انطلقت الزغاريد المدوية من البيت الشاهق العتيق الذى يطل على البيوت الأقزام من حوله .. الأقدام تترك آثارها فى أرض الحارة المبتلة من ذلك الحى الغائر عند أطراف البلدة ، الكراسى رصت صفين ، والصبية الصغار يصعدونها حيناً ويمرون تحتها حيناً آخر.
يطل من البلكونات الخشبية البالية مكبر صوت يذيع أغانى فلكلورية فجة للبنات المتحلقات الملتحفات بأزيائهن الصارخة الألوان والتفاصيل فى الغرفة الخانقة بينما غرفات الشقة الباقية بالدور الأرضى يسودها الهرج من سير النسوة البدينات البطيئات كعربات الترام القديمة .
مقعدان كبيران مذهبان يتوسطان الغرفة الواسعة فى مقابلهما مقاعد متراصة بانتظام . تجلس هى غارقة فى ثوبها الأبيض الفضفاض وفى مقعدها وهى تراقب مدخل الشقة ليأتى فارسها ويملأ مكانه على المقعد الكبير بجوارها، تقترب منها صاحبةً لها هامسة ، تُظهر عيونهما بذاءة الحديث وميوعة ضحكاتهما.
الفرقة بطبلها وزمرها وزيها البلدى يعلنون قدومه . تنطلق الزغاريد عبر المكبر لتملأ سماء الحارة ، يقبله الرجال ويشدون على يده . ينسل مجتازاً الغرف سريعاً وصولاً الى مقعده ، ينظر اليها بفرحةٍ مكبوتة وهو يتحسس جلبابه ، مد يده ليمسك يدها فى عنف وهو يضحك مزهواً ، يتقدم فم فوقه شارب طويل نحوه هامساً فى ثقة :
ـ لقد أحسنت الاختيار ، هى الوحيدة التى لم تذهب إليه .. يومىء إليه طالباً المزيد ، فيغرى هذا صاحب الشارب بأن يجر كرسياً ويجلس بجواره مقترباً أكثر وبهمسٍ وبحرصٍ أكثر :
ـ ما من واحدة إلا و ذهبت خلف الجبل ، وعدهن كلهن ، ودائماً ما يخلف ؛ إلا هىَّ لم تصعد الجبل .
نظر العريس للفرقة ، فدقوا دقات اعلان بداية موكب الزفاف ، أفسح الرجال الطريق ، وأبعدوا الكراسى ، نظر اليها فى حبٍ وشوق .
خرج الموكب خارج البيت ، مازالت تتأبط ذراعه الذى يحكمه حول ذراعها .. صعدا البيت المقابل حيث شقة الزوجية بالطابق الثانى . أحاطت بهما الزغاريد وجلابيب الرجال وأجساد النساء ، وتناثر حولهما الصبية الصغار ، تسبقهما الشموع فوق السلم الخشبى الذي يصعده الجميع وئيداً .. دخل الشقة ، يغلق الباب يتجها نحو غرفتهما ، تفاجئه أربع سيدات ينتظرانهما فيها ، يصرفهن جميعاً بشبه ابتسامة متحجرة .
أغلق الباب بالمزلاج . تقتحم الزغاريد المجنونة الباب تصك أذنيهما . تقوقعت فى أحد الأركان فوق السرير . ينظر اليها شرهاً .. الغرفة تتوسطها منضدة خشبية مستديرة فوقها أطباق كثيرة مغطاة تعلن عن وجودها بالتوابل الشهية الحارقة الفواحة .. يخلع جلبابه فى ثقة .. طلاء الغرفة الأحمر الفاقع يلقى بظلاله على العيون وعلى ملعقتين وشوكتين وسكين ومقعدين تحتضنهما المنضدة . يتقدم نحوها . ينتزع ثوبها انتزاعاً . يتصبب عرقاً .. تنهمر أصوات الزغاريد والدفوف والغناء من حناجر المرابضين أمام الشقة . يرميها بغضبٍ بعيداً عنه ، يصغعها وهو يهم بالوقوف ليرمقها بنظرات نارية حادة وجادة . تبكى بينما هو متسمر فى مكانه و هى تنزل من فوق السرير خاضعةً متوسلة مستعطفة عند قدميه تقبلهما وتغسلهما بدموعها المدرارة . يرفعها من كتفيها صارخاً فيها :
ـ هل زارك أحدهم قبلى ؟ .. هل ذهبتِ خلف الجبل معهن ؟
تومىء بالايجاب ، ونور الغرفة الأحمر يكسو وجهها المبتل . يتقدم نحو المائدة الخشبية . ينقض على السكين . تصرخ صرخة مدوية . تتعالى الزغاريد فى الخارج. يرتدى جلبابه . يمسك بقطع القماش الأبيض يسقيها من دمها . يفتح باب شقته ليلقى إليهن دليل البراءة على نصاعة الشرف ، يتلقفنها منه فى شوق ، خرجوا إلى الحارة ، يخرج معهن تاركاً باب الشقة مفتوحاً ، مازلن يزغردن ويغنين فى رقصات دائرية بينما أيديهن تعلو بقطع القماش المخضبة باللون الأحمر وهن يصحن على الجيران الذين يطلون من البلكونات والنوافذ : شرف الطاهرة . شرف الشريفة .شرف الـ.....، سار وهو يتمتم فى غيظ دون أن ينتبه له أحد ، فرأسه لم تفارق الأرض .
أخيراً تنبه بعضهم لمشيته الكسيرة الذليلة على غير عادته ، ينظرون اليه فى ذهول ، يتركونه نحو الشقة يهرولون ..تمر لحظات حتى ترامى إلي مسامعه أصوات الصراخ والبكاء والعويل ..بينما تلاشت الزغاريد وخفت غناء الشرف .. كان على أطراف الحارة .. يسير قاصداً الجبل وهو يتمتم فى انحناء : شرف الـ.....
ساحة النقاش