: لقد كان المنهج العربي المسلوك والمبدأ العربي المشهور "أنصر أخاك ظالما أو مظلوما" وهو المبدأ الذي يعبر عنه الشاعر الجاهلي في صورة أخرى وهو يقول:
وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد
إنها حَمِية الجاهلية، ونعرة العصبية، ويندر أن يقوم في ذلك المجتمع حلف لنصرة الحق، وهذا من الطبيعي في مجتمع لا يرتبط بالله جل جلاله، ولا يستمد تقاليده وأخلاقه من منهج الله وميزان الله، ثم جاء الإسلام، جاء المنهج الإلهي، جاء ليقول: يا أيها الذين آمنوا كونوا قومين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لاتعدلوا أعدلوا هو أقرب للتقوى، واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون [المائدة:8]. جاء ليربط القلوب بالله وليربط موازين القيم والأخلاق بميزان الله، جاء ليخرج العرب ـ ويخرج البشرية كلها من حمية الجاهلية، ونعرة العصبية، وضغط المشاعر والانفعالات الشخصية والعائلية والقبلية في مجال التعامل مع الأصدقاء والأعداء ولذا قال الولى جل جلاله: يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا [النساء:135]. إنه نداء للذين آمنوا، نداء لهم بصفتهم الجديدة وهي صفة فريدة، صفتهم التي أنشئوا عليها نشأة أخرى، وولدوا ميلادا آخر، ولدت أرواحهم، وولدت تصوراتهم، وولدت أهدافهم ومبادئهم، وولدت معهم المهمة الجديدة التي تناط بهم، والأمانة العظيمة التي وكلت إليهم، أمانة القوامة على الناس، والحكم بينهم بالعدل، كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما إنها أمانة القيام بالقسط على اطلاقه، في كل حال وفي كل مجال، القسط الذي يمنع البغي والظلم في الأرض والذي يكفل العدل بين الناس والذي يعطي كل ذي حقه حقه من المسلمين وغير المسلمين، ففي هذا الحق يتساوى عند الله المؤمنون وغير المؤمنين، ويتساوى الأقارب والأباعد، ويتساوى الأصدقاء والأعداء، ويتساوى الأغنياء والفقراء.
وما من عقيدة أو نظام في هذه الأرض يكفل العدل المطلق للأعداء المناوئين كما يكفله لهم هذا الدين، لقد نزلت آيات من القرآن لتنقذ رجلاً يهوديا من تهمة توجه إليه ،مع كيد يهود للإسلام وللنبي صلى الله عليه وسلم وأتباع دينه بكل ما في جبلتهم من الرغبة في الشر وكراهية الخير للناس، وينصفه من رجل مسلم من قبيلة الأنصار، الأنصار الذين آووا ونصروا، وقدموا أرواحهم، وأموالهم في سبيل الله.
والقصة كما ترويها كتب التفاسير(1)[1]: أن نفرا من الأنصار .. غزوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته، فسرقت درع لأحدهم، فحامت الشبهة حول رجل من الأنصار فتفنن هو وقومه في إخفاء السرقة بحيث يتهم فيها أحد اليهود من أهل المدينة، وحين يقع مثل هذا الحدث في أي شعب من الأرض، وفي أي حقبة من التاريخ ،فليس له نتيجة متوقعة إلا الأخذ بتلابيب ذلك الشخص الذي ينتمي إلى مثيري الشغب، والإسراع بتطبيق العقوبة المقررة عليه، إن لم يكن التنكيل به شر تنكيل، لأنه فوق انتمائه إلى فئة معادية للشعب قد ارتكب جريمة محددة يستحق عليها العقوبة، وحين فحص الرسول صلى الله عليه وسلم وهو القاضي ظروف القضية فقد هم ـ حسب القرائن ـ أن يحكم على اليهودي، ولكن الوحي يتنزل من السماء لتبرئة ذلك اليهودي من الجريمة التي لم يرتكبها، وإدانة المسلمين الذين أرادوا أن يفلت جانبهم من العقوبة فنزل قول الله تعالى: إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا ها أنتم جادلتهم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلاً [النساء].
