الإمام أحمد بن حنبل
صامت يطيل السكوت والتأمل، حزين يكاد لا يبتسم، وفي وجهه مع ذلك البشاشة وعلى قسامته الرضا، لا يتكلم إلا إذا سئل فلا يبتدر أحدا بحديث .. حتى إذا جلس في الحلقة بعد كل صلاة عصر في المسجد الجامع ببغداد، وسأله الناس في أمور الدين والدنيا انفجر منه علم غزير نافع يبهر السائلين! .. قال عنه بعض الفقهاء: "أنه جمع العلم كله". وقال عنه بعض العلماء: "إنه ليس من الفقه في شيء". وقال عنه الإمام الشافعي حين ترك بغداد إلى مصر: "تركت بغداد وما فيها أفقه ولا أعلم من أحمد بن حنبل". وفي الحق أن أحمد بن حنبل ظلم حيا وميتا. أما حياته فقد كانت نضالا متصلا ضد الفقر، وضد عادات عصره .. فقد حملته أمه وهي حامل به من "مزو ـ حيث كان يعمل أبوه في جند الخليفة ـ إلى بغداد، ولم تكد تضع وليدها أحمد حتى مات والده ترك له عقارا عاشت من غلته هي والصغير .. حتى إذا شب الصغير وزادت مطالبه، عرفت أمه ضيق العيش، ولكن الأرملة الشابة رفضت أن تتزوج على الرغم من جمالها وشبابها وطمع الخطاب فيها، ووقفت حياتها على تربية وحيدها أحمد فأحسنت تربيته ودفعت به إلى مقرئ ليعلمه القرآن فختمه وهو صبي وظل حياته كلها يعاود قراءته والتفكير فيه .. وعندما وثبت به الحياة إلى الفتوة وجد من حوله دنيا عجيبة حقا، تطغى فيها البدعة على السنة، ويشقى فيها عالم الأمر بجاهله، وتكتظ خزائن بعض الناس بالذهب والفضة بحيث لا يعرفون كيف ينفقونها، وعلى مقربة منهم يسقط بعض النساء والرجال في حمأة العار بحثا عن الحياة الأفضل أو عن الطعام وسط أو حال النفاق والخطيئة..! وأصوات خادعة أو مخدوعة تحبب الناس في الانصراف عن طيبات الحياة مما أحل لهم، باسم الورع أو الزهد، وتحضهم على ترك الحقوق لها ضميها أو مغتصبيها!.. ووسط هذه النداءات المنكرة التي لم يعرفها السلف قط، تزف عروس إلى ابن الخليفة الذي يجب أن يعيش كما يعيش أواسط الناس من رعيته، فإذا بكل رجل من المدعوين إلى حفل الزفاف من كبار القوم يسلم رقعة هي صك هبة: بضيعة وجارية ودابة .. فضلا عن الدار المنثور!!.. أما سائر الناس فتندثر عليهم الدنانير والدراهم وحقاق المسك والعنبر!! هكذا طالعت الدنيا شابا حفظ القرآن صغيرا وتدبر في أحكامه وتعلم علم الحديث، فما كان منه إلا أن أعلن إنكاره لهذا كله، وسمى كل ما يحدث بدعة ونذر نفسه لمقاومتها ولإحياء سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فاتهموه بالتزمت! وهكذا عاش حياته..! أما بعد موته فقد ابتلى ببعض اتباع نسبوا إليه ما لم يقل ولم يصنع وفرعوا على أصوله ما هو برئ منه، وأسرفوا على الناس حتى لقد كانوا يطوفون بمدائن المسلمين يغيرون بأيديهم ما يحسبونه بدعة، أو منكرا، ويغرضون ما يتخيلونه سنة، وغالوا في هذا حتى نال الناس منهم أذى وعنت، فكرهم الناس ونسبوهم إلى الحماقة وضيق الأفق وسخروا بهم، وأزروا على مذهبهم .. وأصبحت كلمة الحنبلى أو الحنابلة تعني التبلد والتحجر والتعصب المذموم!! ولقد كتب ابن الأثير يصف ما كان يحدث من نفر من اتباع الإمام أحمد سنة 323 من الهجرة: "وفيها عظم أمر الحنابلة، وإن وجدوا مغنية ضربوها وكسروا آلة الغناء. واعترضوا في البيع والشراء. ومشى الرجال مع النساء والصبيان فإذا رأوا ذلك سألوا الرجل عن التي معه من هي فأخبرهم وإلا ضربوه وحملوه إلى صاحب الشرطة وشهدوا عليه بالفاحشة فأزعجوا بغداد.". وما كان الإمام أحمد ليزعج أحدا، وما كان فظا ولا غليظ القلب بل كان يجادل بالتي هي احسن وكان يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة إعمالا لكتاب الله وسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام .. وما كان الإمام أحمد متعصبا لرأي ارتآه بل كان يحاور، ويرجع عن رأيه إن تبين له ما هو أصح حتى لقد نهى عن كتابة فقهه لأنه كثير العدول عن آرائه..! وما كان ضيق الأفق، أو جامد الفكر، أو منقبا عن عيوب الناس .. وما كان الإمام أحمد من هذا كله في شيء. فقد كان من أوسع الناس أفقا، ومن أعمق العلماء إدراكا لروح الشريعة، ومن أكثر الفقهاء تحريرا لها من الجمود وتحررا بها في المعاملات. ولكنه عاش في عصر تغشاه البدع ويسوده الترخص الذي قد يزلزل عمود الدين فكان عليه أن يأخذ الكتاب بقوة..! .. ولقد قال عنه أحد معاصريه: "ما رأيت في عصر أحمد بن حنبل ممن رأيت، اجمع منه ديانة وصيانة وملكا لنفسه، وفقها وأدب نفس، وكرم خلق وثبات قلب وكرم مجالسة وأبعد عن التماوت. ولد أحمد بن حنبل في بغداد عام 164 هـ من أبوين عربيين .. مات أبوه وهو طفل وترك له معاشا ودارا يسكنها هو وأمه وعقارا يغل غلة لهما قليلة.. وكان عمه يعمل في خدمة الخليفة الرشيد، ويجمع أخبار بغداد ويلمسها إلى والي البريد (الأمير المسئول عن البريد) ليوصلها إلى الخليفة إذا كان الخليفة خارج بغداد .. وانقطعت أخبار بغداد عن الخليفة فأرسل إلى الوالي يسأله، فسأل الوالي عم أحمد، وكان أحمد غلاما صغيرا، وكان عمه يرسله بالأخبار إلى الوالي .. فسأله عمه: "ألم أبعث الأخبار إلى الوالي؟ فقال: نعم، فقال عمه: "فلأي شيء لم توصلها؟" قال أحمد: "رميت بها في الماء! .. أأنا أوصل الأخبار؟!". وحين سمع الوالي بما كان من أمر أحمد والأخبار قال: "إنا لله وإنا إليه راجعون .. هذا غلام يتورع، فكيف نحن؟". على هذا الورع نشأ أحمد بن حنبل، حتى أن نساء الجند الذين سافروا مع الرشيد في الغزو كن لا يجدن فتى غيره يثقن فيه، فيقرأ لهن رسائل الأزواج، ويملينه الردود .. ولكنه كان لا يكتب الكلام الفاحش الذي قد تمليه بعض الزوجات المشوقات إلى الأزواج..! ولقد أدرك منذ نشأ أن أمه تعاني في سبيل توفير حياة كريمة له، وأنها ترفض الخطاب من أجله، فحرص على أن يعوضها، وبذل كل جهده في الدرس حتى حصل علوما ومعارف كثيرة في سن صغيرة معتمدا على نفسه. قال أحد جيرانه: "أنا أنفق على ولدي وأجيئهم بالمؤدبين على أن يتأدبوا، فما أراهم يفلحون، وهذا أحمد بن حنبل غلام يتيم .. انظروا كيف أدبه وعلمه وحسن طريقته!". على أن الفتى شعر أنه أصبح هما ثقيلا على أمه .. وإن كان قد احسن مكافأتها بانقطاعه على الدرس، وذيوع أمره بين الأساتذة والتلاميذ.. وكان أحمد قد رأى أمه تبيع درتين لتعينه على طلب العلم، فألي بينه وبين نفسه ألا يجشمها مالا بعد. وأراد أن يوفر لأمه ما ترك أبوه من غلة العقار الذي مات عنه وهو بناء كبير يحوي عدة حوانيت تغل كلها سبعة عشر درهما في كل شهر..! .. وكان في أحد هذه الحوانيت نساج فتعلم منه وعاونه، فقد حفظ أحمد فيما يحفظ من أحاديث أن أطيب ما يأكله الإنسان هو ما يكسبه من عمله .. وكان أحمد حفيا بالسنة حريصا عليها، من أجل ذلك حرص على ألا يأكل إلا من عمل يده..! على أن عمل يده لم يكن يكفيه للطعام ولمواجهة أعباء الحياة، منذ صمم على أن ينزل لأمه عن غلة العقار الذي مات عنه أبوه، فلجأ إلى الاقتراض ولقد أدرك بعض دائنيه ضيق حاله فأبى عليه رد الدين قائلا: "ما دفعتها وأنا أنوي أن آخذها منك" فقال له أحمد: "وأنا ما أخذتها إلا وأنا أنوي أن أردها إليك". على أن الحياة كانت تثقل عليه بمطالبها في بعض الأحايين، فلا يجد طعاما .. فيذهب إلى المزارع والبساتين، ليلتقط ما نزل على الأرض خارجها من الثمرات .. وقد هدته تجربته الخاصة إلى أن هذا الزرع يجب أن يباح لمن يحتاج إليه .. وإلى هذا المبدأ انتهى في فقه .. على ألا يدخل ذو الحاجة ملك الغير ليأكل، إلا بإذن المالك .. |
ولكم صقلته المعاناة وهدته إلى قواعد في الفقه وإلى أحكام وفتاوى!.. ذلك أنه كابد ضراوة الحاجة، وعرف أحوال الناس، واحتيالهم على الحياة، وذاق من البأساء، وعرف أهوال الأسواق..! وقد أكسبه هذا كله بصرا بالناس وفهما بالناس وفهما للدنيا، وتقدير لمتطلبات الحياة وضرورتها، ونبض كل أولئك فيما احدث من فقه ورأي .. ثم الرحلة في طلب العلم. ولكم لاقى في هذه الرحلات من أهوال!! قام بمعظمها على قدميه إذا لم يكن يجد أجر الدابة .. وعمل في بعضها حمالات ليعول لنفسه .. وعمل في بعضها نساخا، وكان حسن الخط .. وأكسبته كل هذه التجارب خصوبة فكر .. وهو في كل ما يعرض له يرفض العطاء، ويصمم على ألا يأكل إلا من عمل يده .. كان كثير الرحلة إلى اليمن يطلب الحديث من أحد علمائها، ورأى الشافعي حين كان ببغداد رقة حال أحمد، وعناءه في رحلاته إلى اليمن، وكان المأمون قد طلب من الشافعي أن يختار له قاضيا لليمن فعرض الأمر على تلميذه أحمد، فأبى .. فلما ألح عليه الشافعي قال له أحمد: "إن عدت إلى هذا لا تراني أبدا". بدأ أحمد في طلب الحديث وهو في مطلع الشباب .. في الخامسة عشرة من عمره .. وظل سبع سنوات يتلقى الحديث على شيوخه في بغداد، ثم سافر في طلبه وهو في مطلع شبابه في الثانية والعشرين .. سافر يلتمس الحديث عن شيوخ البصرة، فأقام عاما، ورجع بعده إلى الحجاز، وهناك سمع للشافعي بالمسجد الحرام، فقال لصحبه الذين قدموا الحجاز معه: "إن فاتنا علم هذا الرجل فلن نعوضه إلى يوم القيامة". ثم عاد إلى بغداد، وعاد مرة أخرى إلى الحجاز .. وهناك سمع من الإمام مالك والإمام الليث بن سعد المصري وآخرين، ثم سافر إلى اليمن ليلزم شيخه عبد الرازق بن همام، وكان قد التقى به في الحج، ووجد عنده كثيرا من الأحاديث، فآثر أن يلزمه باليمن فيتلقى عنه .. ولقد حاول عبد الرازق أن يصله ببعض الدنانير، ولكن أحمد بن حنبل أبى .. وصمم على أن يكسب عيشه بعمل يده فاشتغل نساخا .. وتوالت رحلاته إلى خراسان وفارس وطرطوس .. وإلى كل مكان يسمع أن فيه راوية حديث.. كان أحمد قد تعلم الحديث أول ما تعلم من أبي يوسف أحد أصحاب أبي حنيفة .. وكان أبو يوسف قاضي قضاة الدولة، وله حلقة درس يعلم