"تغلبوا على غلاء أسعار الحديد ومواد البناء بالمنازل الخشبية".. عنوان تناقلته منتديات الإنترنت لفكرة البناء باستخدام الخشب التي ينفذها المهندس المصري رأفت إبراهيم ببعض المدن الجديدة.
الانطباع الأول الذي أخذته عند قراءة الموضوع أنه "كلام منتديات" لا يمكن الوثوق به، لكن زيارة الموقع الذي يعمل به المهندس المصري بإحدى المدن الجديدة بمصر غيرت من رأيي تماما، لأجد نفسي في نهاية الزيارة ضاربا كفا على كف متسائلا: إذا كانت هذه الفكرة بالشكل الذي رأيته، لماذا نرضى لأنفسنا بأن نقع تحت رحمة محتكري الحديد ومواد البناء؟
لم يكن الوصول للمهندس رأفت بالأمر الصعب، فيكفي أن تقول مهندس المنازل الخشبية، لتجد أكثر من دليل يقودك إلى موقع عمله.
كانت الصورة الذهنية المطبوعة في الذهن قبل الذهاب هي تلك الصورة النمطية لمواقع العمل في الإنشاءات، والتي تتلخص مفرداتها في كميات من الحديد وأكوام الرمل والزلط، وعبوات الإسمنت، وعمال يخلطون هذه المواد مع بعضها لإنتاج الخرسانة، لكن ما إن تطأ قدمك أرض الموقع حتى تكتشف أن الصورة مختلفة تماما.
فمفردات المشهد الجديد تتلخص عناصره في ألواح من الخشب، وأدوات لتقطيع الأخشاب، وانعكست طبيعة هذه العناصر على الصورة المكملة له وهم العمال، الذين كانوا يرتدون الملابس الشبابية "الكاجول".
العمال من جنس المبنى
رسم هذا المشهد -الذي صافح عيني فور زيارتي للموقع- ابتسامة ساخرة، لقطها المهندس رأفت، وقبل أن أحدثه عن مبرراتها، قال: "كل من يزور الموقع ترتسم على وجهة نفس الابتسامة، فعمالنا من جنس المبنى الذي نبنيه".
وأضاف: "إذا كانت الملابس (الكاجول) ترمز إلى الانطلاق والحيوية، فإن المنازل الخشبية تحقق نفس الهدف".
ووفقا لدراسات علمية نفسية، كان يحمل ملخصات لها في حقيبته، فإن الإقامة بهذه المنازل تشعر بالانطلاق والراحة النفسية، وذلك للخصائص التي يتمتع بها الخشب من حيث الرائحة الذكية، وترطيب الجو داخل الغرفة لخواصه المنظمة للرطوبة، كما أنه يتمتع بصفات المواد العازلة من حيث القدرة على امتصاص الأصوات.
ليست اختراعا
"ولكن لا يمكن التضحية بعوامل الأمان، في سبيل تحقيق الراحة النفسية".. كانت هذه الملاحظة ضرورية بعد أن أسهب المهندس رأفت في الإشادة بالمنزل الخشبي من الجانب النفسي.
غير أنه قبل أن يستفيض في الرد، قال متحمسا: "نحن لا نأتي باختراع جديد، فهي فكرة موجودة منذ أكثر من 400 سنة بالخارج، بل استخدمت في منازل قديمة ومبان حكومية بمصر، وأنا أحاول فقط إحياءها بأساليب علمية متطورة تعلمتها في أمريكا".
ويحمل المهندس رأفت الرخصة الدولية للبناء من أمريكا، ويبني تلك المنازل وفقا للمعايير المعمول بها هناك، وهو ما يراه سببا كافيا لبث الطمأنينة في النفوس حيالها.
ويقول: "أنا أبني بمواصفات تجعل المنازل تتحمل أعتى الأعاصير وتساقط الثلوج، كما في أمريكا، فما بالكم كيف تكون متانتها عندما تبنى في منطقة حماها الله من هذه الظروف البيئية".
الخشب الفنلندي
ويستخدم في عملية البناء الخشب الفنلندي الذي تتم معاملته بمواد عازلة من الصوف الزجاجي والجبس، ليكون كالحوائط الحاملة، ولكن بلا خرسانة.
ويعطي الخشب بهذه الطريقة متانة أكبر من الحديد، يبرهن عليها المهندس رأفت بالحريق الذي شب في مجلس الشورى المصري العام الماضي.
