سناء أبو شرار تكتب: فن الرواية العربية الحديثة: السمات الأسلوبية والملامح الفكرية .. تأليف المهندس محمود سلامه الهايشه
من خلال كتاب المهندس محمود الهايشة تم استعراض تجربة عدة روائيين ومفكرين حول الرواية وفلسفة الرواية وواقعيتها وصلتها بنفسية الكاتب وثقافته بل وتجاربه الشخصية وقد اتخذ الكاتب فؤاد قنديل كنموذج رئيسي في الكتاب. نقرأ في الكتاب ذلك التحليل المنطقي المتسلل المتتبع لتجربة الكاتب فؤاد قنديل ليس ككاتب فقط بل ككاتب له مراحل تطور ونضوج في حياته الخاصة وفي تطور أسلوبه الروائي.
وإن كان هدف هذا المقال هو تقديم تحليل موجز عن الكتاب فإن كتاب المهندس محمود الهايشة أوسع وأعمق من أن يُكتب عنه صفحة او صفحتين؛ لأن الكتاب بحد ذاته كتاب تحليلي دقيق بكل الأبعاد لعالم الرواية ولنفسية كاتب الرواية ولا يمكن لقارئ عادي أن يكتب مثل هذا الكتاب، فقط قارئ نهم يمكنه كتابته والغوص بعيداً في عوالم الرواية المتعددة، لذلك هذا المقال لا يكتب فقط نظرتي للكتاب ولكن أجد أن القارئ سيجد ثراءً أكبر وبعداً شاملاً عن الكتاب من خلال اقتباس بعض ما ورد به من ملاحظات واقتباسات وتحليلات وتصنيفات وكذلك عناوين جديدة في عالم نقد الرواية مثل دور الطير والحيوان والأرقام، الأفلام، الأسماء ، وهو نمط غير تقليدي في عالم النقد ، لذا وقبل التطرق لموضوع الكتاب لابد من استعراض بعض نقاطه الرئيسية:
-يقول الكاتب في الصفحة 7: (تحتاج الكتابة – المطلقة – عن الرواية المعاصرة في العالم العربي، إلى عشرات الباحثين، والعديد من المجلدات) ويقدم الكاتب في هذا الكتاب جزء من جهده الشخصي والثقافي في استعراض أعمال عدد من الكتاب مثل: محمد عبد الدايم الرزيقي (رواية أبو حطب) الذي يعتبر المكان هو البطل الرئيسي في روايته
-فؤاد قنديل: كمحور ارتكاز للكتاب (كأن قنديل المقياس الذي نقيس عليه أعمال الكُتّاب المحدثين) واعتبار أن روايات قنديل هي عمل فكري وانساني يحمل الكثير من الآراء الفلسفية لقضايا المجتمع والواقع الإنساني.
-اختار المؤلف السيرة الروائية للكاتب فؤاد قنديل في كتابه (المفتون) الصادرة عن دار الهلال عام 2008 حيث يصف الكاتب فؤاد قنديل مسرته الأدبية في صباه وشبابه (لأنه ينقل لنا بدقة وقائع حياة حقيقية أخصب من الخيال) كما كتب المؤلف محمود الهايشة تعليقاً على الكتاب في صفحة 34 . وورد في الصفحة 35 من الكتاب (قنديل كتاباً مفتوحاً للجميع، ورواية تمشي على الأرض، يستطيع أي انسان مشاهدتها وقراءتها ويفهمها بسهولة ويسر).
-يقول الكاتب فؤاد قنديل في روايته المفتون صفحة 67 :(ضع هدفك نصب عينيك وتجاهل تماماً ما عداه)
ثم ينتقل الكاتب إلى تفصيل دقيق لشخصيات رواية المفتون للكاتب فؤاد قنديل ويتحدث عن المكان من حيث كونه دائماً البطل: الكاتب ممدوح عبد الستار في قصة "صاحبي" المنشورة في المجلة العربية عام 2016.
-الكاتب غالب هلسة في كتابه (جماليات المكان) الذي ورد به عن "غاستون باشلار": (أن المكان في مقصورته المغلقة التي لا حصر لها، ويحتوي على الزمن مكثفاً...هذه هي وظيفة المكان).
