من العرب عن الوثنية .
وربما كان عذر أهل مكة وغيرها من العرب ممن لم يدينوا بالنصرانية أن النصرانية قد عادت وثنية عسرة الفهم ، وأوجدت خلطاً عجيباً بين الله واإنسان ، ولم يكن لها فى نفوس العرب المتدينين بهذا الدين تأثير حقيقى ؛ لبعد تعاليمها عن طراز المعيشة التى ألفوها ، ولم يكونوا يستطيعون الابتعاد عنها.
وإذا كان قول الرسول صلى الله عليه وسلم على أبويه بحكم الله بكفرهما لأنهما قد أظلهما دين سماوى لم يتبعاه فعلى غيرهما ممن أظلهم دين الإسلام ولم يدخلوا فيه أن يتقبلوا أيضاً نفس الحكم العادل الذى أنزله الله على أحب الناس إلى قلب رسوله صلى الله عليه وسلم دون مواربة أو مجاملة فلا يحابى ربنا أحداً ، وهو الحكم عليهم بالكفر أيضاً جزاءً وفاقا .
قال صلى الله عليه وسلم :’’ والذى نفسى بيده ، لا يسمع بى أحد من هؤلاء يهودى ولا نصرانى ، ثم لا يؤمن بالذى أرسلت به إلا أدخله الله النار ’’ ( صحيح مسلم ) .
يقول الأستاذ محمد فتح الله كولن فى كتابه : محمد مفخرة الإنسانية : يبين القرآن الكريم ضلال أبى إبراهيم عليه السلام ، وهذا الضلال لم يشكل نقيصةً فى حق إبراهيم عليه السلام إذ يمكن القول بوجود أناس لم يصلوا إلى نور التوحيد من بين أجداد رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك ، و لا يدرى أحد ماذا كان موقف عبد المطلب أو هاشم أو لٌؤَىِّ من عقيدة التوحيد ، ولكننا نستطيع أن نقول بكل اطمئنان أنهم عاشوا فى عهد ( الفترة ) وأنهم سيعاملون على هذا الأساس ، ومع ذلك فإن احتمال وجود أى قصور منهم لا يمكن أن يشكل مانعاً من تكليف رسولنا صلى الله عليه وسلم بالرسالة الإلهية إلى البشرية .
وقال البيهقى في الدلائل: وكفرُهم لا يقدح في نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن أنكحة الكفار صحيحة ، ألا تراهم يسلمون مع زوجاتهم ، فلا يلزمهم تجديد العقد ، ولا مفارقتهن ؛ إذ كان مثله يجوز في الإسلام.
كما قال ابن كثير في (سيرة الرسول وذكر أيامه ) : وإخباره صلى الله عليه وسلم عن أبويه وجده عبد المطلب بأنهم من أهل النار لا ينافي الحديث الوارد من طرق متعددة أن أهل الفترة والأطفال والمجانين والصم يمتحنون في العرصات يوم القيامة. لأنه سيكون منهم من يجيب، ومنهم من لا يجيب، فيكون هؤلاء - أي الذين أخبر عنهم النبي - من جملة من لا يجيب، فلا منافاة .
أما الإمام النووى فقال في شرحه لصحيح مسلم عند حديث : ’’ أبي وأباك في النار ’’ : وفيه أن من مات في الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان فهو في النار ، وليس هذا مؤاخذة قبل بلوغ الدعوة ؛ فإن الدعوة كانت قد بلغتهم دعوة إبراهيم وغيره من الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم .
وكما أصطفى الله رسول الله صلى الله عليه وسلم لرسالته اختار له أصحابه وأزواجه رضوان الله عليهم أجمعين ، وبالأحرى اختار له والديه ولو شاء الله اختيارهم مؤمنين لكان ، ولوكان كفرهما قادحاً فى اختيار الرسول لما أختارهما أو رضيهما لرسوله . قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لَم أَزَل أُنقَلُ مِن أَصلابِ الطّاهِرِينَ إلى أَرحامِ الطّاهِراتِ)
وقد رفضت دار الإفتاء المصرية الفتاوى التى خرجت بأن والدى الرسول صلى الله عليه وسلم من المشركين وأنهما فى النار، حيث قالت الدار فى بحث لأمانة الفتوى أعادت نشره برقم (2623 ) أن الحكم فى أبوَى النبى صلى الله عليه وسلم أنهما ناجيان وليسا من أهل النار، وقد صرح بذلك جمع من العلماء، وصنف العلماء المصنفات فى بيان ذلك، منها: رسالتا الإمام السيوطى "مسالك الحنفا فى نجاة والدَى المصطفى" و"التعظيم والمِنّة بأنَّ والدَى المصطفى فى الجنة" .
وبعد أن أنهى الدكتور محمد أبو زهرة تصفح تاريخ السيدة آمنة بنت وهب فى كتابه : خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم قال: لننظر إلى تلك المجاهدة الصبور ، فإذا قلنا أنها عاشت كالعذراء إذ لم يكن إلا أنها حملت سر هذا الوجود ، وكأنها أودعت أمانة النبوة لتحتفظ بها ، وكأنها كالبتول العذراء ، بيد أن هذه لم تصطفها الملائكة ، عزاء من رب العالمين إذ اختارها وتعهدها نبى وأقامها فى المحراب وكانت فى رعاية ظاخرة ، وأما آمنة بنت وهب فقد خوطبت بلسان الفطرة المستقيمة ، وعلمت بحكم الباعث فى نفس طاهرة أنها حملت أمانة ، واستمرت الأمانة معها فى رعاية الله تعالى وهى حملت ما حملت غير وانية ولا مقصرة ، ولا هادى يهديها إلا ما انبعث فى نفسها من نور الفطرة ، والاحساس بعبء الأمانة .
وسواء اختلف من اختلف مع فتوى الديار المصرية أو اتفق معها ، وسواء اختلف أو اتفق من رأى فى السيدة آمنة بنت وهب الإيمان أو خلافه ، لكننا لا نملك إلا أن نحترم ونُجل هذا العبء الذى تحملته وأعانها الله عليه ، فقد تحملت الأمانة فى سن صغيرة وهى الحسيبة النسيبة ، السيدة المخدومة ، بنت السادات وأكابر قومها ، ومع هذا فلم تلن لها قناة ، ولم تفر من قدرها ، أو ألقت رضيعها إلى أهله وفرت إلى أهلها تبحث لها عن زوجٍ آخر وحياة جديدة ، بل قامت برسالتها بكل أمانة تحملت فى سبيلها ما تحملت ، وماتت وهى فى سفرها وغربتها من أجل أن تصل ابنها برحمه ، ويقف على قبر والده ، فكانت بحق مثال يحكى فى القيام وأداء الأمانة ، فرضع منها ولدها الأمانة حتى سمى قبل مبعثه الأمين ، فكان أهلاً عندما اصطفاه الله أن يقوم بأمانة الرسالة والتبليغ بل يتحمل المشاق فى سبيل اعلاء دين الله ، وكأنها بحياتها وفى مماتها ترسم لابنها طريق الهجرة ، لتبقى هى على طريق حله وترحاله ملاك حارس يرعى خطواته ، وماتت وقد كانت آخر نظراتها تحتضن وجه نبيبنا صلى الله عليه وسلم مبللة بدموع الفراق والخوف عليه .
ساحة النقاش