فيها الناس .. وقد بهر أحمد بعلم أبي يوسف، وأعجب بجرأته في الحق .. وكان أحمد لا يفتأ يذكر بإكبار ما صنعه أبو يوسف مع وزير الخليفة، إذ رد شهادة الوزير قائلا: "لا نقبل شهادة الوزير لأنه قال للخليفة أنا عبدك!.. فإن كان صادقا فهو عبد ولا تقبل شهادة العبد، وإن كان كاذبا أو منافقا، فلا شهادة لكاذب أو منافق!". على أن أحمد بن حنبل على الرغم من إكباره لأستاذه أبي يوسف، لم يجد عنده كل ما يريد من حديث .. فقد كان أبو يوسف من أصحاب الرأي .. وأحمد بعد أن حفظ القرآن يريد أن يحفظ كل الآثار التي خلفها الثقات من رواة الأحاديث .. فما ترك أحمد أبا يوسف قاليا له، فقد شارك أبو يوسف في صياغة وجدان أحمد وضميره الديني والاجتماعي، ولكنه ترك بحثا عما عند غيره وهو على مودة معه. ودرس علي عبد الله بن المبارك، وكان فقيها واسع العلم، واسع الغنى في آن واحد .. ولقد حاول ابن المبارك أن يعين أحمد بن حنبل بالمال، ولكنه أبى وقال إنه يلزمه لفقهه وعلمه لا لماله، بل على الرغم من ماله!! وقد تعود ابن المبارك أن ينفق كل دخله على الصدقات وطلاب العلم. وكان زاهدا .. والزهد عنده التقوى .. يعلم الناس أن العالم الذي يشيع علمه بين الناس افضل ألف مرة من الذي ينقطع للعبادة .. وقد حكى أحد معاصريه أنه رأى بعيرين يحملان دجاجا مشويا لسفرة ابن المبارك، وكان يطعم الناس الفالوذج، ويأكل هو الخبز والزيت، فإذا اشتهى طعاما ما طيبا لم يأكله إلا مع ضيف .. ويقول: "بلغنا أن طعام الضيف لا حساب عليه." .. وقيل له: "قل المال فقلل من صلة الناس" فقال: "إن كان المال قد قل، فإن العمر قد نفد." وكان يقول: "ليس يلزمني من الدنيا إلا قوت يوم فقط" .. من أجل ذلك أحب الناس عبد الله بن المبارك، والتفوا حوله حتى إنه قدم الرقة وبها هارون الرشيد، فاجتمع الناس وتزاحموا احتفالا به حتى "تقطعت النعال وارتفع الغبار"، فأشرفت زبيدة زوج هارون الرشيد من قصرها، فلما رأت زحاما لم تره قط سألت: "ما هذا؟" قالوا "الفقيه العالم عبد الله بن المبارك". فقال: "والله هذا هو الملك، لا ملك هارون الرشيد الذي يجمع الناس إليه بالسوط والعصا والشرطة والأعوان" .. وكان أحمد من المعجبين بالعالم عبد الله بن المبارك، كان معجبا بشخصه وبفقه وعلمه وبسيرته بين الناس .. وعبد الله بن المبارك هو أحد الذين أثروا في أحمد بن حنبل وفي تشكيل فكره وسلوكه ومواقفه .. فقد أدرك أحمد في مطلع شبابه مما تعلمه من ابن المبارك أن الدعوة إلى الفقر ليست زهدا، وإنما هي تمكين للأغنياء من المال، ليكون المال دولة بين الأغنياء .. وأن الزهد الحق هو ما سنه الرسول عليه الصلاة والسلام، وتابعه فيه أئمة الصحابة من بعده .. وليس الإعراض عما أحل الله، بل التعفف عن النظر أو التفكير فيما حرمه الله أو اشتهاء ما يكرهه .. الزهد هو التقوى. تحمل أحمد المشقات، وخاض الغمرات، بحثا عن الأحاديث الصحاح يواجه بها ألوان البدع .. ثم إنه خرج إلى طرطوس مرابطا مستعداً للجهاد، ولبث فترة هناك ثم عاد إلى بغداد، فقد كان يرى الجهاد فريضة على كل قادر: الجهاد بالنفس أو المال أو بهما جميعا. كان العصر زاخر بالعلوم والمعارف، وكان الفقهاء من قبله يعنون بها ويتعلمونها، ولكنه لم يجد منهم أحد يتخصص في علوم الحديث، ويتوفر على الآثار وحدها، فوهب نفسه لإتقان علوم السلف فحسب، لأنه شعر بأن الأمة في حاجة إلى هذا التخصص. وظل يرحل ماشيا في طلب الحديث إكبارا للغاية التي يسعى إليها أو عجزا عن النفقة، يحمل فوق ظهره متاعه وكتبه، ويؤجر نفسه للعمل إن نفد زاده .. حتى جمع آلاف الأحاديث، وهو ما يفتأ على الرغم من ذلك يجوب الآفات، حتى نحل جسده، فلامه في ذلك أحد أصدقائه قائلا: "مرة إلى الكوفة ومرة إلى البصرة ومرة إلى الحجاز ومرة إلى اليمن؟! .. إلى متى؟!" فقال أحمد: "مع المخبرة إلى المقبرة." وما كان لينتهي مهما تكن المشقة .. فقد كان يطلب من الحديث علوم الفقه .. كان يطلب فقه الخلفاء الراشدين، وفقه سائر الصحابة، وفقه التابعين وتابعيهم بإحسان .. وقد جلس في رحلاته إلى الحجاز في مواسم الحج إلى كل فقهاء عصره .. في المسجد الحرام، وفي الحرم النبوي .. على أن أحدا لم يجذبه كما جذبه الشافعي!.. واتصلت بينهما المودة منذ لقيه لأول مرة في المسجد الحرام .. وكان أحمد في نحو الثانية والعشرين والإمام الشافعي يكبره بنحو ستة عشر عاما، ومع ذلك فقد أحس بأن الشافعي ليس أستاذا ومعلما فحسب، ولكنه أب أيضا..! وعلى الرغم من أن أحمد بن حنبل درس في مطلع شبابه علي أبي يوسف وهو من أصحاب الرأي، ثم درس علي الشافعي ولزم فقهه وهو وسط بين أهل الحديث وأهل الرأي، فقد كان أحمد حريصا في حياته على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حرصا جعله يتشبه به في كل أمور الدين والدنيا، فما حفظ حديثا عن الرسول عليه السلام إلا عمل به .. وحتى قرأ أنه عليه الصلاة والسلام تسرى بمارية القبطية، فذهب إلى امرأته، وأعلمها بما علم، واستأذنها أن يتسرى، أسوة بالرسول صلى الله عليه وسلم فأذنت، فاشترت هي له جارية ترضاها..! وهكذا كان في بره لأمه .. كان بالطبع برا تصنعه الفطرة، ثم اتباعا للسنة، فقد حفظ أحمد أن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل عن أحق الناس بالرعاية فأجاب سائله "أمك" .. وأعاد السائل سؤاله مرتين: فأجابه: "أمك ثم أمك ثم أبوك" .. وفي الحق أن أحمد بن حنبل كان مدينا لأمه بكل شيء .. فقد رفضت أن تدخل عليه زوج أم، على الرغم من جمالها وشبابها وطمع الخطاب فيها .. ثم إنها لقنته منذ صباه كل ما حفظه من سير، وأحاديث، وقصص بطولات .. ورسخت في أعماقه منذ كان طفلا قيم الإسلام الفاضلة .. |
فهي كأبيها من بني شيبان، وكانت تحفظ مفاخر قومها، وقصص العرب، ومآثر الرسول والصحابة وتلقنها وحيدها .. وهي التي اختارت له المكتب الذي يتعلم فيه القرآن، ثم الشيوخ الذين يجلس إليهم بعد أن حفظ القرآن، ليطلب عندهم الحديث والفقه. وكانت تخاف عليه وهو صغير برد الفجر إذا خرج إلى الدرس قبل الأذان .. وقد روى أحمد: "كنت ربما أردت البكور في الحديث فتأخذ أمي بثيابي وتقول: "حتى يؤذن المؤذن للفجر أو حتى يصبح الناس"..
حتى إذا كان في الخامسة عشرة، جاء إلى بغداد عالم عظيم، وأقام على الضفة المقابلة لدار أحمد بن حنبل، وفاض نهر دجلة وارتفع الموج حتى ترك الرشيد قصره ونزل بأهله وأمواله وحاشيته إلى سفائن له، ولكن طلاب العلم هرعوا إلى العالم على الضفة الأخرى في الزوارق .. وأبى أحمد حين دعاه زملاؤه إلى العبور قائلا: "أمي لا تدعني اركب الماء في هذا الفيضان" .. وترك العبور في حسرة، وعاد إلى أمه لتطمئن عليه..!
لكم كان برا بوالدته! .. رآها رفضت الزواج لكي تتفرغ للعناية به، فأبى هو الزواج ليفرغ للحدب عليها .. فما تزوج إلا بعد أن ماتت، وكان قد بلغ الثلاثين، لكيلا يدخل على الدار سيدة أخرى تنازع أمه السيادة على الدار!. وهاهو ذا في بغداد شاب جاوز الثلاثين، محفوف الشارب، مرسل اللحية، أسمر الوجه، تلوح في وجهه الأسمر سكينة وطمأنينة، ويشع من عينيه بريق حاد، نحيل الجسد، متوسط الطول، مثقل القلب بما يحدث من حوله .. كثير التأمل في أحوال الناس، مأخوذ بالبحث عن الخلاص، مشدود إلى الحقيقة، وإلى طريق العباد مما هم فيه..
وما أبشع ما هم فيه!
ذلك أنه منذ صباه شهد بغداد تزخر بألوان الثراء الثقافي والمادي وتتصارع فيها المذاهب الفكرية والفقهية والعلمية، وترتفع فيها القصور المحفوفة بالحدائق والزرع وجنات الفاكهة والريحان، وتفيض فيها الأموال والنزوات، وفي بغداد مع ذلك من لا يجد قوت يومه! .. وما بهذا أمر الله ورسوله!. فقد ورث المؤمنون عن الرسول موعظة يتحتم عليها أن يتدبروها: أنه ليس مؤمنا من بات شبعان وجاره جوعان! .. وكم في بغداد من بيت بين الناي والعود والعزف والشراب والطعام والقصف، والجيران جياع..!!
ثم إن بغداد التي مازالت لياليها تضيء بآثار السلف الصالح، وبالتماعات أفكار المجتهدين، بغداد هذه تجللها المعصية والمظالم .. إذ شاع الانحراف، وظهر الغزل بالمذكر!! وقد أحرق أبو بكر الصديق من قبل قوما تعاطوا هذا المنكر في الشام!! ثم إن أموال الدولة تنفق بلا حساب على الندامى والمغنيات وأهل الطرب والمضحكين والمنافقين..!!
وهذه الدولة العظيمة التي تحكم العالم، وتصوغ حضارة لم يعرفها التاريخ من قبل، وتسخر عقول المفكرين والعلماء فيها كل شيء لراحة الإنسان، وتقتحم هذه العقول عوالم الأفلاك في جسارة نادرة لتصبح الطبيعة أمام الإنسان كتابا مفتوحا، طاقاتها ميسرات لفكره .. هذه الدولة التي حملت كل المعارف والكتب التي وجدتها في البلاد المفتوحة، فعربت كل معطيات الحضارة المصرية واليونانية والفارسية والهندية، وأضافت إليها .. هذه الدولة نفسها لا تقيم العدل كما يجب .. وتسمح لنفسها بأن تقتل اكبر شعرائها بشار بن برد، لأنه نقد الخليفة المهدي وقال عنه "خليفة الله بين الزق والعود" .. فتحرق الدولة أشعاره وتفتري عليه ما لم يقله، لتتهمه بالإلحاد والزندقة، وتضربه حتى يموت!!
وهذه الدولة تسمح لامرأة الرشيد بأن تتدخل في القضاء!! .. ذلك أن وكيل امرأة الرشيد اشترى لها جمالا من رجل من خراسان بثلاثين ألف درهم، وكان الخراساني قد ساق الجمال ليبيعها في بغداد. واستلم وكيل امرأة الرشيد الجمال، وماطل في دفع الثمن، وعطل الخراساني عن السفر .. ثم أعطى الخراساني ألفا ولم يدفع الباقي .. فشكاه الخراساني إلى القاضي، فأمر الوكيل بأداء باقي الثمن، ولكنه قال إنه على السيدة أم جعفر امرأة الرشيد، فقال له القاضي:
"يا أحمق! تقر ثم تقول على السيدة؟!" .. وأمر القاضي بحبس الوكيل.
