قابلته فى ميدان التحرير ذلك المكان الذى حدده للقائنا ، شاب طويل القامة ، من إطلالته تدرك أنه ينتمى لأسرة عريقة فى القيم ، صادق ، لماح ، مرتب وهادىء فى أفكاره وأقواله ، ظننته مندوباً عن دار النشر التى سأتعاقد معها على طبع ونشر كتابى ، فإذا به يفاجئنى أنه صاحبها هو ومجموعة من أصدقائه المقربين ، تفرع بنا الحديث لأمور فى السياسة ، والدولة ، والثقافة ، والدين ، وهو يدلى بدلوه فيها دون فهلوة أو فذلكة أو مصادرة لرأى ، الثورة تتأجج فى أركان عينيه دون أن يخرج شرارها ، أو يتاجر بها ، إنها ثورة صادقة كالأنين المكتوم ، وليست زاعقة كصراخ الألم للفت الانتباه ..
مضيت فى طريقى وأنا ألعن ذلك الخنوع الكامن فى أوصالى وفى قلوب معظم أبناء جيلى ، فجر هذا الشاب كل كوامن ثورتى وغضبى داخلى ، رفعت الهاتف وحادثت زوجتى : لقد التقيتُ اليوم شاباً مختلفاً عمن نقابلهم ، وعمن تصدره لنا دوائر الإعلام فى الدولة .
أخرجت من بين أوراقى ديوان أودعته قصائد خشيت نشرها ، ورفضوا أيضاً نشر بعضها ممن يدعون الوطنية فى الصحافة المصرية ، أرسلته بالبريد الاليكترونى الخاص بذلك الشاب لأهديه له بكلمات وضعتها فى صدر الديوان :( إلى الشاب الثائر.. مصطفى الحسينى الذى أشعل جذوة الثورة فى قلبى العجوز) .
التقيته هذه المرة عبر شاشات التلفاز عندما قبضوا على شريكه وصديقه فى الدار لنشره كتاباً حول البرادعى الذى كان العدو الأول للرئاسة فى الخفاء ، كان يتكلم بكل عقلانية ، وثبات ، وإصرار ، لم يدن صاحبه ، ولم يتخل عنه ، ولم يسفه موقفه ، أو يعلن تبرؤ الدار منه ، أو أن مسئولية النشر تقع على عاتق صاحبه وحده .. أبداً لم يفعل ، ولو كنا مكانه لفعلنا كل هذا محافظة على الدار ، وعلى لقمة العيش .
قامت الثورة فى مكان لقائنا الأول الذى اختاره ( ميدان التحرير) ، وشارك فيها الحسينى وكل شباب الدار وشباب مصر ، وتساقطت فوق رأسه ورؤوسهم الطلقات المطاطية ، والحية ، وصوبت تجاههم خراطيم المياه ، ومر عليهم الليل والنهار وجثث الشهداء ، ولما هاتفته لأطمئن عليه وأطالبه بالتهدئة ، خاصة أن الرئيس استجاب لمطالبهم ، كان يطالبنى أن أهدأ وأن أخبر من عندى بألا يخافوا على مستقبل مصر ، ولا ينخدعوا بكلام هذا الأفاق .. وكان هو الأعلم منا ، ودليلاً جديداً يضاف إلى بلاهتنا ، وجهلنا ، ويضاف بالإيجاب إلى صدقه الثورى.
خدعنا الحسينى حين أخرج روايته (2025) ، فما أعرفه عنه أنه مهندساً مدنياً ، ولم يتحدث مرة عن أنه يكتب ، أو كتب منذ مرحلته الثانوية ، وحتى الجامعية حين أسس جماعة أدبية نشر بها أول أعماله التى غلب عليها تأثره بمحفوظ وأدريس ، لينال عنها عدة جوائز . إذن فمصطفى الحسينى لم يكن دخيلاً على عالم الرواية ، أو نبتاً شيطانياً فى حقل إلإبداع ، ولكن الحسينى الثائر امتزج بالحسينى الروائى ليخرج عملاً هو من المؤمنين به ، والعاملين فيه وعليه ، ليكتب بمنطق الأدب مكنونات همه حول مستقبل بلاده ، مثلما كتب بحثه عن (المرأة.. السر المفقود في المجتمع العربي) الذى فاز فيه بالمركز الأول فى مسابقة بدولة البحرين، ليتأكد بذلك أنه منذ إطلالته الأولى مهموماً بالقضايا المصيرية ، والقومية لوطنه ، ولهذا جاءت روايته على نفس نسق ووتيرة اهتمامه وهمومه .
كتب الحسينى روايته بحرفية الثورى أكثر مما كتبها بحرفية الروائى ، ولذلك فقد انحاز للحوار أكثر من الوصف ورسم الشخصيات ، كانت بغيته إرسال دفقته الثورية التحريضية لأكثر قطاع ممكن من الشعب ليهبوا على النظام الطاغية الذى باتت كل أجهزته تعمل وتسفك وتنهب فى هدوء تام ، فليس هناك سوى النباح والنواح والصياح ، والفعل غائب تماماً ، ولهذا فقد انتصر الحسينى للفكرة على حساب البناء ، وأبرز المضمون على حساب الشكل ـ كما رأى البعض ـ غير أنه ربما لم يكن يقصدنا نحن بروايته حين كتبها ونشرها بل كان يقصد الشبيبة الثورية الناهضة من أبناء جيله ، أولئك الذين سيرفعون مشاعل الثورة وأرواحهم على أسنة الرماح ، وهم الذين لم يخذلوه حين اشتروا روايته وقرأوها وأعجبوا بها .
بيد أن (2025) ستبقى فى النهاية عملاً تاريخياً ، رائداً ، صدرت قبيل الثورة المصرية بأيام ، وتنبأت بقيامها بعد أعوام ، وإن يكن الأحداث فاجأتها قبل شيوع النبوءة ، كما حدث مع إدريس فى روايته (الحرام) .. ولكنها بقيت كما ستبقى رواية الحسينى شاهداً على تاريخ مرحلة .. ويحسب للحسينى أنه وضع قدمه فى خضم عالم الرواية المستقبلية التى تحتم على كاتبها خلق رواية برؤية مسبقة واعية وقارئة للواقع والمستقبل بناء على وقائع ملموسة تحت عينيه ، يغوص فيها بكيانه الفكرى ، ليربطها بتوقعاته للأحداث المستقبلية التى رسمها بسرده الخيالى .
وبقدر ما كان مصطفى الحسينى روائياً مستقبلياً تنبأ بحدوث ثورة ، كان هو نبوءة فى ذاته على إرهاصات تدور فى الأفق تنبىء عن مخاض قادم لجيل جديد سيقود البلاد إلى ميلاد حديد .. ذلك الذى قرأته فى عينيه يوم أن قابلته لأول مرة .. وما قرأته بين سطور روايته .. والذى مازلت أقرأه فى نبرات صوته .. كلما تحادثنا .
ساحة النقاش