إن رسم سياسة للصناعة المصرية يجب أن يكون تعبيراً عن الهدف الذي يجب أن تقوم به الصناعة في مشروع تنمية للاقتصاد القومي، والتنمية الاقتصادية هي بالأساس تعظيم القيمة المضافة على مستوى الاقتصاد القومي والاحتفاظ لهذه القيمة داخل الاقتصاد القومي والحيلولة دون تسربها للخارج.
والبداية لرسم سياسة للصناعة المصرية يجب أن ترتكز على واقع الصناعة المصرية حالياً، فبخلاف بعض المرتكزات القوية كما في صناعة السكر أو الألومنيوم أو السماد النتروجيني وبعض الصناعات التقليدية نجد أن قطاعات هامة كثيرة تعتمد أساساً على استيراد أهم مدخلاتها ولا يكاد دور التصنيع الذي يتم في مصر يرتقي إلى أكثر من التجميع أو التعبئة وذلك يتضح من الرقم الهائل للاستيراد تحت مسمى مستلزمات إنتاج، ليس ذلك فحسب بل إن تلك الصناعات التي تعتمد على استيراد أهم مكونات المنتج النهائي فيها لا يمكنها المنافسة المحلية لنفس المنتجات المستوردة إلا تحت حماية جمركية باهظة ليس من المتوقع استمرارها لمدة طويلة مع التحولات التي تتم على النطاق العالمي والمشاركة في منظمة «منظمة التجارة العالمية» وكنموذج لهذه الصناعات صناعة السيارات والسلع الالكترونية والبويات واللوازم المنزلية والسلع البيضاء من ثلاجات وغيرها.
لذلك يجب أن يكون من أهم محاور تأمين الصناعة المصرية تعميق التصنيع أي إنتاج أكبر قدر ممكن من المدخلات اللازمة للصناعة القائمة فعلاً
ثاني الأهداف التي يجب التحقق منها على الحفاظ على القديم أي الحفاظ على الصناعات التقليدية القائمة فعلاً حتى لو كانت لا تتمتع بإنتاجية عمل عالية، فهذه الصناعات لا تكلف الاقتصاد القومي استثماراً جديداً وتكاد تكون رؤوس الأموال الموظفة فيها في حكم المهلكة ودعاوى التحديث التي قد يحقق الاستثمار فيها معدل ربح مقبول إنما تتم على حسبا إهدار القيمة المضافة المحققة فعلاً دون استثمار، وهي قيمة مضافة تعبر على معدل إنتاجية رأس مال عالية بجانب تشغيل عدد كبير من العمال، تحديث تلك الصناعات دون تمييز يسبب بطالة ويمثل استخدام قدرات المجتمع على الادخار والاستثمار استخداماً كان يجب توظيفه في الصناعات التي يجب بالضرورة لطبيعتها أن تكون ذات تركيز عالي لرأس المال.
فليس من المصلحة تصفية مصانع النسيج الصغيرة في المحلة مثلاً، ومن المؤسف أنه يكاد أن تكون صناعة الأحذية اليديوية قد صفيت وعديد من مصانع الأثاث الخشبي وغيرها، ومن المؤسف أن ذلك يتم محدثاً مزيد من البطالة في الوقت الذي يزيد فيه استيراد المدخلات للمصانع البديلة عنها مما يرفع تكلفة الاستيراد على الاقتصاد القومي.
معالجة الصناعات القديمة الصغيرة أو الحرفية لا يكون بتصفيتها بل بإدخال نظم التدريب ورفع كفاءة التصميمات الذي تنفذها وحل المعوقات المالية والتسويقية التي تواجهها ومن المفيد بل الأساسي تقوية التنظيمات التعاونية التي ترعاها.
الهدف الثالث هو استكمال الهيكل الصناعي ليشمل العديد من الصناعات الحديثة فبجانب صناعة الصلب يجب إقامة صناعة للسبائك الخاصة على سبيل المثال كما يجب التوسع في صناعة البتروكيماويات وصناعة الكيماويات الخاصة وغير ذلك من الصناعات التي في أغلبها ذات تركيز عالي لرأس المال مثل تلك الصناعات الهدف منها الوصول إلى هيكل اقتصادي متكامل ليس بمعنى من الإبرة إلى الصاروخ إنما استخدام القدرات المحلية أساساً على الادخار والاستثمار وزيادة الترابط القطاعي في هيكلنا الصناعي.