لقد كان درساً هائلا للأمة .. تبين لهم فيه أن ميزان العدل لا يمليه حب ولا بغض .. ولا تمليه عصبية ولا قرابة .. ولامصالح وأغراض شخصية .. بل لا يميل حتى إلى جانب المشاركين له في العقيدة على حساب المخالفين لها، ولو كانوا في مجموعهم ظالمين !!وبهذه المقومات كان هذا الدين العالمي خاتمة الأديان لأنه الدين الذي يكفل النظام للناس جميعا، مؤمنهم وكافرهم، أن يتمتعوا في ظله بالعدل، وأن يكون هذا العدل فريضة على معتنقيه يتعاملون مع ربهم مهما لا قوا من الناس من بغض وشنآن.
ايها المسلمون: لقد بلغ أصحاب رسول الله رضوان الله عليهم الذروة في تحقيق العدل في واقع الأرض، ولم يكن ذلك مجرد وصايا، ولا مُثُل عليا لا تتحقق، ولكنها كانت واقعا من واقع حياتهم اليومية واقعا لم تشهد البشرية مثله من قبل ولا من بعد، ولم يعرف ذلك المستوى إلا في تلك الحقبة المنيرة.
والأمثلة التي وعاها التاريخ في هذا المجال كثيرة مستفيضة، فمن تلك النماذج الرائعة أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه افتقد درعا كانت عزيزة عنده فوجدها عند يهودي فقاضاه إلى قاضيه شريح .. وعلي يومئذ هو الخليفة أمير المؤمنين فسأل شريح أمير المؤمنين عن قضيته فقال: الدرع درعي، ولم أبع ولم أهب .فسأل شريح اليهودي: ما تقول فيما يقول أمير المؤمنين؟ فرد هذا متلاعبا: الدرع درعي! وما أمير المؤمنين عندي بكاذب [يريد أن يمسك العصا من منتصفها] فيلتفت شريح إلى أمير المؤمنين، هل من بينة؟! إنه هكذا العدل! البينة على من ادعى .. وهذه دعوى إلى القضاء لابد فيها من البينة .. وإن تكن مرفوعة من علي رضي الله عنه، الذي لم يعرف عنه كذب قط، والذي لا يعقل أن يكذب على الله من أجل درع، وهو المستعلي على كل متاع الأرض! ولكن جواب علي رضي الله عنه كان أروع! قال: صدق شريح! مالي بينة! هكذا في بساطة المؤمن المتجرد .. مالي بينة!! لم يغضب! لم يقل للقاضي كيف تطلب البينة وأنا صاحب رسول الله؟ وكان موقف شريح موقفا رائعا كموقف أمير المؤمنين .. لقد حكم بالدرع لليهودي لعدم وجود البينة عند المدعي أمير المؤمنين!! وأخذ الرجل الدرع ومضى وهو لايكاد يصدق نفسه! ثم عاد بعد خطوات ليقول: يا لله!! أمير المؤمنين يقاضيني إلى قاضيه فيقضي عليه؟ إن هذه أخلاق أنبياء! أشهد أن لاإله إلا الله، وأن محمدا رسول الله! الدرع درعك يا أمير المؤمنين، خرجت من بعيرك الأورق فاتبعتها فأخذتها .. فيقول علي رضي الله عنه: أما إذا أسلمت فهي لك!!(2)[2].
أيها المسلمون: إن إقامة العدل في الأرض لا يمكن أن يتم إلا حين تتجرد النفوس لله، وتتخلى عن رغباتها المشروعة، ويكون هدفها الأسمى هو ابتغاء مرضاة الله، ونعيمها النفسي هو العمل لإرضاء الله، ولذا قال سبحانه: كونوا قوامين بالقسط شهداء لله لله فقط وتعاملا مباشرا مع الله، لا لحساب أحد، ولا لمصلحة فرد أو جماعة أو أمة، ولا تعاملا مع الملابسات المحيطة بأي عنصر من عناصر القضية، ولكن تعاملا مع الله وتجردا من كل ميل، ومن كل هوى، ومن كل مصلحة، ومن كل اعتبار فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا .
والهوى صنوف شتى ذكر الله بعضا منها .. حب الذات هوى، وحب الأهل والأقربين من الهوى، والعطف على الفقير في موطن الشهادة والحكم هوى، ومجاملة الغني هوى، ومضارته هوى، والتعصب للعشيرة والقبلية والأمة والوطن في موضع الشهادة والحكم هوى وكراهية الأعداء ولو كانوا أعداء الدين ،في موطن الشهادة والحكم هوى .. وأهواء شتى كلها مما ينهى الله الذين آمنوا عن التأثر بها والعدول عن الحق والصدق تحت تأثيرها.