ويقول: "لولا أنه مبني بهذه الطريقة لكانت الكارثة أكبر".
ويوضح المهندس المصري الفرق بين المنازل الخشبية، وتلك التي تستخدم الحديد في حالة الحريق، مشيرا إلى أن حدوث انصهار للحديد في أي جزء من أجزاء المبنى بفعل الحرارة الشديدة قد يستدعي هدم المبنى كاملا لإعادة بنائه مرة أخرى.
أما الخشب المعالج بمواد غير قابلة للحريق، فإن النيران لا تسبب تآكل الخشب، فهي فقط قد تشوه شكله، ومن ثم فإن علاجها بسيط، وهذا ما حدث في مجلس الشورى؛ حيث تم إصلاح أضرار الحريق في أربعة أشهر فقط.
منازل مرنة
وكما تتميز تلك المنازل في تعاملها مع الحرائق، فإنها متميزة -أيضا- وقت الزلازل، فإذا كانت الزلازل القوية وقت حدوثها تؤدي لانهيار المباني المسلحة كاملة، فإنها إن أثرت على المباني الخشبية فستكون في أجزاء بسيطة يمكن علاجها.
ويرجع المهندس رأفت ذلك إلى المرونة التي تتمتع بها هذه المباني، والتي تجعلها قادرة على امتصاص الصدمات.
وعن الفرق بينها وبين المنازل التقليدية في التشطيبات الداخلية والخارجية، فيشير إلى إمكانية طلاء حوائطها الداخلية بأي دهان يرغبه صاحب البيت، أما الواجهات الخارجية فيمكن التحكم فيها وبناؤها على الهيكل الخشبي، سواء بالطوب الملون أو الحراري أو أية خامات أخرى.
أما عن السباكة والكهرباء فهي مختلفة في الأسلوب المتبع؛ حيث تركب الوصلات الكهربائية الأرضية على جميع المفاتيح؛ مما يقلل من خطورة الكهرباء، أما السباكة فيتم تصميمها وفقا للنظام العالمي الذي يعتمد على التهوية للتخلص من الروائح الكريهة.
زبائني من القادرين
وبرغم كل هذه المزايا، فإن هذه المنازل أرخص تكلفة في بنائها من التقليدية بمعدل يزيد على النصف؛ حيث لا تزيد تكلفة بناء المتر شاملة التشطيب عن 600 جنيه.
لكن مع ذلك، فإن أكثر الفئات التي تطلب بناءها هي الفئات القادرة ماديا، والتي شاهدت منازل شبيهة عند زيارتها للدول الأوروبية، ويقول المهندس رأفت: "كنت أطمح أن أبني منازل الشباب في المشروعات القومية بهذه الطريقة، لكن اصطدمت بالثقافة العربية التي لا تزال ترفض هذا الشكل من الإسكان".
وأصابت هذه الثقافة المهندس رأفت ببعض الإحباط عندما بدأ عمله بمصر عائدا من أمريكا التي قضى بها أكثر من 20 عاما، لكنه مؤخرا بدأ يشعر بتقبل فكرة الإسكان بهذه المنازل، حتى إنه قام باستخدامها في بناء مسجد تسلمته وزارة الأوقاف المصرية.
ويؤكد أن المستقبل لهذه المنازل بعد تصنيف منطقة الشرق الأوسط، كمنطقة زلازل، وهو ما يتطلب من الحكومات العربية أن تهتم بزراعة الأشجار اللازمة لاستخدامها في البناء.
ويتوقع المهندس رأفت أن تنخفض تكلفة هذه المباني بمعدلات كبيرة إذا أنتجت الأخشاب محليا؛ حيث إنه يعتمد على أخشاب مستوردة.
وتحتاج هذه المباني إلى عمالة مدربة بمواصفات مختلفة، ويفضل خريجو الجامعات؛ لأنها تعتمد على الجانب الفني أكثر من العمل العضلي.
ويؤكد المهندس رأفت قدرته على تدريب شباب في هذا المجال، بحيث يستطيعون في زمن قياسي بناء منازل بنسبة 75%، وتكون النسبة المتبقية لأمور فنية تحتاج وجود مهندس متخصص.
حازم يونس
المصدر: إسلام أون لاين
ساحة النقاش