الهدف الرابع الدخول إلى الصناعات المتقدمة تكنيكياً في أبواب الإلكترونيات والهندسة الحيوية والمواد الجديدة والبرامج والحواسب، الغريب أنه رغم التخوف من ما يسمى تكنولوجيا جديدة فإن في مصر قدرات علمية في هذه المجالات كما أنه في بعض هذه المجالات فإن التكلفة اللازمة لمعدات البحث خاصة في الهندسة الحيوية على سبيل المثال ضئيلة للغاية والجهد البشري المتقدم علمياً هو أهم المدخلات اللازمة، ومن ناحية أخرى فإن بعض هذه المجالات لازالت جديدة على المستوى العالمي ويكاد تطويرها الصناعي أن يكون لازال في المستوى الحرفي «أرتيزان» كما في صناعة البرامج والجهد البشري والقدرة على التنظيم الإداري هي أهم المدخلات وليس رأس المال ولنا في تجربة الهند نموذج لما يمكن عمله.
الهدف الخامس هو صناعة معدات الإنتاج والغريب أن مصر لديها قدرات صناعية واسعة في هذا المجال لا يتم استخدامها، إن المصانع التي تنتج ماسورة المدفع الحربي قادرة بالحتم على صناعة المعدات الهيدروليكية على سبيل المثال ولدينا عديد من المصانع التي لديها آلات ورش محكومة رقمياً ولدينا على السباكة والمطروقات، غير أن تصنيع المعدات يجب أن يكون معتمداً على القدرة على الهندسة العكسية من جهة وعلى توصيف العمليات الصناعية المستخدمة في الإنتاج وهذه القدرات لازالت للأسف مهدرة لعدم وجود حاجة لاستخدامها نتيجة للركود في النهضة الصناعية والاعتماد على أسلوب تسليم المفتاح وفقدان الثقة الوطنية والاعتماد على الخبرة الأجنبية.
إ
ن النهوض بالصناعة المصرية لا يجب أن يكون مقيداً بمفهوم الإحلال محل الواردات أو التوجه للتصدير فالمهم أولاً هو القدرة على صناعة الأشياء بالطبع التوجه للسوق المحلي أولاً أو التصدير إلى الداخل هو من المسلمات التي لا تتناقص مع التصدير فما لم تكن المصنوعات المصرية قادرة على المنافسة في سوقها الداخلي فمن غير المتوقع أن تكون قادرة على المنافسة في الخارج، ومن ناحية أخرى فإن تعميق التصنيع يعطي القدرة على تصدير بعض المدخلات للخارج خاصة مع ما يجري حالياً على النطاق العالمي من تقسيم العمليات الإنتاجية ومكونات السلع النهائية في أكثر من بلده، كما في صناعة السيارات مثلاً.
لتحقيق الأهداف التي سبق الإشارة لها يجب إقرار مجموعة من السياسات التي تتناول مجالات أخرى غير الصناعة بالتحديد.
ومن اول هذه السياسات السياسة الجمركية وهي سياسة يجب تحكمها قاعدة أساسية هي أن الرسوم الجمركية على السلع المستوردة تتصاعد مع تصاعد العمليات الإنتاجية التي تتم في الخارج بحيث تكون أقل ما يمكن في المواد الخام وأعلى ما يمكن في المنتج النهائي وأن تتناسب هذه الرسوم بمقدار القيمة المضافة المحققة في السلعة المستوردة أو بمعنى آخر أن تكون منخفضة مع زيادة القدرة على إحداث قيمة مضافة محلياً، فليس من المعقول أن تكون الرسوم الجمركية على السيارات تزيد عن 100% في الوقت الذي تكون الرسوم على مكونات السيارات الأساسية وهي الموتور أو أجزاءه وآلة الجر 30% علماً بأن عملية التجميع لا تحث قيمة مضافة أكثر من 7% أو حتى 3% مما يعني أن صناعة السيارات في مصر تعتمد على التهريب الجمركي وتمنع تصنيع المكونات محلياً علماً بأن عملية التجميع في مصر تتم على أساس غير اقتصادي وبتكلفة تزيد أضعاف عن تكلفتها في الخارج.
وثاني تلك السياسات هي سياسة الضرائب وتلك يجب أن تلتزم بأن يكون الإعفاء منها أو خفضها مرتبطاً بنسبة القيمة المضافة المحققة محلياً في المنتج النهائي وذلك لا يساعد فقط على تشجيع استخدام المدخلات المصنعة محلياً بما يزيد من التعميق الصناعي بل يبطل أيضاً الخلل الفظيع في هيكل الصناعات الجديدة التي لا يزيد دورها عن إعداد المنتج المصنع في الخارج للتسويق في السوق المحلي.