وعلمت امرأة الرشيد فقالت للرشيد: "قاضيك هذا أحمق. حبس وكيلي واستخف به، امنعه من نظر القضية" فأجابها الرشيد، وأطلق سراح وكيلها، ووجه إلى القاضي يمنعه من النظر في الدعوى!! .. ثار القاضي حين علم بإطلاق سراح الوكيل، فلزم بيته، وامتنع عن حضور مجلس القضاء .. ولكنه حين علم أن الرشيد سيمنعه من نظر الدعوى، خرج من داره، وأرسل إلى الخراساني أن يحضر شهودا ويلحق به في مجلس القضاء .. وجلس القاضي ينظر في الدعوى ويسأل الشهود ويستجلي بينات الخراساني .. وحكم للخراساني بالمال كله .. وأخذ يسجل الحكم..
ثم جاء خادم أم جعفر امرأة الرشيد يقول للقاضي: "عندي لك كتاب من أمير المؤمنين" فقال له القاضي: "مكانك نحن في حكم شرعي .. مكانك حتى نفرغ منه". فقال الخادم: "كتاب أمير المؤمنين" فقال القاضي: "اسمع ما يقال لك".
ومضى القاضي يسجل الحكم وأسبابه حتى فرغ، فأخذ كتاب أمير المؤمنين، وكان فيه كما يعلم قبل أمر بتنحيته عن نظر القضية .. فلما قرأ القاضي كتاب الرشيد قال للخادم: "أقرئ أمر المؤمنين السلام، وأخبره أن كتابه ورد وقرأته وقد أنفذت الحكم". فقال الخادم: "قد عرفت والله ما صنعته. أبيت أن تأخذ كتاب أمير المؤمنين حتى تفرغ مما تريد .. والله لأبلغن أمير المؤمنين بما فعلت" قال القاضي: "قل له ما أحببت".
كان أحمد بن حنبل يتأمل في التدخل في القضاء ويتألم!! ترى كم من القضاة يستطيع أن يصنع كما صنع القاضي حفص بن غياث..؟! من الحق أن الرشيد ضحك عندما سمع ما فعله القاضي حفص بن غياث، وأمر له بجائزة قدرها ثلاثون ألف درهم مما جعل القاضي يقول: "الحمد لله كثيرا من قام بحقوق الشريعة ألبسه الله رداء المهابة" .. ولكن الخليفة لم يعاقب وكيل امرأته، لأنه حاول أخذ الجمال من الخراساني دون أن يدفع ثمنها .. ولم يمنع امرأته من التدخل في القضاء! ومن يدري فربما كانت هناك مظالم كثيرة أخرى لم يتقدم بها أصحابها إلى القضاء .. أو لعل من القضاة من لم يغامر كما غامر القاضي حفص!
هكذا كان أحمد بن حنبل يرى صور الفساد ويأسى ويفكر في الخلاص .. فالحكام يسرقون ويقطعون يد السارق .. ومن العلماء من ينهي عن المنكر ويقترفه .. حتى صح فيهم ما قاله ذو النون المصري: "كان الرجل من أهل العلم يزداد بعلمه بغضا للدنيا وتركا لها. واليوم يزداد الرجل بعلمه حبا للدنيا وطلبا لها .. كان الرجل ينفق ماله على علمه واليوم يكتسب الرجل بعلمه مالا. كان يرى على صاحب العلم زيادة في باطنه وظاهره واليوم يرى على كثير من أهل العلم فساد في الباطن والظاهر."
لا إلا باللجوء إلى السنة واتباعها .. وإلا بالتأسي بسيرة السلف الصالح، وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون. بما فيهم علي بن أبي طالب. وكان أحمد يعرف أن أشد ما يغيظ حكام بني العباس هو نشر فقه الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه .. ذلك أن كثرة الثناء على الإمام علي، يثير بني أمية، ثم على خلفاء بني العباس، وحدثت فيهم من أجل ذلك مقاتل عظيمة .. ومن لم يقتل من بني علي .. عاشوا يرسفون في أغلالهم تحت الأبراج.
وكان فقه الإمام علي بن أبي طالب وأقضيته، في صدور قلائل من العلماء أكثرهم من الشيعة. ثم أذاع آراءه وأفكاره منها بنو العباس أبناء عمومته في محاربة مظالم بني أمية .. ولكن بني العباس خشوا أن يستعملها المعارضون في نقدهم، وخافوا أن يكتسب بها المعارضون حب الناس وتأييدهم .. وهكذا أخفى حكام بني العباس أقضية الإمام علي وفتاواه وفقهه .. واستخفى بها الصالحون!! .. وكان العباسيون كالأمويين لا يطيقون معارضة .. فما ترتفع رأس بالشكوى أو النقد أو الاعتراض، حتى يهوى على عنق صاحبها سيف الجلاد، أو يخرس لسانها في غيابات السجون تحت وطأة عذاب غليظ أليم شديد..!
ولكن أحمد بن حنبل ما كان يستطيع أن يتجاهل سيرة علي بن أبي طالب ولا أفكاره لتكون من بعد سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة لمن يريد أن يعتبر بآثار السلف الصالح. بحث الإمام أحمد عن فقه وأقضية الخلفاء الراشدين، فأعجب بما عرفه من فقه الإمام علي كرم الله وجهه، وبدأ ينشره ويستشهد به .. فوجد عليه خلفاء بني العباس وجدا شديدا، وأهمهم أمره!! ولكنهم لم يظهر الغضب عليه، فما كان أحمد يعمل بالسياسة، وما كان رأيه في الخلافة ليزعجهم، بل إن هذا الرأي على النقيض يرضي خلفاء بني العباس. ذلك أن أحمد كان يرى وجوب طاعة الخليفة ولو كان فاجرا .. فطاعة الفاجر عنده خير من الفتنة التي لا تصيب الذين ظلموا خاصة بل تصيب معهم الأبرياء، وتضعف الدولة فيطمع فيها أعداء الإسلام!!