-الكاتب الصادق قسومه في كتابه (طرائق تحليل القصة) ورد به: (يعمد أهل القصص الذهني أو النفسي إلى "الترفع" عن عالم الأشياء الواقعية وإلى ربط الأماكن وصفاتها بعالم الفكر والثقافة من جهة وبأغوار النفس من جهة أخرى، فتكون سمات المكان – في هذه الحالة – نائية عن الواقع، حبلى بالأبعاد، مشحونة بإيحاءات وأبعاد متباينة).
-مدلولات الأرقام في العمل الروائي:
يورد المؤلف نموذجاً عن مدلولات الأرقام اقتباساً من مراد عبد الرحمن مبروك: بناء الزمن في الرواية المعاصرة عام 1998 بقوله: (والحياة ما هي إلا أرقام يكون حاصل جمعها عمر إنسان ما في زمنٍ ما! يتقاطع مفهوم الزمن الأدبي مع مفهوم الزمن النفسي أو مفهوم الزمن الفلسفي)
-يقول المؤلف في صفحة 107 من كتابه: (النقد تحليل العمل الأدبي إلى عناصره الأولى وإبراز مدى توفيق الكاتب أو فشله في مزج هذه العناصر كي تمنح تأثيرها الجمالي النهائي من خلال التجربة النفسية التي تتشكل داخل وجدان القارئ، فإذا كانت هناك علاقة بين علم النفس والنقد الأدبي فيجب أن تنصب على التأثيرات التي يمارسها العمل الأدبي على نفسية القارئ وليس على شرح نفسية الكاتب).
-كتب المؤلف في الصفحة 112: (اسم الشخصية مظهراً من المظاهر الجمالية للقصة، يتوقف عنده القارئ باحثاً عن علاقته بالشخصية وأفعالها وانتمائها، يحمل دلالة لا تقل أهمية عن دلالة الشخصية نفسها، فالاسم غالباً ما يكون متفرداً يمنح صاحبه تميزه، فالشخصية لا تعرف من خلال أفعالها وعلاقاتها بغيرها فحسب، بل يساعد اسمها-إن وجد- على توصيفها وتقريبها من القارئ.)
-استدعاء مشاهد من الأفلام السينمائية المصرية للمقاربة الروائية:
ويذكرنا الكاتب بأن هذه الأفلام كانت روايات مكتوبة قبل أن تتحول إلى أفلام وأن هذه الأفلام أحد أدوات الكتابة التي تساعده في إيصال فكرته، وأنه جزء من ثقافة الكاتبة المرئية حتى لو لم يقرأ الرواية ككتاب، وأن السينما أحد روافد الحياة الثقافية للكاتب وللشعوب.
-عالم الحيوان والطير:
هم أيضاً لهم دور في الروايات وفي الأدب بشكل عام فيصف الكاتب الهدهد وصفاً جميلاً في الصفحة 159بما يلي:
(معتدٍ بنفسه، وإحساسه الزائد بالكرامة، الرشاقة والجمال، غرابة التشكيل في الرأس والجسد واللون، الحساسية المرهفة لكل صوت وحركة، حركاته التي لا تكاد تلمس الأرض).
الإنسان ابن البيئة، إدراكاً وإحساسا وهوية:
-الكاتب أيمن محمد رضوان في مقاله المنشور بمجلة العربية عام 2016 يجيب على عدة تساؤلات منها: (أيهما أكثر التصاقاً بحياة الإنسان بالأعمال الروائية...الزمان أم المكان؟ من خلال علاقة الإنسان بماذا...يتحقق وجوده وإحساسه بذاته؟ ما هي الفروق بين المكان الواقعي والمكان الروائي؟ هل للمكان في السرد الوصفي بالرواية أنواع؟)
-ويخلص المؤلف في نهاية كتابه إلى النتيجة التالية: (فالكتب الروائية لم تُكتب لملأ الأوراق وطباعة الكتب ثم بيعها وشرائها، ثم قراءتها من أجل التسلية وإضاعة الوقت، بل من أجل نقل الخبرات والتجارب والمواقف الإنسانية عبر الرواية لتوثيق الزمان والمكان وكافة المخلوقات التي حضرت هذا الموقف أو ذاك المشهد حتى الجماد الشاهد عليه.)
