عقبة بن نافع.. فاتح إفريقية ... بقلم: د. عماد عجوة
هذه سيرة واحد من القادة العرب والفاتحين لبلاد الله مهَّد الله به الطريق لنشر دعوته، وكان نعمة من النعم التي منَّ الله بها على المسلمين، وأيَّد بها جانب الدين، فحقق الله على يديه نشر الإسلام في الشمال الإفريقي، وأعاد بجهاده في إفريقية أمجاد اليرموك والقادسية، ويعتبر آخر مَن ولي المغرب من الصحابة، هو عقبة بن نافع بن عبد قيس بن لقيط بن عامر بن أمية بن الضرب بن الحارث بن فهر
.
عقبة بن نافع مولده ونشأته
ولد عقبة بن نافع قبيل عام واحد من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لذلك فقد ولد عقبة ونشأ في بيئة إسلامية خالصة، وهو صحابي بالمولد؛ حيث إنه عاش في صباه ردحًا من الزمن يحضر مجالس الرسول صلى الله عليه وسلم، وله صلة قرابة للصحابي الجليل عمرو بن العاص من ناحية الأم، وقيل إنهما ابني خالة.
صفاته وشيء من عبادته
كان عقبة بن نافع مثالاً في العبادة والأخلاق والورع والشجاعة والحزم والعقلية العسكرية الإستراتيجية الفذة، والقدرة الفائقة على القيادة بورع وإيمان وتقوى وتوكل تام أحبه رجاله وأحبه أمراء المؤمنين، وكان مستجاب الدعوة، ميمون النقيبة، مظفر الراية، فلم يهزم في معركة قط، طبق في حروبه أحدث الأساليب العسكرية في تكتيكات القتال.
القيادة والجندية في شخصية عقبة
إلى جند الله المسلمين الصادقين، الداعين إلى الله على بصيرة والمجاهدين لنصرة شريعته وإعلاء كلمته أدعوهم لمعرفة القيادة والجندية من موقف أبو المهاجر بن دينار وعقبة بن نافع لمعرفة القيادة والجندية كيف تسمو على المطامع الشخصية، فعندما جاء الأمر من خليفة المسلمين معاوية بن أبي سفيان بعزل عقبة بن نافع عن ولاية إفريقية، وتولية رجل من جنوده اسمه أبو المهاجر دينار، هل تمرّد؟ هل امتنع أو حتى تذمر؟ كلا والله، امتثل عقبة فورًا للأمر وانتظم في سلك الجندية.ولم يمض كثيرًا من الوقت حتى عاد عقبة بن نافع إلى قيادة الجهاد ببلاد المغرب، بعد وفاة الخليفة معاوية، فعينه الخليفة يزيد بن معاوية على إفريقية، وانتقل أبو المهاجر في صفوف الجنود مجاهدًا مخلصًا، وقرر عقبة بن نافع استئناف مسيرة الفتح الإسلامي من حيث انتهى أبو المهاجر، وهكذا نرى خير الأمة ينتقل الواحد منهم من الرئاسة إلى عامة الجند بمنتهى اليسر والسهولة، بلا مشاكل أو اعتراض، وبلا أحقاد وأضغان، وذلك لأن الكل يبتغي مرضات الله ولا يريد شيئًا من عرض الدنيا الزائل، إنهم رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فلا المناصب تبهرهم ولا الدنيا تفتنهم ولا الأحقاد تعرف إلى قلوبهم طريقًا، إنهم خالصون مخلصون لا يريدون إلا وجه الله، وبهذه النفوس الصادقة والقلوب المؤمنة والعزائم الفائقة انتشر الإسلام في ربوع الأرض.
عقبة بن نافع خطيبًا
كان عقبة بن نافع خطيبًا بارعًا عباراته فائقة تلخص رسالة المجاهد في سبيل الله، فخطب في جيشه أثناء تحركه لفتح طنجة قائلاً: "أيها الناس إن أشرفكم وخياركم الذين رضي الله تعالى عنهم وأنزل فيهم كتابه، بايعوا رسول الله بيعة الرضوان على قتال من كفر بالله إلى يوم القيامة، وهم أشرفكم والسابقون منكم إلى البيعة، باعوا أنفسهم من رب العالمين بجنته بيعة رابحة، وأنتم اليوم في دار غربة وإنما بايعتم رب العالمين، وقد نظر إليكم في مكانكم هذا، ولم تبلغوا هذه البلاد إلا طلبًا لرضاه وإعزازًا لدينه، فأبشروا فكلما كثر العدو كان أخزى لهم وأذل إن شاء الله تعالى، وربكم لا يسلمكم فالقوهم بقلوب صادقة، فإن الله قد جعل بأسه على القوم المجرمين"، وبهذه الكلمات الموجزة استثار عقبة حمية رجاله، وأعطى درسًا بليغًا للأجيال من بعده عن حقيقة دعوة المجاهد.عندما وصل بخيله إلى المحيط الأطلنطي اخترق عقبة بفرسه ماء المحيط, ثم قال بقلب المؤمن الصادق الغيور: "يا رب لولا هذا البحر لمضيت في البلاد مجاهدًا في سبيلك، اللهم اشهد أني قد بلغت المجهود، ولولا هذا البحر لمضيت في البلاد أقاتل من كفر بك حتى لا يعبد أحد دونك".
