صدق من قال أنه يندر أن تجد قصيدة عربية إلاّ وبها حنين إلى الوطن أو ذكر المنازل والديار، ولعل من يتابع قصائد شعراء المهجر ليلمس بحق جروحهم النازفة بألم الإغتراب وتباريح الاشتياق إلى مهاد الطفولة الغريرة ، ومطالع الصبا والشباب ، ومراتع الهوى ، والحنين إلى دروبٍ طالما داستها أقدام العاشقين.
ألم يحن شعراء العرب القدامى إلى ديارهم ، ألا فليرجع من شاء إلى ( المعلقات ) ليجد الكلمات المشتاقة ما تزال ساخنة كأنها كنبت بالأمس ،ألم يقل امرؤ القيس بن عمرو الكندي :
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها
لما نسجتها من جنوب وشمأل
ألم يحن الصحابة رضوان الله عليهم إلى المكرمة مكة أم القرى وهم فى المدينة المنورة ،بل خرج الشعر من حنايا سيدنا بلال الحبشى متطلعاً لأيامه بها وهى التى شهدت وقائع تعذيبه على يد أمية بن خلف ومع هذا اشتاقها حتى قال متمثلاً :
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
بواد وحولي أذخر وجليـــل
وهل اردن يوماً مياه مجنة
وهل يبدون لي شامة وطفيل
وهل خرج الشاعر محى الدين صالح عن قانون عشق الوطن حين صدح بصبابته وجهر بلوعته شعراً صارخاً / صامتاً يكابده فى حناياه وحده كالنائحة الثكلى على فقد وليدها .
والحق أن شاعرنا لم يخرج عن سرب الشعراء الذين يعاينون الغربة ويعانونها فى صمت وفى أدب وفى لوعة فلم أعهد الرجل إلا هكذا ؛ إذن فلم يكن غريباً أن يخرج علينا بقصيدتيه عن موطنه الحبيب ( النوبة ) وقصة تهجير الأحبة منها حيث عالم جديد مازالوا حتى تاريخه نبت غريب فيه ، لم تألف جذورهم تربته ولم تتوحد مع أرضه برغم أنهم لم يذهيوا بعيداً عنه ، وقصة التجير طويلة ومريرة ولعل من أرد متابعتها وتعمقها فليرجع إلى كتاب : [ قصة تهجير أهالى حلفا ( هجرة النوبيين ) تأليف :حسن دفع الله ] .
دعونى أدعوكم للاستماع والاستمتاع بالتياع صناجة النوبة حيث يقول:
القصيدة الأولى : ـ
’’ نِداءٌ مِن النوبة ’’
سعتْ في ربوع المَجدِ تذرِفُ أدمُـعا عـلىَ إرثِ أجـدادٍ أُبيـدَ وَضُـيِّعا
تُـعاني عُقوقـًا .. لا يليقُ بمِثـلِها وتبكي ربيعـًا في المحافلِ شُـيِّـعا
عزيزٌ عليها أنْ تَـفَـرّق نسـلُـها فُرادَىَ .. يُـحيلون المراتعَ بلقعا [1]
تراءتْ لأهلِـيها .. فمَا استبقوا إلى حِـماها.. وإن كانوا هُنالِكَ شُـرَّعا
مُـناها رِجـالٌ يحفظونَ تُـراثها وترجـو بَـنيها للقـيام بِها مَعـا
وإمَّـا .. فتىً جلدًا يُـعيدُ شـبابَها إذا راحَ يدعو الناسَ قال فأسـمَعا
فكنتُ لها صَنَّـاجةً [2] غَرِدًا .. وما تخلفتُ يومـًا عن إجـابة مَنْ دَعا
حريصـًا على نشر الوِئام وفضـلِه بما كانَ في العُـقبى أجَـلَّ وأنفَعا
أُنـادي بني قومي الكرامَ .. لعـلنا نُـلبي نِداها .. خِـيفةً وتضـرُّعا
فحـتى متى نغـشَى موائـدَ غيرِنا وتاريخُـنا يَحوي المكارمَ أجمَعا ؟
ويا أمة الأمجـادِ … أين تليدُكم [3] وإرثُ الأُلىَ طافوا المشارِقَ أربَعا ؟
حقـيقٌ علينا أن نُوحِّـدَ جمـعَـنا فنرتـادُ أفقـًا شامِخـًا مُـتمنِّـعا
شِعارُ التواصي سَـمتُنا وسبيلـُـنا لنمضي به نحوَ الفضائلِ خُـشَّـعا
وإني وإيـَّـاكم نَـتوقُ إلى العُـلا ولكنْ .. متى كان التشرذُمُ مَطمَعا ؟
قـبيحٌ بِـنا ألا نعـودَ لرُشـدِنـا فهيـّا لجـمعِ الشملِ نمدُدُ أذرُعـا
نُـنَحّي عـَداوات الخُصومةِ جانِـبا ونسمُوا على كل الفِـعَالِ تَرَفُّـعا
بِهذا – بني قومي – نَـبَرُّ بِأُمِّـنا وإلا .. دَعـوها للوساوسِ مَرتعَـا
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- المراتع : الأراضي الخصبة التي فيها خير ، والبلقع الأرض الجدباء التي لا خير فيها
2- الصناجة : الذي يضرب بالصنج لينبه الناس ، واستعير للشاعر الذي يؤثر في الناس بشعره .