وثالث تلك السياسات هي سياسة الائتمان بجانب أن النشاط الأساسي لأجهزة الإئتمان موجه إلى التجارة خاصة الاستيراد إن الائتمان الصناعي يعطي صورة سيئة للعشوائية والهدر ولعل ما يثار حول المديونيات المتضخمة لبعض رجال الأعمال أو التعثر في السداد والديون المهدرة يعطي بعض التصور عن حالة الإئتمان في مصر غير أن ما يهم في سياسة الاستثمار الصناعي هو أن تكون محكومة بمؤشر أساسي هو نسبة القيمة المضافة التي يحققها المشروع الصناعي في منتجه ومن ناحية أخرى أن يكون المشروع جزء من خطة التصنيع على الأقل حتى لا يتم تكرار إنشاء مصانع في الوقت الذي توجد فيه طاقة زائدة عاطلة في نفس المجال.
ليس معنى رسم تلك السياسات وتنفيذها أن يتم التخطيط الصناعي بشكل تحكمي أو تدخل الدولة برأس مال عام في ذلك غير أن رسم تلك السياسات يخلق مناخاً من التخطيط التأشيري غير التحكمي من شأنه أن يوجه الاستثمار الصناعي إلى المجالات المحققة لأعلى قيمة مضافة محلياً ويخفض الاحتياج إلى استيراد المنتج الأجنبي أو مستلزمات التصنيع ويوظف أكبر عدد ممكن من العمال.
بجانب تلك السياسات يجب رسم خطط للإرتفاع بالقدرات في المجالات الآتية :
أولاً التدريب : إن إقامة صناعة حديثة يلزم له بالضرورة الإرقاء بالقدرات البشرية ولعل ذلك يمثل أهمل الاستثمارات التي يجب أن تقوم بها الدولة غير أن التدريب يجب أن يكون مرتبط بالقدرة على توجيه الاستثمار الصناعي بحيث يكون نشاط الهيكل الصناعي هو المحدث للطلب في مجال ترتيب العمالة.
ثانياً البحث العلمي : القدرات العلمية في مصر مع توفرها إلا أنها مهددة لعدم وجود طلب عليها وإن الارتقاء بأجهزة البحث العلمي لا يمكن أن يتم إلا بوجود طلب ناتج من القيام بصناعة معدات الإنتاج وتوصيف العمليات الصناعية والهندسية العكسية وهي مصدر أساسي لتطوير التكنولوجيا وأحداث الجديد فيها وذلك يتم بالاعتماد أولاً على القدرات العلمية والتكنولوجية الوطنية قبل الاستعانة بالخبرة الأجنبية إذا لزم الأمر.
ولعله من المفيد أن نشير إلى أن أكثر من 90% من التكنولوجية العالمية هي في الملك العام كما ان اكتساب القدرات التكنولوجية لا يتم إلا بالممارسة والإنتاج محلياً.
ثالثاً المواصفات القياسية : استكمال كتاب المواصفات القياسية المصرية لكافة منتجات الصناعة المحلية بما يتفق مع أرقى المواصفات العالمية ووضع نظم الرقابة والإجبار على الالتزام بها ويمكن حالياً استعارة المواصفات المقبولة عالميا لاستكمال المواصفات القياسية المصرية.
ر
ابعاً التدريب الإداري : وأساساً وضع نظم الصيانة الوقائية ونشر التدريب على استخدامها ويجب أن نضع في اعتبارنا أن تطبيق نظم الصيانة الوقائية يمثل أرخص استثمار وأعلاها قيمة.
وفي النهاية نشير إلى أهم نقاط سياسة تأمين الصناعة المحلية :
الأهداف :
1ـ تعميق التصنيع.
2ـ الحفاظ على الصناعات القديمة.
3ـ استكمال الهيكل الصناعي.
4ـ الدخول في الصناعات المتقدمة.
5ـ صناعة معدات الإنتاج
السياسات :
ـ السياسة الجمركية.
ـ سياسة الضرائب.
ـ سياسة الإئتمان.
ـ تنشيط التعاون الإنتاجي.
برامج مكملة :
ـ التدريب.
ـ البحث العلمي.
ـ المواصفات القياسية.
ـ الصيانة والوقاية.
ساحة النقاش