الحسن بن الهيثم نشأته:- في البصرة, تلك المدينة الواقعة في الجنوب الشرقي من العراق, وفي عام 354هـ - 965م ولد أبو علي الحسن بن الحسن الهيثم, ذلك العالم الذي كان له دور واسع في العلوم الطبيعة و البصريات, وعلم الضوء و الفلك و الهندسة و الرياضيات و الفلسفة. ثقافة ابن الهيثم:- في هذا الوسط العلمي المزدهر نشأ الحسن بن الهيثم, فوجد بين يديه جملة من المعارف و المعلومات المختلفة, منها من كان مؤلفا بأقلام العلماء أنفسهم , ومنها ما كان مترجما عم الأمم الأخرى , فأقبل بكل دأب وصبر ومثابرة و إخلاص ينهل من هذه العلوم , ويوسع ثقافته, مستخدما ذهنه اللماح وذكاءه ومنهجه الدقيق في التحصيل المنظم الواعي, لا القراءة العابرة السريعة. وأغراه علم الطب الذي ازدهر في أيامه, ولمعت أسماء أعلامه, فاتجه إلى هذا العلم يتحرى نظرياته و أصوله في كتب جالينوس رائد هذا العلم, وعند غيره من الأطباء المشهورين. ولم يقتصر على ذلك, بل وجد أن الفلسفة من العلوم التي ينبغي للمثقف أن يتقنها ويعرف أسرارها, فدرسها بفروعها الثلاثة: المنطق و الطبيعة وما بعد الطبيعة, مستعينا في دراسته بكتب أرسطو اليوناني صاحب الفضل في كثير من النظريات الفلسفية. تنظيم المعرفة:- كان ابن الهيثم كثير الترحال و السفر, يتقلب في البلاد طالبا المعرفة , سا عيا وراء مرجع علمي سمع به, أو أستاذ نابغة يأخذ عنه العلم ويسترشد بحكمته. ولكنه أدرك أن الأكتفاء بتصفح المؤلفات العلمية و اكتساب المعارف بالنظر والسمع, قد يؤدي إلى الضياع المعلومات ونسيانها وتبخرها من الذهن, فعمد إلى أسلوب العالم الجاد في الاستفادة من مكتسباته العلمية و المحافظة عليها, فأخذ يبذل الجهد في تنظيم هذه المعارف, بأن جعلها على شكل مذكرات, ينسقها ويرتبها ويبوبها في جذاذات صغيرة من الأوراق,بحيث بسهل الرجوع إليها حين يزمع تأليف كتاب من كتبه العلمية القيمة. وفي ذلك يقول ابن الهيثم: - ( وأنا, ما دمت لي الحياة, باذل جهدي ومستفرغقولي في مثل ذلك, متوخيا أمورا ثلاثة: أحدها إفادة من يطلب الحق ويؤثره في حياتي ويعد مماتي, و الأخر أني جعلته ارتباطا لي بهذه الأمور في إثبات ما تصوره وأتقنه فكري من تلك العلوم, والثالث أني صيرته ذخيرة وعدة لزمان اليخوخة أوان الهرم). في طريق الإبداع:- لم يكتف ابن الهيثم بتدوين الملاحظات المفيدة, وتسجيل المعلومات العلمية من الكتب التي يطلع عليها أو العلماء الذين يتصل بهم, فقد بدأ بالتأليف وهو في ريعان شبابه وإبان فتوته, فإذا به يجمع بين التحصيل و التأليف جمعا تتبدى فيه ملامح عبقريته ومخايل ذكائه, إذا إن العالم لا يجوز له أن يقف عند حدود الأخذ و الاكتساب, بل عليه أن يتجاوز ذلك إلى البذل و العطاء. ففي كتبه الأولى تتوضح لنا مظاهر فهمه العميق و إدراكه المتقن لكل ما قرأه وحصله من علوم غيره, كما توضح لنا أرؤاه الشخصية, ونظرياته الذاتية, وردوده المفحمة على آراء غيره من العلماء, مما يثبت نضجه المبكر, وحسن تمنعه, وسداد تفكيره. فقد