عدد صفحات الكتاب 185 صفحة، ولكنه رحلة بعيدة ولها أشواط متعدد أدبياً وثقافياً وفنياً، وكذلك جاذبية تحليلية دقيقة نادرة في زمن نقرأ به الكتب دون التوقف على كل كلمة بها أو كل موقف أو اسم أو لون؛ الكاتب محمود الهايشة مزج عناصر غنية ومتعددة في كتابة وربما يصلح موضوع هذا الكتاب لرسالة دكتوراة لأنه تطرق إلى أبعاد غير مألوفة كما ذكرت سابقاً من حيث دور الحيوان، الأفلام، الأسماء، الأرقام.
مثلما يستمتع القارئ بقراءة رواية بمستوى لائق بذكائه وثقافته فإن الكاتب يستمتع بقراءة نقداً أدبياً يحلل الرواية ويُفكك أجزائها، فالكاتب حين يكتب لا ينتبه لهذا التحليل الدقيق لاختلاط الخيال والقصة والسرد ثم عاطفة الكتابة الجياشة لديه بعيداً عن التحليل لمكان الرواية ولكل ما ورد بها من تفاصيل تبدو بالنسبة له بديهية بينما للناقد هي تمعن عميق في النص الأدبي والبعد الفلسفي والنفسي والثقافي للكاتب.
وأحياناً يكون دور الناقد أهم من كتابة الرواية، لأن الناقد يرى الأدوات والأسلوب وكيفية صياغة الرواية، ومثل أي صناعة فنية حرفية إبداعية، فهذا الإبداع يجرف المُبدع إلى عالمه الداخلي، بينما النقد يتمعن بالعمل الإبداعي من كل الزوايا والأبعاد الداخلية والخارجية، فالكاتب يسبر أعماق الرواية والناقد يحدد أوصافها ويرصد أبعادها بل وأحياناً يرى ما لا يرى الكاتب في روايته الخاصة.
يبدو التآلف واضحاً بين مؤلف هذا الكتاب وجميع الروائيين والمفكرين الذين كتب عنهم، فأحياناً النقد يفتقد لهذه الألفة ربما لعدم الفهم العميق وربما لتعارض الآراء، فيقف القارئ بحيرة من امره من النقد الفاقد لهذه الألفة، بينما في هذا الكتاب نشعر بالعلاقة المتينة والشعور العميق تجاه من تم الكتابة عنهم، إنه أسلوب دقيق وحرفي ولا يتقنه جميع النقاد؛ كما أن الجهد المبذول في التحليل والتعمق بكل نواحي الرواية هو إثراء للكاتب المتمرس وإرشاد للكاتب المبتدئ.
بضعة صفحات لا تفي هذا الكتاب حقه ولكن ما يمكن قوله بنهاية هذا التعليق أو الاستعراض لكتاب المهندس محمود الهايشة بأنه قدم تصويراً وفهماً وتحليلاً بشكل شبة كامل لعالم الرواية والتي اعتبرها في كل صفحة من كتابه امتداداً للحياة الواقعية للقارئ وأنها لا تنفصل عن حياته فمثلما أن الرواية جزء من حياة الكاتب فهي أيضاً مرآة لحياة القارئ، وكلما زاد صفاء هذه المرآة يمكن اعتبار أن هذه الرواية ناجحة، لأن قيمة الرواية تتمثل ليس فقط بإطراء النقاد لها ولكن أيضاً بل وربماً أولاً بمدى ما عكسته في نفس القارئ من مشاعر أو أفكار وبمدى قربها من واقعة وايضاً بقدرتها على تقديم الحلول له أو الانسحاب ولو لدقائق من واقع صعب لا يستطيع التفلت منه سوى عبر صفحات رواية تأخذه بعيداً لعالم يحلم به أو عالم ينتشله من أمواج حياته اليومية.
بقلم
الكاتبة والروائية العربية / سناء أبو شرار
ساحة النقاش