3- التليد : المال الموروث.
*****************************
ـ القصيدة الثانية :
’’ رسولٌ مِنَ النوبة ’’
ألا ساءَ ميراثُ الصبا ، وصـبابتي وأصداءُ مأساتي ، ووقـعُ مصيبتي
وصمتي وخـوفي من توابع رقدةٍ أصابت شـريط الذكريات برجفة
خلعتُ رداء العاشـقين .. طويـتُه وواجهتُ ألوان الهــلاك بغربتي
فمن سَـجن حبي .. واعتقال أحبتي وتبـديد إرثي في موائـد صُحبتي
إلى بعـث تمسـاحٍ يريـد إبـادتي وإهـدار حقي … وانتهاك حقيقتي
وتشريد أبنائي .. وسحق مشاعري وتسـليط أسماكٍ لتنهش ثـروتي
* * *
فقَدتُ رفـاقي حـين كنتُ أريدهم وفارقني الأحــباب ذات صبيحة
وأُفردتُ في قـاع المياه أسـيرةً فواريـتُ أوجاعي .. بحكم أمومتي
وقاومتُ طوفان العناء … فهـالني وما كنتُ أحـكي ما رأيتُ لإخوتي
تجـرعـتُ آلام الفـراق مريـرةً فسارعتُ أسـتدعي الجميع لنجدتي
وأعلنـتُ في كل المحـافل ثورتي وأعرضتُ عن بعض الأمور لحكمة
* * *
ســألتُ إله العالمين … رجوته ليوقـظ قومي … بل يُعجِّل بعثتي
فنوديتُ من بين الركـام : تأهبي وبُشِّـرتُ في دنيا الوصـال برؤية
كأن خطى الأحفـاد بين أضالعي تمورُ … وأصواتا تداعب مهجتي
ودربـاً بأفواج الأحـبة يحتـفي يموجُ بهم بين الأنــام بفرحـة
ولما تبيـنتُ الحـقيقةَ … والذي يُحاكُ لتـاريخي العريقِ وسيرتي
بعثـتُ إليـكم أسـتحثُ خـياركم رسولاً من الأجداد تحت بحيرتي
فإن كان ما يُرجى … فثَمّ وجودكم وكنتُ لوادي النـيل خيرَ ذخيرة
وإن كانت الأخرى … فتلك نهايتي ولله أشـكو من أضـاع وصيتي
لعلى بعد عرض بوح الشاعر أكون قد تخلصت قليلاً ـ ربما ـ من وخز الضمير بأننى لم أفعل شيئاً تجاه النوبه ، فها قد حاولت أن أدخل صوته الهادىء الصارخ فى صمت داخل حنجرتى لأضم صوتى إلى صوته ، وأهتف معه :
قـبيحٌ بِـنا ألا نعـودَ لرُشـدِنــــــا فهيـّا لجـمعِ الشملِ نمدُدُ أذرُعـا
نُـنَحّي عـَداوات الخُصومةِ جانِـبا ونسمُوا على كل الفِـعَالِ تَرَفُّـعا
بِهذا – بني قومي – نَـبَرُّ بِأُمِّـنا وإلا .. دَعـوها للوساوسِ مَرتعَـا
ساحة النقاش