حب شم النسيم برائحة الفسيخ.. برواية يا ناس لمحمد الخميسي
أن يكتب كاتب مصري مسلم رواية ترصد إشكاليات تواجه الإنسان المصري المسيحي وينتقدها ويقدم رؤية كاملة بمنتهى الدقة، بهذا يعني أنه ذاب داخل تلك المسائل وتفاعل معها وشاهدها بعينه وسمعها بأذنه، وقد استعان "محمد الخميسي" بكلمات وسطور كاملة من الإنجيل ومن كلمات "السيد المسيح" لتوضيح وجهة نظر الدين المسيحي من كل مشكلة طرحها من خلال مواقف حياتيه يومية واجهات البطل "أمجد" خلال فترتي الطفولة والصبا.
وتدخل تلك النصوص الدينية المقتبسة في إطار المقدمات الذاتية من حيث هي من اختيار المؤلف نفسه، "مما يجعل وظيفتها الإجرائية متحققة داخل النسيج العام" [1].
# هل دين الإنسان عيباً؟!:
فيقول "أمجد" بطل الرواية (ص11): "...أجد زملائي المسلمين يخاطبونني بعبارة ظاهرها رحمة، لكن داخلها يسكن العذاب: (أنت ممتاز جداً وعظيم يا أمجد ولكن عيبك الوحيد إنك مسيحي) هل هذا يعقل؟ ألم يعلم هؤلاء أن ديني هو سبب كل نعمة أنا فيها؟ ألم يدرك هؤلاء أن ديني علمني محبة كل البشر حتى أعدائي".
ولكن يعتمد المؤلف على المفارقة والربط بين المتناقضات كأسلوب سردي، فكان دائما يجعل البطل "أمجد" يستعين بموقف أو عبارة حدثت بالماضي لقريب أو البعيد ترد على الموقف أو المشهد الصعب الذي يمر به، فيقول "أمجد": وكم من مرة جلست مع أخي "أحمد علي" وصارحته..وكان هو يهدئ من روعي: (أصبر يا أمجد..دي فترة وهتعدي.. وإن شاء الله كل اللي أنت خايف منه ده مش هيحصل أبداً). وعندما أرسل صديقه "عماد" من النمسا تذكرة للسفر إليه، فيكون رد "أحمد" عليه: "لو عملت كده وجريت ورا السفر لا أنت أخويا ولا أنا أعرفك..والتذكرة دي إحنا هنبعتها تاني لصاحبها ونشكره" (الرواية، الفصل الثالث، ص12).
# قادم وراحل.. أمجد وميشيل:
تدور أحداث فصل الرابع أواخر مارس 1966، وهي آخر أيام لـ "أمجد" داخل بطن أمه "هدي ميشيل" المنتفخة المكورة، فقد تنبأت "الداية" أنها على وشك أن تضع مولودها خلال أيام قليلة جداً.
محتويات الغرفة:
<!--سرير نحاسي مرتفع القوائم.
<!--غطاء خفيف.
<!--تسريحة من طراز "ملاك".
في الساعات والليالي الأخيرة من عمر الجنين "أمجد" داخل بطن أمه تتذكر أبيها الأستاذ "ميشيل" الذي توفى وهي لم تكمل العاشرة:
<!--كان يأخذها إلى الكنيسة وتضع أصابعها الصغيرة في حضن كفه الكبير.
<!--كان طويلاً جداً، مفرود القامة.
<!--كان يرجّل شعره للوراء وقد لوّن الشيب جانبيه، فيزيده اللون الأبيض وقاراً وجمالاً.
<!--يوم رحيل الأب (اليوم المشئوم بعدها لم تره ثانية): كان يقودها إلى مدرستها لأداء امتحان نصف العام، فرجعت من الامتحان فلم تجد أحداً بالبيت فأخبرها الجيران أنهم جميعا مع أبوها في المستشفى، ولكن انقضى اليوم ولم يرجع.
<!--كانت ابتسامة أخيها "عزيز" عزاءها وأنيسها..فقد ورث عن والده نفس ملامحه.
# عند الفسخاني كان اللقاء الأول:
بدأ الكاتب في هذا الفصل وصف الأم الظاهري الجسدي وما جعل أبوه يتزوجها، ومتى وأين كان اللقاء الأول بينهما؟، فكانت "هدى ميشيل":
<!--تبلغ ست وعشرين سنة.
<!--ممرضة بالمستشفى العام.
<!--بنت موظف مصلحة البريد التي تقطن مع أسرتها في حارة "العدوي" بحي "الشيخة عائشة".
<!--تسوى شعرها الضارب في السواد وتضمه خلف رأسها.
<!--عينين سوداوين جميلتين تفيضان حناناً، ووجها مليحاً يميل إلى السمار..
<!--ترسم ابتسامتها التي دائماً ما تواجه بها واقعها الحالك، لكنها ظهرت باهتة.
<!--الجمال غير المروض، كما وصفها "كمال" (ص16).