أيها الأحبة الكرام: لقد جاء الوعيد الأكيد والتهديد الشديد لمن أعرض عن هذا المبدأ العظيم الذي قامت عليه السموات والأرض فقال جل شأنه: وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً [النساء:135]. يكفي للمؤمن أن يتذكر أن الله خبير بما يعمل، ليستشعر ماذا وراء ذلك من تهديد خطير يرتجف له كيانه، وينصدع له قلبه، فينزجر عما أراده من ظلم للعباد في الدماء والأموال والأعراض.
أيها المسلمون: إن هذه الحياة قائمة على العدل وبدونه لاتستقيم الحياة ولا تهدأ النفوس، ولا تسكن القلوب، فبالعدل يَسعد الراعي والرعية، وبالعدل تعمر الأسباب الدنيوية، ويحصل التعاون على المصالح الكلية والجزئية، وبالظلم خراب الديار، وفساد الأحوال، وفتح أبواب الفتن، وحصول العداوات والبغضاء، إذ كيف يهنأ بالعيش من يحترق كمدا من أجل مظلمة أصابته، وكيف ينام قرير العين من غصب له مال، أو خُدع في تجاره، وكيف يقر للعامل المسكين القرار ويهدأ له بال وصاحبه قد سلبه حقه، ورزقه وكده، ألا فاتقوا الله يامسلمون، والعدل العدل في كل شأن من شئوون حياتكم، وإياكم والظلم، فالظلم ظلمات يوم القيامة، وكل نفس بما كسبت رهينة.
أيها المسلمون: إن الله جل جلاله أعد هذه الأمة لتكون رائدة وهيئها لتكون شاهدة وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً [البقرة:143]. وكانت تربية الله لهذه الأمة تربية عجيبة، لأن إقامة العدل في الأرض هي من الغايات والأسس من إرسال الرسل وإنزال الكتاب قال الله تعالى: لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط [الحديد:25].
ولايمكن أن يتم هذا الأمر إلا حين تتجرد النفوس لله، وتتخلى عن رغباتها المشروعة، ويكون هدفها الأسمى هو ابتغاء مرضاة الله، ونعيمها النفسي هو العمل لإرضاء الله.
ولقد ربى الله تعالى رسوله بادئ ذي بدء على أنه ليس له من الأمر شيء إلا طاعة الله وابتغاء رضوانه ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم.. [آل عمران:128]. وأدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاك التوجيه فكان عليه السلام قمة التجرد لربه تعالى، ثم ربى على هذا التجرد أصحابه حتى خلت نفوسهم من حظوظ أنفسهم.
ولذا أحبتي الكرام كانت هناك دروس تربوية لذلك الجيل الذي سيحمل الأمانة للبشرية كلها، وإقامة الميزان الذي لا يميل مع الهوى، ولا مع العصبية، ولا يتأرجح مع المودة والشنآن أياً كانت الملابسات والاحوال.
ومن تلك الدروس أيضا: ما جرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث استدان من رجل يهودي فتأخر في السداد لعسر ألم به صلى الله عليه وسلم فجاء اليهودي يطالبه ويغلظ في الطلب، وأمسك بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فشده حول رقبة الرسول حتى جحظت عيناه، فهم عمر أن يهوي عليه بالسيف فمنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: لقد كنت يا عمر جديرا بغير هذا كنت جديراً أن تأمرني بحسن السداد وتأمره بحسن الطلب.
أيها المسلمون: إن هذه الحياة قائمة على العدل وبدونه لاتستقيم الحياة ولا تهدأ النفوس، ولا تسكن القلوب، فبالعدل يَسعد الراعي والرعية، وبالعدل تعمر الأسباب الدنيوية، ويحصل التعاون على المصالح الكلية والجزئية، وبالظلم خراب الديار، وفساد الأحوال، وفتح أبواب الفتن، وحصول العداوات والبغضاء، إذ كيف يهنأ بالعيش من يحترق كمدا من أجل مظلمة أصابته، وكيف ينام قرير العين من غصب له مال، أو خُدع في تجاره، وكيف يقر للعامل المسكين القرار ويهدأ له بال وصاحبه قد سلبه حقه، ورزقه وكده، ألا فاتقوا الله يامسلمون والعود العود إلى كتاب الله وسنة رسوله فالقرآن هو الذي صنع أولئك الرجال الأفذاذ، وجعلهم بتلك الصورة العظيمة والمنزلة الكريمة التي يعشقها الجميع.