بروزه مبكرًا على ساحة الجهاد
برز اسم عقبة بن نافع مبكرًا على ساحة أحداث حركة الفتح الإسلامي، فبلغ بجهاده ما بلغ خالد بن الوليد وسعد بن أبي وقاص وعمرو بن العاص، فشارك في فتح مصر سنة 21هـ، أي في وقت كان عمر عقبة نيف عن العشرين سنة أو يفوقها بقليل، حيث اشترك هو وأبوه نافع في الجيش الذي توجه لفتح مصر بقيادة عمرو بن العاص.ولقد توسم فيه عمرو أنه سيكون له شأن كبير ودور في حركة الفتح الإسلامي على الجبهة الغربية، لذلك أسند إليه مهمة صعبة وهي قيادة دورية استطلاعية لدراسة إمكانية فتح الشمال الإفريقي، ثم جعله عمرو بن العاص واليًا على إقليم برقة على الرغم من وجود العديد من القادة الأكفاء والصحابة الكبار، مما يدل على نجابة هذا البطل الشاب.كما أرسل عمرو بن العاص والى مصر البطل الشاب عقبة بن نافع إلى بلاد النوبة لفتحها، فلاقى هناك مقاومة شرسة من النوبيين، ولكنه مهد السبيل أمام من جاء بعده لفتح البلاد، ثم أسند إليه عمرو مهمة في غاية الخطورة، وهي تأمين الحدود الغربية والجنوبية لمصر ضد هجمات الروم وحلفائهم البربر.وفي أثناء الفتنة التي وقعت بين سيدنا علي أبن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان نأى عقبة بن نافع بنفسه عن أحداثها، وجعل شغله الشاغل الجهاد في سبيل الله ونشر الإسلام بين قبائل البربر ورد هجمات الروم، فلما استقرت الأمور وأصبح معاوية خليفة للمسلمين، أصبح معاوية بن حديج واليًا على مصر، وكان أول قرار أخذه هو إرسال عقبة بن نافع إلى الشمال الإفريقي لبداية حملة جهادية قوية وجديدة لمواصلة الفتح الإسلامي، واستطاع عقبة وجنوده أن يطهروا منطقة الشمال الإفريقي من الحاميات الرومية المختلفة ومن جيوب المقاومة البربرية المتناثرة.
أنشاء مدينة القيروان مسجدها الجامع
أنشأ القائد المسلم عقبة بن نافع مدينة القيروان عام 50هـ/ 670م، وكان هدفه من هذا البناء أن يستقر بها المسلمون، إذ كان يخشى إن رجع المسلمون عن أهل إفريقية أن يعودوا إلى دينهم، وقد اختير موقعها على أساس حاجات إستراتيجية واضحة، فقد ذكر عقبة: "... إن أهل هذه البلاد قوم لا خلاق لهم إذا عضهم السيف أسلموا، وإذا رجع المسلمون عنهم عادوا إلى عاداتهم ودينهم ولست أرى نزول المسلمين بين أظهرهم رأيًّا وقد رأيت أن أبني ها هنا مدينة يسكنها المسلمون فاستصوبوا رأيه..."، وقد اختار لها موضعًا بعيدًا عن البصر في وسط البلاد ولئلا تمر عليها مراكب الروم فتهلكها.وقد لعبت مدينة القيروان دورًا رئيسيًّا في القرون الإسلامية الأولى، فكانت العاصمة السياسية للمغرب الإسلامي، ومركز الثقل فيه منذ ابتداء الفتح، كما كانت القيروان سدًّا منيعًا يحول دون تسرب الخطر الشيعي.واعتبر المؤرخون أن إنشاء مدينة القيروان يمثل بداية تاريخ الحضارة العربية الإسلامية في المغرب العربي، فلقد كانت المدينة تلعب دورين هامين في آن واحد هما الجهاد والدعوة، فبينما كانت الجيوش تخرج منها للغزو والفتح، كان الفقهاء يخرجون منها لينتشروا بين البلاد يعلمون العربية وينشرون الإسلام، وقد كان لهذه المدينة منزلة دينية عظيمة في نفوس المسلمين وكانوا يعتبرونها مدينة مقدسة ولا يدخلها غير المسلمين، وقد دعا عقبة بن نافع الله سبحانه وتعالى لمدينته: "... اللهم أملأها علمًا وفقهًا، وأعمرها بالمطيعين والعابدين، واجعلها عزًّا لدينك وذلاً لمن كفر بك، وأعز بها الإسلام".وكان لمسجد عقبة الجامع بالمدينة دور كبير في نشر وتعليم الدين وعلومه بحكم ما علق عليها من آمال في هداية الناس وجلبهم إلى إفريقية، وكانت مدرسة القيروان الفقهية محط أنظار الدارسين من صقلية والمغرب والأندلس فلا يكاد قطر من تلك الأقطار يخلو من مئات الوافدين منه على القيروان لتلقي العلوم والتفقه في الدين.
قالوا عنه
قال المستشرق "سيديو" في كتابه "تاريخ العرب العام": "ونصب والٍ جديد على البلاد المفتوحة ولم يكترث هذا الوالي لإدارتها اكتراثه لرفع راية المسلمين فوق المدن الرومية ولدى المغاربة إلى أبعد مدى، وذلك الوالي هو عقبة بن نافع الجامع لجميع الصفات المرغوب فيها من الشجاعة عند كل بلية ومن إنكار للذات ومن كرم وعظمة نفس وإيمان لا يتزعزع".
وفاته
استشهد عقبة بن نافع سنة 63هـ، قتله كسيلة بن لمزم الأودي وهو نصراني تظاهر بالإسلام، ودفن في مكان يعرف حتى الآن باسم سيدي عقبة بالجزائر، وترك باستشهاده أثرًا كبيرًا في نفوس البربر، وأصبح من يومها يلقّب بـ"سيدي عقبة".
ساحة النقاش