ألف بعض الرسائل في الفلسفة و اعلوم الطبيعية رد فيها على آراء المنجمين, وعلى رئيس طائفة المعتزلة حول كتاب ( جوامع السماء و العالم ) لأسطو. ووضع في مجال العلوم الرياضية كتاب ( الجامع في أصول الحساب ) وفيه يخالف ابن الهيثم بعض من سبقوه في هذه الأمور فيقول:- - ( استخرجت أصوله لجميع أنواع الحساب من أوضاع اقليدس في أصول الهندسة و العدد, وجعلت السلوك في استخراج المسائل الحسابية بجهتي التحليل الهندسي, والتقدير العددي, وعدلت فيه عن أوضاع الجبريين و ألفاظهم). رحلته إلى مصر:- يروى أن الحسن ابن الهيثم قال ذات يوم:- - ( لو كنت بمصر لعملت في نيلها عملا يحصل به النفع في كل حالة من حالاته من زيادة أو نقص, فقد بلغني أنه ينحدر من موضع عال وهو في طرف الإقليم المصري). فما إن سمع الحاكم بأمر الله بذلك حتى أرسل إلى ابن الهيثم أموالا وهدايا, واستعاده إلى مصر. فاستجاب ابن الهيثم لهذا الطلب, وشد الرحال إلى القاهرة, وزاده شهرته العلمية وأحلامة الواسعة. وكم كان اعتزازه بنفسه عظيما حين بلغ مشارف القاهرة فرأى أن الحاكم بأمر أن الحاكم بأمر الله قد خرج مع لفيف من العلماء لاستقباله و الترحيب به. خيبة الأحلام:- جهز ابن الهيثم معه بعثته هندسية تضمنت مجموعة من الصناع و البنائين, محملين بكل ما يحتاجونه من أدوات ومعدات و أجهزة هندسية, ثم سار على ضفاف النيل قاصدا جنوب مصر, وكان في طريقه يعاني مجرى النيل, ويضع المخططات ويجري الحسابات, بغية الوصل إلى تنفيذ مشروعه في خزن مياه النيل, ولكن يا للمفاجأة! فها هو يصل شلال ضخم عند أسوان, ويتلف حوله فلا يجد ذلك المكان المرتفع الذي توهم وجوده, وظن أنه مفتاح تحقيق فكرته. لقد أصيب فجأة بخيبة أمل, وتلاشت أحلامه الواسعة, وأدرك أن هذا المشروع صعب تحقيقه, فكيف سيواجه الحاكم بأمر الله؟ وبأي وجه سيقابل العلماء المصريين ورجال الدولة الين كانوا يرتقبون جهود هذا العالم القادم من البصرة؟ لا سيما وقد ترددت في سمعه أنباء الحاكم,وأخبار أفعاله الشاذة التي يتنذر بها الناس ولا يقبل بها عقل السليم. جنون ابن الهيثم:- ويعود ابن الهيثم من رحلته تلك, فيواجه الحاكم صراحة بإخفاق المشروع واستحالته, وفي نفسه تجيش المخاوف من المصير الذي ينتهي إليه. غير أن الحاكم استطا ع أن يخفي الشعور خيبة الأمل وتبدد الحلم, فيتظاهر باقتناعه بالأسباب التي قدمها ابن الهيثم, ثم يقرر في منصب إداري من مناصب الدولة, فيفاجأ ابن الهيثم بهذا القرار, وهو الذي خلق لكي يكون عالما باحثا, لا موظفا إداريا,ولكن أنى له أن يعترض على مشيئة الحاكم ويرفض قراره؟ فانصاع للأمر على كره منه,وهو يفكر بحيلة تنقذه من هذا المأزق العسير. لقد وجد ألا مهرب له من هذا الموقف إلا بالتظاهر بالجنون.. فلتكن حركاته وكلماته توهم المحيطين به أنه مختل العقل مضرب الفكر, ولتكن النتيجة ما تكون. وتصل إلى الحاكم أخبار جنون ابن الهيثم, فيعزله من منصبه, ويصادر أمواله , ويفرض عليه الإقامة الجبرية. اشهر أعماله:- وأشهر أعماله المناظر (أو علم الضوء)- صورة الكسوف- اختلاف منظر القمر- رؤية الكواكب- التنبيه على ما في الرصد من الغلط- تربيع الدائرة- أصول المساحة- أعمدة المثلثات- المرايا المحرقة بالقطوع- المرايا المحرقة بالدوائر- كيفيات الإظلال- رسالة في الشفق- شرح أصول إقليدس في الهندسة والعدد- الجامع في أصول الحساب- تحليل المسائل الهندسية- تحليل المسائل العددية. ولابن الهيثم أكثر من 80 كتابًا ورسالة، عرض فيها لسير الكواكب والقمر والأجرام السماوية وأبعادها، ولقد اخترع الحجرة المظلمة في التصوير. فلابن الهيثم حوالي 20 مخطوطةً في هذا المجال، وقد استخدم عبقريته الرياضية في مناقشة كثيرٍ من الأمور الفلكية، كما ناقش في رسائله بعض الأمور الفلكية مناقشة منطقية، عكست عبقرية الرجل من جانب، ومن جانبٍ آخر عمق خبرته وعلمه بالفلك، ومن أمثلة مؤلفاته: ارتفاع القطب: وفيه استخرج ارتفاع القطب، وتحديد خط عرض أي مكان. أضواء الكواكب: اختلاف منظر القمر. ضوء القمر: وأثبت أن القمر يعكس ضوء الشمس وليس له ضوء ذاتي. الأثر الذي في وجه القمر: وفيها ناقش الخطوط التي تُرى في وجه القمر، وتوصل إلى أن القمر يتكون من عدة عناصر، يختلف كل منها في امتصاص وعكس الضوء الساقط عليه من الشمس، ومن ثَمَّ يظهر هذا الأثر. مقالة في التنبيه على مواضع الغلط في كيفية الرصد. تصحيح الأعمال النجومية- ارتفاعات الكواكب، وغير ذلك كثير. درس ابن الهيثم ظواهر انكسار الضوء وانعكاسه بشكلٍ مفصَّل، وخالف الآراء القديمة كنظريات بطليموس، فنفى أن الرؤية تتم بواسطة أشعة تنبعث من العين، كما أرسى أساسيات علم العدسات وشرَّح العين تشريحًا كاملاً. يعتبر كتاب المناظر Optics المرجع الأهم الذي استند إليه علماء العصر الحديث في تطوير التقانة الضوئية، وهو تاريخيًّا أول مَن قام بتجارب الكاميرا Camera، و هو الاسم المشتق من الكلمة العربية: “قُمرة” وتعني الغرفة المظلمة بشباك صغير. الكتب التي قام بتأليفها: (كتاب المناظر- اختلاف منظر القمر- رؤية الكواكب- التنبيه على ما في الرصد من الغلط- أصول المساحة- أعمدة المثلثات- المرايا المحرقة بالقطوع- المرايا المحرقة بالدوائر- كيفيات الإظلال- رسالة في الشفق- شرح أصول إقليدس- مقالة في صورة الکسوف- رسالة في مساحة المسجم المکافي- مقالة في تربيع الدائرة- مقالة مستقصاة في الأشکال الهلالية- خواص المثلث من جهة العمود- القول المعروف بالغريب في حساب المعاملات- قول في مساحة الكرة. وفاته:- اتخذ من غرفةٍ بجوار الجامع الأزهر سكنًا، ومن مهنة نسخ بعض الكتب العالمية موردًا لرزقه، هذا بخلاف التأليف والترجمة؛ حيث كان متمكنًا من عدةِ لغات، وتفرَّغ في سائر وقته للتأليف والتجربة؛ وذلك حتى وفاته في عام 1039م، وقد وصل ما كتبه إلى 237 مخطوطةً ورسالة في مختلف فروع العلم والمعرفة، وقد اختفى جزء كبير من هذه المؤلفات، وإن كان ما بقي منها أعطى لنا صورةً واضحةً عن عبقرية الرجل، وإنجازاته العلمية..