وكان لا يشترط لصحة الخلافة إلا أن يكون الخليفة من قريش وإلا أن يبايعه الناس. والبيعة شرط جوهري لقوله تعـالى: { وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ } (الشورى،الآية:38)فإذا تغلب أحد على منصب الخليفة وإن لم تكن الخلافة حقا له، وبايعه الناس بالخلافة، وجبت طاعته أيا ما يكن أمره من العدل أو الظلم والفجور أو التقوى .. ويقول أحمد في ذلك: "السمع والطاعة للأئمة وأمير المؤمنين البر والفاجر، ومن اجتمع عليه الناس ورضوا به ومن غلبهم بالسيف وسمى أمير المؤمنين، والغزو ماض مع الأمراء إلى يوم القيامة البر والفاجر .. ومن خرج على إمام من أئمة المسلمين وقد كان الناس قد اجتمعوا عليه، "وأقروا له بالخلافة بأي وجه من الوجوه كان، بالرضا أو بالغلبة، فقد شق الخارج عصا المسلمين، وخالف الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم."
وهو مع ذلك لا يقر السكوت عن الخليفة الظالم، ولكنه يرى أن النصح له أولى من الثورة عليه..! .. وهو يرى النصح فرض كفاية على كل أصحاب الرأي والعلم، فإن قام به بعضهم سقط الفرض الشرعي عن الجميع، وإن لم يقر به أحد أثم الجميع .. ومن عجب أن أحمد الذي فرض على الناس طاعة الخليفة وإن كان فاجرا، نأى بنفسه عن الاتصال بالخلفاء، ورفض أموالهم، وأبى أن يتولى منصبا في ظل أحدهم على الرغم من حاجته الملحة إلى المال .. لأنهم ظالمون!!
وقد هاجم بعض المفكرين من معاصري أحمد آراءه في الخلافة .. واتهموه أنه ينسب إلى الرسول والصحابة نقيض آرائهم، فالرسول يأمر أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ويحذر المسلمين أن يسكتوا على الظلم والفجر، لأنهم إذا سكتوا عنه عمهم الله بالعقاب .. والصحابة قوموا أولياء الأمر منهم وردوهم إلى الصواب .. ثم إن هؤلاء المفكرين اتهموا أحمد بالدعوة إلى الإذعان والرضا بالظلم وبالمعصية ..
غير أن أحمد رد عليهم أن خير التابعين عاشوا تحت مظالم الأمويين فلم يدعوا الرعية إلى الخروج عليهم .. وهو إنما يدعو إلى الطاعة مع استمرار النصيحة، لا إلى السكوت عن المظالم .. وإذا كانت طاعة الحاكم الظالم ظلما، فالخروج عليه ظلم أفدح، لأن الخروج مجلبة للفتنة، وفي الفتنة تنتهك الحرمات، وتهدر دماء الأبرياء كما حدث في كل الثورات في العصر الأموي والعباسي..! ومهما يكن من شيء، فما تجرأ أحد من معاصري أحمد على اتهامه بأنه ينافق الخلفاء، ولكنهم عابوا رأيه، واعتبروه خطأ في تقدير ضررين أيهما أقل، وأيهما أكثر فيدفع..
على أن الإمام أحمد بن حنبل لم يكن بدعا في هذا الرأي، بل كان فيه متفقا على نحو ما مع ما أفتى به الأئمة الثلاثة من قبله: أبو حنيفة النعمان، ومالك ابن أنس، والشافعي، فكلهم رأى أن طاعة الحاكم الظالم مع توجيه النصح له، خير من الثورة عليه لما يصاحب الثوارت من عدوان على الأنفس والحريات والأموال .. إلا الإمام أبا حنيفة، فقد أيد ثورة الإمام زيد ابن علي وأوشك أن يخرج معه مجاهدا ضد مظالم الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك ..
وعلى الرغم من أن ابن حنبل كان شديد التأثر بالشافعي، فقد اختلفا في بعض شروط الخلافة، فالشافعي يجعل العدالة شرطا لصحة الخلافة .. وإن لم يؤيد الثورة على الخليفة إن كان ظالما. والجدير بالذكر أن الإمام الليث ما كان يشترط أن يكون الخليفة عربيا .. ولكنه اشترط العدالة والبيعة..!
انصرف أحمد يجمع السنن وآثار الصحابة، ويبحث من خلالها عن أحكام تنقذ الناس من الضلال .. وكان يجمع ما رواه الصحابة من أحاديث، كل على حدة، ويسند إلى الصحابي ما رواه .. فكان لابد أن يجمع ما رواه الإمام علي بن أبي طالب لا يبالي في ذلك أن يتهمه أحد بالتشيع أو بالميل إلى العلويين .. وفي الحق أنه ما كان متشيعا ولا صاحب ميل للعلويين .. ولكنه تعلم من أستاذه الشافعي أن الإمام علي كان أحق بالخلافة من معاوية، وأن معاوية كان باغيا، ودافع أحمد عن رأي أستاذه في مواجهة منتقديه .. وقد روى أحمد عن أستاذه الشافعي: "قال رجل في علي: ما نفر الناس منه إلا أنه كان لا يبالي بأحد. فقال الشافعي كان في علي كرم الله وجهه أربع خصال لا تكون منها خصلة واحدة لإنسان إلا يحق له ألا يبالي بأحد، كان زاهدا، والزاهد لا يبالي بالدنيا وأهلها، وكان عالما، والعالم لا يبالي بأحد، وكان شجاعا والشجاع لا يبالي بأحد، وكان شريفا والشريف لا يبالي بأحد. وكان علي كرم الله وجه قد خصه النبي صلى الله عليه وسلم بعلم القرآن، لأن النبي عليه الصلاة والسلام دعا له وأمره أن يقضي بين الناس. وكانت قضاياه ترفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيمضيها."
وقد رأى أحمد بن حنبل أن اتباع أحكام الإمام علي سنة لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أقر جميع أحكامه، فكأنه هو الذي حكم .. ثم أنه قد خصه بعلم القرآن .. وعجب علماء الشيعة والمفكرون الذين يؤيدونهم لأمر الإمام أحمد.! لقد حسبوه عدوا لهم، وعدوا للإمام علي منذ أفتى بأن طاعة الحاكم واجبة حتى إن كان ظالما أو فاجرا، والثورة عليه خروج على الإسلام!. وكان الشيعة يرون أنه لا طاعة لحاكم ظالم، ويجب على الرعية أن تثور عليه، فإن سكتوا عنه فليس سكوتهم طاعة له واجبة، بل اتقاء لظلم أفدح، وانتظارا للفرصة المناسبة .. وإذن فرأى أحمد بن حنبل أن طاعة الخليفة الظالم الفاجر واجبة شرعا، وأن الثورة عليه مخالفة للسنة، إنما هو إدانة للشيعة ولإمامهم الحسين بن علي سيد الشهداء رضى الله عنه، وموافقة على مقاتل الطالبيين، وشرها تلك المذبحة الوحشية الفاجرة في كربلاء..!!
