المصطفى دعا إلى المحافظة على المصادر الطبيعية
علاقة الإنسان والبيئة في الإسلام تقوم على الوسطية والتسخير
نهى رسولنا الكريم عن استنزاف الموارد الطبيعية ومصادر حياة الانسان
***
يحتاج مجتمعنا اليوم إلى إعادة عرض السيرة النبوية بأسلوب معاصر يوضح إنسانية محمد صلى الله عليه وسلم الذي تعتبر بعثته أعظم نقطة فاصلة في تاريخ البشرية، وعلى الرغم من كثرة الدعوات التي شهدت الساحة الإسلامية مؤخراً لعرض السيرة النبوية، والمحاولات التي تزخر بها شبكة الإنترنت فضلا عن الإصدرات المطبوعة والمرئية، فإننا لم نرتو بعد بعمل شامل يخرج عن التناول التاريخي او النصوصي، ليقدم لنا سيرة محمد الذي هو '' قرآن يمشي على الأرض''·
اخترنا هنا أن نقدم جانباً غير مطروق من سيرته للخروج من التناول التاريخي، وهو اهتمام نبينا الكريم بالبيئة ودعوته إلى الحفاظ عليها وحمايتها من التلوث والتعامل الراشد مع المصادر الطبيعية، ونأمل أن نفتح بذلك باباً لعرض معاصر للسيرة النبوية يبرز للناس إنسانية المصطفى - صلى الله عليه وسلم ـ الذي جاء رحمة للعالمين·
فضلاً عن أن قضية البيئة التي تعد اليوم واحدة من أبرز القضايا المطروحة على الساحة العالمية، وتوافق مختلف الشعوب والثقافات على ضرورة الاهتمام بها والحفاظ عليها، فهي أحد مجالات الاهتمام المشترك بيننا وبين غيرنا من ثم يمكن من خلالها تقديم رؤية الإسلام تجاه قضايا عالمية بشكل يبرز تميز الإسلام وعالميته في تناول قضايا الإنسان في كل مكان·
فعلى الرعم من أن محمد صلى الله عليه وسلم عاش في مجتمع بدائي صحراوي، لم يشهد مشكلات تذكر في مجال البيئة، لأن قضية البيئة على النحو الذي نعرفه اليوم لم تظهر إلا بعد رحيله بقرون عديدة، فإن المصطفى - صلى الله عليه وسلم- يجسد في حياته وسيرته منهجاً شاملاً للحفاظ على البيئة، وحمايتها من التلوث، وهذا أحد جوانب عظمته وبعد نظره، إذ انه لفت أنظار البشرية كلها إلى مخاطر لم ينتبه إليها العالم إلا في العصر الراهن· وقدم حلولاً منذ ما يزيد على ألف و400 سنة، بدأ العالم المعاصر اليوم يأخذ بها·
يقوم منهجه لعلاج قضايا البيئة على التعايش السلمى بين الإنسان وبيئته، عبر دعوة الناس إلى المحافظة على المصادر الطبيعية من خلال التعامل الراشد معها بعيداً عن الإسراف أو الإفساد فى الأرض ويتضمن هذا المنهج آليات ذاتية للحفاظ على البيئة·
ويقدم المصطفى للبشرية في حياته وسيرته الشخصية نموذجاً يحتذى به في الحفاظ على المصادر الطبيعية باعتبارها ملكاً للناس أجمعين وينهى عن استنزافها أو التبذير في استهلاكها·
يرتبط هذا المنهج بنظرته للإنسان والكون والحياة، ويشكل حافزاً داخلياً من أجل الحفاظ على بيئته وحمايتها من التلوث، ويرتبط بالغاية الأساسية من خلق الإنسان وهي عبادة الله وإعمار الأرض· وفي هذا المنهج فإن الإنسان هو سيد في الكون وليس سيدا للكون ومن ثم ليس له أن يفعل ما يشاء، وإنما يجب أن يراعي الكائنات والمخلوقات الأخرى التي تعيش معنا باعتبارها أمما أخرى يجب أن نحافظ عليها·
خاتم المرسلين علمنا كل ذلك وسار في حياته على هذا النهج فكان عاشقاً للبيئة وحامياً لحماها، مناهضا للتلوث بكل أشكاله، يتعامل مع كل مكوناتها من نبات وحيوان وطير برفق وحب، بل حتى موادها الأولية وصخورها وجبالها يحيطها بهذه النظرة الحانية، فيعلن عن حبه للجبل قائلاً عن جبل أحد ''هذا جبل يحبنا ونحبه''، رواه البخاري·
