اجتمع نفرُ من رؤساء قريش بعد غروب الشمس، ذات يوم عند ظهر الكعبة ، ثم قال بعضهم لبعض : إبعثوا إلي محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه ، فبعثوا إليه : أن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك ، فأنهم فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعاً ، وهو يظــن أن قد بدالهم فيما كلمهم فيه بداء وكـــان عليهم حريصاً يحب رشدهم ويعز عليه عنتهم ، حتى جلس إليهم فقالوا : يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنكلمك ، وأنا والله ما نعلم رجلاً من العرب أدخل علي قومه مثل ما أدخلت علي قومـــك ، لقد شتمـــت الآباء وعبت الدين وشتمت الآلهة وسفهت الأحـــــلام وفرقت الجماعة فما بقي أمرقبيـــح إلا قد جئته فيما بيننا وبينك . فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً ، وإن كنت إنما تطلب به الشرف فينا ، فنحن نسودك علينا ، وإن كنت تريد به مُلكاً ملكناك علينا ، وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً تراه قد غلب عليك – وكانوا يسمون التابع من الجن رئياً – فربما كان ذلك ، بذلنا لك أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه أو نعذر فيك ، فقال لهم صلى الله عليه وسلم :’’ ما بي ما تقولون ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم ولكن الله بعثني إليكم رسولاً وأنزل علي كتاباً ، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فإن تقبلوا مني ما جئتكم به ، فهــــو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم’’ . أو كما قال صلى الله عليه وسلم .
ما سبق من السيرة النبوية لابن هشام ، وهي محاولة من سلسلة محاولات الإغراءات والعذاب الذي لقيه الرسول صلى الله عليه وسلم قبل هذه المحاولة ، مثل محاولة أشراف قريش وعددهم ستة منهم أبو سيفـــان بن حرب والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل في الضغط علي أبي طالب بعد ما استيئسوا من إثناء بــن أخيه عما هو ماض ٍفيه وقالوا له : يا أبا طالب ، إنا ابن أخيك قد سب آلهتنــــا وعاب ديننا وسفه أحلامنا ، وضلل آباءنا، فإما أن تكفه عنا ،وإما أن تخلي بيننا وبينه ، فإنك علي مثل ما نحــــن عليه من خلافه فنكفيكه . ( ابن هشام 1/265 ) هذا غير محاولتهم إستبداله بعمارة بن الوليد بن المغيرة الذي سيكون ولداً لأبي طالب بإعتباره أشد وأقوي وأجمل فتىً في قريش ، علي أن يسلم لهم رسول الله ليقتلونه ، فيقول أبو طالب قولته الشهيرة :(والله لبئس ما تسومونني ! أتعطوني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه! هذا والله مالا يكون أبداً). (ابن هشام 1/266 ) هذا غير إدعائهم عليه بالكهانة والسحر والجنون والشعر ثم أغرت قريش سفهائها فكذبوه وآذوه وغمز أشرا ف قريش له أكثر من مرة بالقول وهو يطوف صلى الله عليه وسلم، وأنقذه ذات مرة أبو بكر الصديق عندما قاموا عليه قومة َرجل ٍواحد ، ًفأخذ أحدهم بجمع ردائه ، فصرخ فيهم باكياً : أتقتلون رجلاً أن يقــــــول ربيَّ الله ؟ هذا غير محاولة أبو جهل قتله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد يصلي بأن رفع حجراً ثقيلاً يريد رميه به أثناء السجود ولم يكد يفعل حتى رجع منهزلاً ممتقعاً لونه مرعوباً قد يبست يداه علي حجره ، فقد بداله كما قال فحـل من الأبل هــم بــه أن يــأكله.
وعظم علي أبي طالب فراق قومه وعداوتهم ولم يطب نفساً بإسلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا خذلانه ، فبعث إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : بابن أخي إن قومك قد جاءوني فقالوا لي كذا وكذا فأبق علي َّوعلي نفسك ولا تحملني من الأمر مالا أطيق ، فظــــن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عمه خاذله ، وأنه قــــد ضعف عن نصرته والقيام معه ، فقال :’’ يا عم ، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري علي أن أتــرك هذا الأمر- حتى يظهره الله أو أهلك فيه - ما تركته ’’ . ثم أستعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكي ثم قـــــام ، فلما ولي ناداه أبو طالب فقال : أقبل يابن أخي فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أذهب يا بن أخي فقل ما أحببت فو الله لاأسلمك لشئ أبدا . [(السيرة النبوية لأبن هشام1/165،166 ) .(الرحيق المختوم للمباركفورى ص110) ، قال كامل عويضة:( اسناده صحيح) فى (التهذيب العصرى لسيرة ابن هشام ص 136/)137، وقرأناه فى معظم مؤلفات من قرأنا لهم وعليهم من الأقدمين والمحدثين ، وضعفه الحوينى فى : (أحاديث مشتهرة ولكن لاتصح ) ، والعهدة عليه ) .