ما بال أحمد يسند بفتواه قتلة الإمام الحسين، وقتلة الإمام زيد، وغيرهم من أئمة الشيعة، ثم هاهو ذا يمدح الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ويعتمد على فقهه؟!! كان اللجاج شديد في ذلك العصر بين دعاة الحرية السياسية والاجتماعية من حماة العدل وبين غيرهم من الفقهاء .. ومن أجل ذلك اشتدوا على أحمد ابن حنبل، لأنه كان يرى الطاعة للحاكم الظالم الفاجر، ويرى الخروج عليه مخالفة للسنة .. فهو إذن يؤيد الظالم الفاجر يزيد بن معاوية، ويرى أن خروج الحسين كان مخالفة للسنة!!.. وهذا رأي فاسد!..
وفي الحق أن أحمد ما رأى ذلك وما أفتى به .. فقد كان يرى معاوية باغيا على الإمام علي كرم الله وجهه خرج عن طاعته وثار عليه، فهو مخالف للسنة .. أما عن خلافة يزيد بن معاوية، فإن أحمد بن حنبل يرى أن معاوية أكره الناس على هذه البيعة .. ولا إكراه في البيعة، وليس على مستكره يمين، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم..
وما كان أحمد بن حنبل من الذين يخوضون غمرات الصراع السياسي المتأجج، ولكنه كان يقول ما يؤمن به اتباعا للسنة مهما يكابد في سبيل رأيه، فهو أحرص الناس على التأسي برسول الله، وكان يقول "صاحب الحديث من يعمل به." .. وما كان يجيز طعن الصحابة من الخلفاء الراشدين، كما يفعل بعض غلاة الشيعة، وكان هذا سببا آخر لخلاف هؤلاء معه .. وقد تحدث أمامه جماعة من الناس فذكروا خلافة علي بن أبي طالب وتناولوا أمير المؤمنين بالتجريح، فتغير وجه أحمد وقال لهم: "من طعن في علي كرم الله وجهه فهو مخالف للسنة، وليس للسلطان أن يعفو عنه" .. ثم رفع رأسه وقال: "إن الخلافة لن تزين عليا بل علي زينها".
ولقد سئل أحمد عن حق علي في الخلافة فقال: "لم يكن أحد أحق بها في زمن علي من علي! ورحم الله معاوية!". وسئل عن تأييد أم عائشة لطلحة والزبير ضد علي فقال: "أكان طلحة والزبير يريدان أعدل من علي رضوان الله عليهم أجمعين؟". وسمع أحد غلاة الشيعة بهذا فقال: "هذه الكلمات أخرجت نصف ما كان في قلبي على أحمد بن حنبل من البغض". وقد بنى أحمد آراءه في قتال أهل البغي على سيرة الإمام علي كرم الله وجهه، متبعا في ذلك رأى الإمام الشافعي، فلما عاتبه أحد أصحابه قال: "ويحك" .. يا عجبا لك! فما عسى أن يقال في هذا إلا هذا؟! وهل ابتلى أحد بقتال أهل البغي قبل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه؟"
وفي الحق أن الشافعي أثر في أحمد كما لم يؤثر أستاذ في تلميذه. حتى لقد قال أحمد بعد أن أصبح إماما كبيرا: "إذا سئلت عن مسألة لا اعرف فيها خبرا (أي حديثا أو أثرا عن الصحابة) أخذت فيها برأي الشافعي."
وقد بلغ تقديره للشافعي أنه أنكر على شيوخه أن يكتبوا فقههم في كتب .. إلا الشافعي .. أنكر على مالك كتابة الموطأ وقال عنه: "ابتدع ما لم تفعله الصحابة رضى الله عنهم" وقرأ كتب شيخه أبي يوسف، وكتب محمد ابن الحسن، وأنكر عليهما أنهما كتبا فقههما .. وأبى على أصحابه أن يكتبوا آراءه أو فقهه هو نفسه .. ولكنه عندما وصله كتاب الرسالة الجديدة الذي وضعه الشافعي في مصر، وبهر بالرسالة، وقرأها على أصحابه .. وحضهم على تعلمها، واحتفظ بها في خزانة كتبه كما يصون كنزا .. وهكذا صنع مع كل كتب الشافعي التي وضعها في مصر، وهي كتب تأثر فيها الشافعي إلى مدى بعيد بفقه الليث بن سعد إمام أهل مصر. ولقد حمل أحمد عن الشافعي تقدير كبير للإمام الليث، فكان لا يذكره إلا بالتقدير.
وقد كان أصحاب أحمد يعرفون ميله للشافعي وإكباره إياه .. وكان هو يوصيهم بقراءة كتب الشافعي قائلا إنه "ما من أحد وضع الكتب منذ ظهرت اتبع للسنة من الشافعي". وكان الشافعي يبادله هذا التقدير، وقد عده الشافعي من العجائب: "ثلاثة من العلماء من عجائب الزمان: أعرابي لا يعرف كلمة وهو أبو ثور (وكان كثير اللحن)، وأعجمي لا يخطئ في كلمة وهو الحسن الزعفراني، وصغير كلما قال شيئا صدقه الكبار وهو أحمد ابن حنبل".
كما قال عنه الشافعي: "رأيت في بغداد شابا إذا قال!! قال الناس كلهم صدقت." قيل من هو قال: "أحمد بن حنبل" .. وقال عنه: "خرجت من بغداد، وما خلفت فيها رجلا افضل، ولا أعلم، ولا أفقه، ولا أتقى، من أحمد بن حنبل". وكان أحمد يضع شيخه في أعلى مكان، ويقول إن الله يبعث على رأس كل مائة عام إماما صالحا من عباده، يحيى به السنن ويرفع شأن الأمة، وقد كان عمر بن عبد العزيز على رأس المائة الأولى، وعسى أن يكون الشافعي على رأس المائة الثانية". على أن أحمد بن حنبل، منذ وقف يتدبر أحوال المسلمين، ويتلمس طريق الخلاص، ووسيلة لتحقيق مقاصد الشريعة، التمس طريقا يستنبط به الأحكام، فلم يجد افضل من أصول فقه الشافعي.
