وثائق الجمارك المصرية

أ.د عصام أحمد عيسوى

 تشير الوثائق إلي أن محمد علي بدأ حكمه بضائقة مالية شهدتها خزانة الدولة حيث صرح بذلك في أحد الأوامر الصادرة إلي أمين جمرك الإسكندرية بقوله " حيث أن الخزينة تعاني ضيقـًا من جهة النقود".

 ولذلك فقد عمل محمد علي علي زيادة موارد الدولة المالية لإنعاش خزانتها أو سد احتياجاته التي تحقق طموحاته في بناء دولة مصر الحديثة.

ومن تلك التدابير التي قام بها محمد علي للوصول إلي مآربه ، عمل علي نمو حركة التجارة الخارجية لمصر حتى يصل إلي المستوي المطلوب ، ولذا فقد قام بالعمل علي زيادة المحاصيل القابلة للتصدير مثل القطن طويل التيلة ، وانتشار الأمن واحترام قواعد المعاملات، حيث أصدر أوامره بتوحيد الموازين والمكاييل بين الحكومة والأهالي ، وعمل علي توحيد القيمة النقدية وشدد علي عدم التلاعب فيها ، كما بدأ أيضا في تحسين سبل النقل البري والبحري ، بالإضافة إلي تعديلاته المنظمة للرسوم الجمركية لتنمية حركة الاستيراد والتصدير في مصر.

وكان محمد علي يفهم أن مصر تدار باعتبارها إقليمـًا تابعـًا للسلطنة العثمانية أسما لا فعلاً ، بحسب قوانين هذه السلطنة وأنظمتها الإدارية ، وأنه كلما أكثر من توريد الأموال للسلطنة كلما علا شأنه ومقداره لدي الباب العالي ، وكانت الضرائب أو الويركو هو أقوي الدلائل المادية علي خضوع مصر للسلطنة، إذ كانت تدفع بدون مقابل ؛ ولقد أدرك محمد علي منذ الوهلة الأولي أنه لأجل تسيير الإدارة علي النهج القويم ، لابد من العناية بتقسيم الحكومة إلي فروع مختلفة ، إلا أنه اصطدام بقلة أو عدم وجود الأنظمة المالية والإدارية التي تعينه علي خططه للتنمية في شتي المجالات ، والتي ترتقي بالإدارة المالية والحكومية في مصر.

  لذلك فقد حرص محمد علي علي استغلال الوضع القائم الذي حبت به الأقدار بلاده ، للحصول علي الفوائد المادية من خلال جذب التجار من جميع بلاد العالم ، وتوفير المنتجات العالمية في البلاد لإنعاش حركة التجارة في الأسواق ، فضلا عن زيادة دخل الحكومة من الضرائب والمكوس الجمركية.

  كما أدرك الباشا أنه كلما أحكم قبضته علم نظم التملك والاحتكار كلما استطاع أن يحقق الفوائد المالية الجمة لحكومته ، لذلك فقد طبق نظام الاحتكار علي التجارة الداخلية والخارجية حتي أصبحت التجارة في يد الحكومة ، وهو ما حقق له أرباحا طائلة ، خاصة أنه أمسك بزمام حركة التصدير في مصر إذ كان ما مقداره 19/20 من تجارة الصادر حكرًا عليه ، لكنه لم يك له السيطرة الكاملة علي حركة الواردات ، وكانت سياسة محمد علي لاحتكار التجارة مصدرًا لشكوي الدول الأجنبية من نظمه التجارية ، حيث طالبت معظم الدول بحرية التجارة في مصر.

  وظل نظام الاحتكار التجاري قائما في مصر حتي عام 1842م ، عندما نفذت المعاهدة التجارية المعقودة بين انجلترا والدولة العثمانية عام 1838م والتي أعطت للتجار الإنجليز الحق في استيراد البضائع وبيعها في جميع بلاد الدولة العثمانية، وأن يشتروا من أهل هذه البلاد منتجاتهم الزراعية والصناعية مباشرة ويصدرونها للخارج بعد دفع رسم جمركي قدره (12%) ، ومن ثم فقد سارعت الدول الأوربية الأخرى بعقد معاهدات مماثلة مع الدولة العثمانية.

وبموجب هذه المعاهدة المبرمة بين انجلترا وتركيا تحددت الرسوم الجمركية علي الصادرات بواقع 12% من قيمتها ، منها 9% عند وصولها إلي ميناء التصدير ، و 3 % عند تصديرها ، أما الواردات فقد تحددت الرسوم الجمركية عليها بواقع 5% من قيمتها ، منها 3% عند وصولها إلي الميناء ، و 2% عند نقلها من الميناء إلي الداخل.

  وعندما بدأ محمد علي في تنفيذ بنود هذه الاتفاقية عام 1841م بعد تسوية النزاع بينة وبين السلطان العثماني ، أخذ في تنفيذ السياسة الجمركية التي نصت عليها هذه المعاهدة.

  وفي عام 1841م ، وبموجب معاهدة لندن التزم محمد علي باحترام كل المعاهدات التجارية التي عقدها الباب العالي مع الدول الأجنبية حتى ذلك العام.

  وفي ظل هذه الظروف التي مر بها محمد علي مع الدولة العثمانية وحلفائها الأوربيين ، حاول الاستفادة من الأوضاع المفروضة عليه ، ومن ذلك أنه رفع رسوم الاستيراد والتصدير بعد صدور اتفاقية بالطة ليمان عام 1838م ، بالإضافة إلي ترشيد النفقات العامة لمواجهة تضاؤل إيرادات التجارة الخارجية لمصر.