مفهوم البيئة
وقبل أن نعرض للتطبيقات العملية لهذا المنهج، والتي جسدها محمد - صلى الله عليه وسلم- في أفعاله وأقواله، نشير الى مفهوم البيئة والمنظور الإسلامي لها· فيشير الدكتور زين الدين عبدالمقصود في دراسته ''البيئة والإنسان رؤية إسلامية''، إلى المفهوم الاصطلاحى للبيئة، قائلاً إنها: ''الوسط أو المجال الذى يعيش فيه الإنسان بما يضم من مظاهرات طبيعية وبشرية يتأثر بها ويؤثر فيها''·
غير أن المفهوم الاسلامى للبيئة والذي جسده المصطفى أكثر عمقاً من ذلك حيث يربط البيئة بمجمل المنظومة الإيمانية للمسلم، فالمسلم يؤمن بإله واحد خالق الكون ومنزل القرآن الكريم·
هذا المنظور يقوم على أن الله تعالى قد خلق الكون بما فيه ومن فيه من كائنات، مكونات وسخرها الله تعالى للإنسان لكى يعمر الأرض ويعبد الله·
التسخير والوسطية
وتقوم العلاقة بين الإنسان والبيئة فى هذا المنظور الإسلامى، الذي يجسده المصطفى - صلى الله عليه وسلم- على أساسين: الأول: التسخير: أي تسخير الله تعالى لمكونات البيئة لكى تساعد الانسان على أداء رسالته فى تعمير الأرض· حيث يقول تعالى ''الله الذى خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري فى البحر بأمره وسخر لكم الأنهار، وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار'' سورة إبراهيم، الآيتان: 23-23 ·
والثاني الوسطية: وهذه الوسطية ترتبط بالتسخير، لكى يستفيد الإنسان من تسخير مكونات البيئة بأسلوب معتدل وبمنهج الوسطية التى يميز الاسلام عن سائر الأديان الأخرى، وينبع هذا الاعتدال من حقيقة موقع الإنسان فى الكون، فالانسان فى المنظور الإسلامى: ''سيد في الكون'' وليس ''سيد الكون'' كما يرى الفكر الغربى، الذي برر للإنسان الإسراف في تعامله مع البيئة، ورغبته في الهيمنة على الكائنات الموجودة في الكون مما أدى الى آثار سلبية على مختلف مكونات النظام البيئي·
ومن ثم فإن مفهوم البيئة وفق المنظور الإسلامى الذي يجسده محمد يعني أكثر من مجرد سرد لمكونات البيئة أو النظام البيئى، - كما يقول عبد الحكم عبداللطيف الصعيدى في دراسته ''البيئة فى الفكر الإنسانى والواقع الإيمانى'' فهو يربط هذه المكونات بالنفس البشرية، لأن شريعة الإسلام لا تقف بالانسان عند حدود الماديات وشكلها وإنما تجعلها وسيلة لبلوغ الهدف الأسمى وهو تزكية النفس وتطهيرها وإعادة صياغتها على نحو خال من العقد والانفصامات، وهو ما تنفرد به الحنيفية السمحاء عما سواها من شرائع البشر وقوانينهم الوضعية·
وتشكل البيئة كما اخبرنا بها المصطفى - صلى الله عليه وسلم- كياناً حياً، فليست الأرض مجرد جرم يطأه الناس بأقدامهم، ويفعلون على ظهرها ما يشاؤون وليس الجبال مجرد كيانات هامدة وإنما هي كيانات حية لها حس وانفعال خاص فيقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: ''لا يسمع صوت المؤذن جن ولا إنس ولا حجر ولا مدر ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة'' - رواه ابن ماجه ومالك فى الموطأ·
وهذه الرؤية تستند الى أصول في القرآن الكريم فيقول تعالى: ''تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليماً غفوراً'' الاسراء : 44