اجتمعت لأحمد خلال رحلاته عشرات الأحاديث النبوية، فأخذ يرويها للناس ويعمل بها .. وتأدب بأدب الرسول .. روى الحديث: "كل معروف صدقة ومن المعروف أن تلقي أخاك بوجه طلق" .. فكان لا يلقي الناس إلا مبتسما، ويقدمهم عليه إذا مشوا في طريق، أو دخلوا مكانا أو اصطفوا لصلاة الجماعة .. ويروي أحد أصحاب أحمد أنه دخل معه مكانا، فإذا بامرأة معها طنبور (آلة للعزف)، فكسر صاحب أحمد الطنبور، وسئل أحمد عن ذلك فيما بعد فقال: "ما علمت بهذا، وما علمت أن أحداً كسر طنبورا بحضرتي إلى الساعة". ذلك أن أحمد ترك المكان مستنكرا الأمرين جمعيا: عزف المرأة على الطنبور، وعدوان صاحبه عليها! .. فهو يكره لأصحابه أن يغلظوا، ويطالبهم حين يأمرون بالمعروف، أو ينهون عن المنكر أن يتبعوا سنة الرسول صلى الله عليه وسلم كما علمه الله تعالى:
{ ٱدْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ } (النحل،الآية:125) .
وكان أحمد يكره الشطرنج ويراه لهوا يصرف الناس عن جد الأمور فسمع أن صاحبا له دخل على جماعة، حول رجلين يلعبان الشطرنج فطوح به ونهر الجماعة، فغضب الإمام أحمد لما صنعه صاحبه بأصحاب الشطرنج..! كانت سماحته تسع الذين يسيئون إليه مهما تكن الإساءة فادحة! .. وشى به رجل إلى الخليفة، وزعم أن ثائرا علويا يختفي في داره .. ولو صحت الوشاية لقتل الإمام أحمد بإخفاء الثائر العلوي. فلما تبين للخليفة كذب الوشاية أرسل الواشي مصفدا إلى أحمد، ليفتي برأيه في عقابه فقال أحمد: "لعله يكون صاحب أولاد يحزنهم قتله!".
وهكذا أخذ أحمد نفسه بالتأدب بأخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم .. وكان يقول: "إذ أردت أن يدوم لك الله كما تحب، فكن كما يحب". إن أبرز ما يميزه لهو التواضع .. قال له أحد الناس "جزى الله الإسلام عنك خيرا فغشاه الحياء .. جزى الله الإسلام عني خيرا؟ ومن أنا؟! ومن أنا؟!". عرف شيوخه منه هذا التواضع منذ كان يطلب عليهم العلم، فأشادوا به.
ذات يوم ضاق أحد شيوخه بالطلاب في الحلقة، وغاظه عجزهم عن فهم الدرس، فصاح الشيخ: "ألا تفقهون؟" فقال الطلاب: "كيف لا نفقه وفينا أحمد بن حنبل". فقال الشيخ "أين هو؟" ودخل أحمد فقالوا: "هاهو ذا" وجلس أحمد حيث انتهى به المجلس كما تعود، وكما عاش يفعل إلى آخر العمر، فقال الشيخ لأحمد: "تقدم يا أحمد" فقال أحمد: "لا أخطو على الرقاب". فصفق الشيخ فرحا: "الله اكبر .. هذا أول الفقه".
على أن تواضع أحمد وحياءه لم يمنعاه من الجهر بالحق .. بل كان على النقيض شديد على الباطل، لا يبالي في ذلك لومة لائم .. لاحظ أن بعض الفقهاء يفضلون العباس على الإمام علي بن أبي طالب، نفاقا للخلفاء والأمراء من بني العباس .. وسمع أحمد بن حنبل، هذا الفقيه يذكر الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجه بما لا ينبغي، ويشكك في حقه في الخلافة، فأنبري أحمد يقول للفقيه على مشهد من الناس: "من لم يثبت الإمامة لعلي فهو أضل من حمار..! سبحان الله! .. أكان علي كرم الله وجهه يقيم الحدود ويأخذ الصدقة ويقسمها بلا حق وجب له!؟ .. أعوذ بالله من هذه المقالة .. بل هو خليفة رضيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلوا خلفه، وغزوا معه، وجاهدوا، وحجوا، وكانوا يسمونه أمير المؤمنين راضين بذلك غير منكرين، فنحن له تبع" .. ثم قال: "ما لأحد من الصحابة من الفضائل بالأسانيد الصحاح مثل ما لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه".
وعلى الرغم من أن أحمد بن حنبل كان يرى أول الأمر أن طاعة الخليفة واجبة وإن كان ظالما أو فاجرا، ألا أنه عدل عن رأيه عندما ما أنضجته التجربة فيما بعد .. فعاد واعتبر طاعة الخليفة الظالم لونا من النفاق يجب أن يبرأ منه المؤمن!
ذلك أنه سمع قصة عن شيخه عبد الله بن المبارك ظلت تضنيه إلى آخر العمر .. فكانت دموعه تفيض من الندم ومن الرحمة والإشفاق، كلما تذكر ما حدث لأستاذه عبد الله بن المبارك .. وهو الأستاذ الذي لزمه أحمد وإن لم يره قط .. فقد كان كلما لحق به في مكان ليسمع منه، وجده قد رحل عنه، حتى مات الشيخ، فلزم أحمد آثاره وفقهه وتتبع سيرته واهتدى بها، وسمع أحمد فيما سمع أن شيخه ابن المبارك مر وهو في طريقه إلى الحج بمزبلة قوم، فرأى فتاة تأخذ طائرا ميتا وتلفه، فسألها عن أمرها فقالت: أنا وأخي هنا ليس لنا شيء إلا هذا الإزار وليس لنا قوت إلا ما يلقي على هذه المزبلة، وقد حلت لنا الميتة منذ ثلاثة أيام (أي أن الجوع اضطرهما إلى أكل الميتة)، وقد كان أبونا له مال، فظلم وأخذ ماله وقتل .. فقال ابن المبارك لوكيله: "كم معك من النفقة؟". قال: "ألف دينار" فقال: "عد منها عشرين دينار تكفينا إلى مرو، وأعطها الباقي. فهذا افضل من حجتنا هذا العام"، ورجع..
ما ذكر أحم
ساحة النقاش