<!--كل هذه الملامح هي التي جذبت إليها قلب "كمال" ابن الوجيه الثري وصاحب السيارة الأسبور، وجعلته يصرّ أن يتزوجها رغم كل شيء.
<!--رآها "كمال" أول مرة في محل الفسيخ الشهير بشارع "الشيخة عائشة" والذي وصل صيته أرجاء المنصورة، وتعود أن يأتيه كل عيد في شم النسيم يشتري لعائلته ما يلزمهم لقضاء اليوم بـ "رأس البر". لحظتها كان يسأل صاحب المحل عن صالون للحلاقة فقد طالت ذقنه، وكانت "هدى" مع أمها، فقال الفسخاني: (مع أم عزيز يا كمال بيه وهي هتدلك"، ساروا حتى دخلوا حارة "العدوى" فأوقفته أمام صالون ابنها "عزيز ميشيل" ثم استأذنت منه. كان "عزيز" فناناً في قص الشعر. والشوارع عند "حسن بحراوي" كما الأحياء "أماكن انتقال ومرور نموذجية فهي التي ستشهد حركة الشخصيات وتشكل مسرحاً لغدوها ورواحها عندما تغادر أماكن إقامتها أو عملها" [2].
<!--كانت "هدى" طوال الطريق من الفسخاني إلى صالون الحلاقة لأخيها عزيز يمنعها تحفظها أن تبادله المجاملة، لكنه كان يختلس إليها النظر بطرف عينه.
<!--كانت "هدى" تطل عليه من شرفة بيتهم المقابل للصالون.
# "كمال" الشاب/الخطيب/الأب:
<!--ابن الوجيه الثري وصاحب السيارة الأسبور.
<!--شعره الأشقر ووجهه المستطيل وشاربه الرفيع وعينيه الخضراوين، عوده رياضي، يتعطر بعطر رجالي يظل عالق بالأنف.
<!--لم تكن "هدى" من نفس طراز "كريستينا" أو "ميرنا" صديقتيه الحاليتين. وهو يعلم جيداً أنها لن تسمح له أن يتسلى معها، ولن توافق أبداً على علاقة كمثل علاقاته مع بقية صديقاته، وخصوصاً بعدما اخترق بيئتها الشعبية المحافظة. وقد اهتم الدارسون "بالمكان كوعاء يحتوي الزمن، وكمركزية يمكن للخيال والذاكرة الانطلاق منها للامساك بتلك اللحظات الغامضة التي تتشظى فيها الذات وتتصدع في سعيها لامتلاك الوعي بالعالم والأشياء، ومجمل العلاقات الأنطولوجية التي تتشابك في النسيج الجمالي.." [3].
<!--ظلت عيناها الجميلتين تناديه وتفاجئه وهو جالس مع أصدقائه بالنادي الاجتماعي.
# ردود الأفعال حول رغبة "كمال" خطبة "هدى":
<!--أبوه الدكتور "غبريال": "كلام إيه دا يا ولد؟ مش لاقي غير دي تخطبها؟ عاوز تبطل الهلس بتاعك مافيش مانع.. لكن تخطب؟ تعالى أخطب لك بنت الدكتور "موريس" هي دي اللي تليق بينا".
<!--أمه بنت الحسب والنسب "نرجس هانم" ساندت زوجها: "أنت كمال اللي أجمل بنات البلد وأغناهم تتمناك..يكون نصيبك مع بنت من عيله زي دي.. انا مش موافقة أبدا".
<!--أخته "ميريت" حاول "كمال" أن يستجير بها، إلا أنها لزمت الصمت.
<!--بينما يقول "كمال" عن "هدى": "البنت دي خام ومؤدبة وهأخطبها يعني هأخطبها" (الرواية، الفصل الخامس، ص17). وقد قال تلك العبارة وهو يصيح وصوته يملأ فضاء الصالة الفسيحة وهو يجذب باب الشقة خلفه، وهذا معناه أنه سوف يفعل ما برأسه رغم كل هذا الرفض الواضح من كل أفراد الأسرة.
----------
الهوامش:
[1] شعيب حليفي: هوية العلامات في العتبات وبناء التأويل، المجلس الأعلى للثقافة، ط1، القاهرة، 2004، ص56.
[2] حسن بحراوي: بنية الشكل الروائي (الفضاء، الزمان، الشخصية)، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، بيروت-الدار البيضاء، 1990، ص79.
[3] معاوية بلال: قراءة في إستراتيجية المعنى المكاني في القصة السودانية، نادي القلم السوداني www.nizwa.com
بقلم:
الكاتب والناقد/ محمود سلامة الهايشة
Writer and critic / Mahmoud Salama El-Haysha
-------------
# للمزيد من القراءة عن الرواية:
<!--يا نااااس..رواية من واقع الحارة المصرية..للكاتب محمد الخميسي: http://kenanaonline.com/posts/601426
<!--ملوخية وخمسة قروش..برواية يا نااااس لمحمد الخميسي: http://kenanaonline.com/posts/602261
· التكفير والهجرة& التفكير في الهجرة برواية يا ناس لمحمد الخميسي: http://kenanaonline.com/posts/602722
ساحة النقاش