يقول أبو الحسن الندوي في كتابه: (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ): (أما قالوا له علي لسان عتبة وهم ما عرفوا الإغراء السياسي :- إن كنت إنما بك الرياسة عقدنا ألويتنا لك فكنت رأساً ما بقيت ) .
نعم هم لم يعرفوا بعد الإغراء السياسي ، ولكنهم عرفوا ضعف النفس البشرية ومطامعها فحدثوه باللغة التي يجيدون التعامل بها كتجار في بلد حرفته المساومات والمزايدات التجارية ، حدثوه عن أمرين يعرفون تماماً من خـــلال معرفتهم واتصالهم بإنسان الحضارات السابقة المجاورة لهم وإنسان البلدان التي يسافرون إليها صيفاً وشتاء أن الناس يتقاتـــلون من أجلهما ألا هما :(المال والسيادة ) أحدهما أو كلاهما معاً ، فكانت الثـــــورات ، والانقلابات والاغتيالات ، والدسائس ، والفتن ، والمؤامرات ، من قديم الأزل وحتى الآن ، لقد تطور العقل الانسانى ونضج إلا عند المال والسيادة أي السلطة مازال كماهو لم يتغير من العصر البدائي وحتى عصرنا ، وثورة المعلومات وحــــــــرب النجوم ، وأسلحة الدمار الشامل .
المال والمنصب ، الغني والسلطة " السيادة " سلاحان لهما بريق السحر يخطفان العقول والعيون ويحركان لعاب المطامع في الحلوق وينسيان طالبهما أجل المبادئ والقيم ويؤثر الســـــلامة عائداً لبيته ليلتحف بالخــــز والدمقس وكافة الأزياء اليمانية والشامية شأنه في هذا شأن أصحاب الزوابع السياسية التي تموت في مهدها بعد التفاوض علي المكاسب الشخصية ثم يعود كلا الجانبين إلي حياته هانئا سعيدا بعد أن إستأنس أصحاب الثروات أصحاب الثورات .
وليس أبلغ ولا أروع ولا أصدق من رفض الرسول صلى الله عليه وسلم فلقد رفض عرضهم دون عصبية ولم يقم الدنيا ويقعدها بل رفض رفض الواثق بربه وبنفسه مستقبلاً رفضه لدعوتهم بالصبر لأمر الله وحكم الله بينه وبينهم وهو يعلم يقيناً أنها مسألة وقت وأن الله غالب علي أمره ومظهر دعوته وإن أبي المشركين . وتأتي روعة قسمه أمام عمه وإستناداً إلي عمق وصدق إيمانه : " والله لو ضعوا الشمس في يميني ، والقمر عن يساري علي أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته " . لقد وصل كفار قريش بأعلى المطامع في الخط البياني لبني البشر ، بينما هو أرتفع بقسمه بأعلى من الخـــط البياني الذين ظنوا هم أن لا شئ يعلوه بمقياسهم المادي ، إذ كان قسمه ساميا ًيماثل سمو وعلو رسالته وَبعُدَ بالخط البياني إلي السماء فيما لم ولن يستطيعوا مجتمعين الوصول إليه ولو أرادوا إلي الشمس والقمر وهما آيتان من آيات الله وهو تحد معجز ٍلهم إستحالة تنفيذه تنبئ عن إستحالة تركه لأمر الدعوة ، مُصَّعبا ً علي القوم المهمة ، رادعاً إياهم لكيلا يمارسوا معه مثل الإغراءات التي تغري غيره .
ومن أدبه صلى عليه وسلم مع الله ومع نفسه ،أنه ينسب ظهــــور الــــدين وغلبته ونشــــره بين النـــاس لله سبحانه وتعالي " حتى يظهره الله " مع علمه بأنه المضطلع بعبء نشره وهو المختار والمصطفي لهذا الأمر . لقد عاش صلى الله عليه وسلم المحاولات القرشية كلها وبنوعيها سواء الأذى والأضطهاد والإتهام والغمز بالقول والتمادي لمحاولة إيذاءه بدنياً، أدناها قومتهم عليه قومة رجل واحد وأعلاها التخطيط لقتله أكثــــر من مـــرة وهو الأب والزوج ولديه بناته يخاف عليهن أن مسه أذي فلمن هو تاركهن والدعوة في مهدهــــــــا ، وأمامه محـــــــاولات إغراءه بالمال والسيادة وتأمين أسرته مادياً ومعنوياً في سبيل دعوة يعلم أنه سيعاني أشد العناء لتعلو كلمة الله في مكة وما حولها.. ويشاء لنا أن نتبين موضــع الإعجـــــاز المحمدي في ذلك كله ونحـــــن نضع أنفسنا ومصالحنا وأسرنا أمامنا ، هل كنا سنحذوا حذوه ؟ صلى الله عليه وسلم .......؟
ساحة النقاش