ويقول أيضاً: ''وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج''- الحج: من الآية 5
وتطالب تعاليم الاسلام التي بلغنا بها المصطفى أن يستثمر المسلم عمره - باعتباره بعداً زمنياً هاماً- فى تعامله مع الأنظمة البيئية من منطلق أنها نعمة كبرى للانسان ودعاه الى النظر فى مكونات البيئة والتأمل فى مخلوقات الله باعتبارها نعمة كبرى للانسان·
تشير إلى ذلك العديد من الآيات، ومنها قوله تعالى ''الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون'' البقرة : 22
فكل مكونات البيئة قد خلقها الله تعالى بمقادير محددة وصفات معينة بحيث تكفل لها القدرة على توفير سبل الحياة الملائمة للإنسان وغيره من الكائنات الحية الأخرى على الأرض·· وبما يكفل لأي مكون أو عنصر من عناصر البيئة أن يؤدي دوره المحدد والمرسوم له في صنع الحياة في توافقية انسجامية غاية في الدقة فخضع كل ما فى الكون لدورة حيوية رسمها الخالق العظيم تتسم بالدقة من خلال سلسلة من عمليات التولد والموت والتحول، فالحيوانات حين تموت، تتحلل أجسادها إلى التراب، وتقوم النباتات باستخلاص المواد الغذائية من التراب لتحولها إلى أوراق وثمار وبذور يعتمد عليها الإنسان والطير والحيوان في غذائه وتستمر عملية الموت والتحول والحياة وفقا لما قدره الخالق عز وجل· فيقول تعالى - ''إنا كل شيء خلقناه بقدر'' سورة القمر: الآية ·49
الحفاظ على مصادر المياه
ويدعو محمد - صلى الله عليه وسلم- إلى الحفاظ على المصادر الطبيعة والتعامل معها على أنها ملكية عامة للناس جميعا، يشتركون في الحفاظ عليها ويشتركون ايضا في الانتفاع بها، فيقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم ''الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار'' رواه أحمد وأبو دواود
وهذا يبرز حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على الحفاظ على المصادر الطبيعية، فيشير هذا الحديث النبوي إلى أهم هذه المصادر: الماء والعشب ''المراعي الطبيعية'' ومصادر الطاقة·· كما نهى الرسول عن استنزاف الموارد أو المصادر الطبيعية، ونظراً لأهمية الماء كمصدر أساسي للحياة فقد حث الرسول على الحفاظ عليه·
وكان في سلوكه اليومي نموذجا للتعامل الراشد مع هذا المصدر الطبيعي من خلال الاقتصاد في استهلاكه، والنهي عن التبزير في ذلك حتى لو كان الإنسان يتوضأ من نهر، فقد مر - صلى الله عليه وسلم - بسعد بن أبي وقاص وهو يتوضأ، فقال ''ما هذا السرف ؟ فقال: أو في الماء إسراف، فقال نعم وإن كنت على نهر'' رواه أحمد بن حنبل وإمعانا في الحفاظ على هذا المصدر الأساسي، حذر المسلمين من الوسوسة في الوضوء حتى لا يزيد استهلاكهم للماء فقال صلى الله عليه وسلم- '' للوضوء شيطان يقال له الولهان فاتقوا وسواس الماء''·
وضرب مثالاً في الاقتصاد في استهلاك المياه، فقد كان الرسول يتوضأ بالمد ''رطل وثلث'' ويغتسل بالصاع ''أربعة أمداد أو خمسة أرطال وثلث الرطل'' رواه مسلم ومسند أحمد·
ومن هنا جاء تحريم الإسراف فى استخدام المياه حتى في حالة الوضوء للصلاة، وهذا مثال دقيق لضرورة الحفاظ على عنصر من أهم عناصر البيئة·
المصدر: د - محمد يونس
نشرت فى 20 إبريل 2010
بواسطة elmrakby52
عدد زيارات الموقع
15,882
ساحة النقاش