  هذا هو الحال الذي انتهي عليه عصر محمد علي فيما يتعلق بالتجارة الخارجية التي ارتبطت ارتباطـًا وثيقـًا بالسياسة الجمركية في مصر، كما أرتبطت بسياساته الاحتكارية في الداخل.

  ولقد ظل محمد علي منذ بداية حكمه لمصر يحترم المعاهدات والاتفاقيات الدولية القائمة بين الباب العالي والدول الأجنبية  إلا أنه وجد الحلول في الداخل.

  فمنذ بداية حكمه كانت الجمارك – كما سبق القول – تعطي بالالتزام للملتزمين الذين يتعهدون بدفع قيمة التزاماتهم لخزانة الدولة ، بينما كان الباشا ملتزمـًا بكل الجمارك المصرية أمام السلطان العثماني مقابل دفع مبلغ 7500 كيس في عام 1236هـ / 1820م، ثم رفع إلي 9900 كيس في عام 1238 هـ / 1822م تدفع لخزانة البحرية العثمانية علي أقساط متساوية كل ثلاثة شهور.

  وكانت العوائد الجمركية من أهم الإيرادات التي كان يحصل عليها محمد ، وهو ما دعاه إلي السيطرة التامة علي التجارة الخارجية والاستفادة  من الأوضاع الدولية الطارئة في تنمية إيرادات الجمارك بالثغور المصرية ، ومن ذلك أنه كون ثروة طائلة من تصدير الحبوب بأسعار مرتفعة لإنجلترا أثناء حروب نابليون بونابرت فيما بين عام 1808م إلي 1812م.

  أيضا فقد فرض رسوما جمركية بقيمة 10% علي التجارة الواردة إلي بلاد العرب من الهند ، وكان يتم تحصيلها نقدًا أو عينـًا ، وهي التي عرفت بتجارة الترانزيت، بالإضافة إلي أنه فرض علي البضائع المهربة من خلال الجمارك المصرية رسومـًا تعادل الضعفين ، وكان ذلك بموجب قرار مجلس الملكية الصادر في شهر رجب من عام 1250هـ / نوفمبر من عام 1834م.

ولذلك فقد بلغ دخل الحكومة من الجمارك في مصر في عام 1833م - علي سبيل المثال - كما أوردها المسيو" مانجان" ما قيمته 97.020 جنيه مصري كانت موزعة علي النحو التالي:

- جمرك الإسكندرية 30.000 جنيه مصري.

- جمرك بولاق 36.765 جنيه مصري .

- جمرك مصر القديمة 8.005 جنيه مصري .

- جمرك السويس والقصير 30.000 جنيه مصري.

- جمرك أسوان 1250 جنيه مصري .

- جمارك البضائع السورية عن طريق البر 1000 جنيه مصري .

  وقد كانت استفادة محمد علي من زيادة حصيلة الضرائب الجمركية علي الصادرات والواردات كبيرة ، فتشير الوثائق إلي أنه استغل هذه الأموال في سد احتياجات الدولة المالية ودفع الرواتب والإنفاق علي الجيش والجفالك والمديريات وغير ذلك مما تحتاج إليه مصارف الدولة.

  فقد صدرت منه عدة أوامر مباشرة لأمناء جمرك الإسكندرية يطلب منهم إرسال إيراداتهم الجمركية إلي أماكن مختلفة بالدولة ، ومن ذلك أنه أصدر أمره إلي راتب أفندي أمين جمرك الإسكندرية " بإرسال مبلغ 883 كيس نقدية من حاصلات الجمرك إلي طرف بوغوص بك لتوزيعها علي بعض المصالح" ، كما أصدر أوامره لنفس الأمين يطلب منه إرسال مبلغ ألف كيس نقدية من حاصلات الجمرك إلي لطيف بك مفتش عموم الفابريقة لصرف أجرة العمال المتأخرة وذلك في 25 صفر من عام 1259هـ /فبراير 1843م، كما أصدر أمره الثاني لأمين جمرك الإسكندرية في نفس اليوم بإرسال مبلغ 50.697 قرش و20 بارة من حاصلات الجمرك لعثمان بيك لصرف أجرة الأنفار المستخدمين في أشغال الترع والجسور بجفالك البحيرة ، أيضًا فقد أصدر أوامره لراتب بك بإرسال مبلغ 207.163 قرش من حاصلات جمرك الإسكندرية لمفتش جفالك الشرقية ، وإرسال مبلغ 123.994 قرش لجفالك كفر الشيخ ، وإرسال مبلغ 128.126 قرش إلي مفتش جفالك نبروة ، ومبلغ 5491 قرش إلي مفتش جفالك البحيرة وذلك لصرف أجرة الأنفار المستخدمين في هذه الجفالك في شهر صفر من عام 1259 هـ /فبراير 184م

كما أصدر أوامره أيضًا لأمين جمرك الإسكندرية بإرسال مبلغ 862 كيس نقدية من حاصلات الجمرك لصرف أجرة أنفار العساكر المستخدمين بجفالك الشرقية ، وأمر آخر بإرسال مبلغ 223.537 قرش لمدير جفالك الدقهلية لتسوية الاستحقاقات المتأخرة لمستخدمي الجفالك ، وذلك في العام 1259هـ/ 1843م.

  أيضا فقد استخدم الباشا أموال وحاصلات الجمارك في سداد مرتبات الجيش ، ومن ذلك أنه أصدر أمره إلي راتب بك أمين جمرك الإسكندرية بإرسال 1500 كيس نقدية إلي خزينة البحرية.

    هذا، وقد استغل محمد علي بعض أموال الجمارك لحسابه الخاص ، حيث تشير أوامره التي أصدرها لأمين جمرك الإسكندرية " بإرسال 15 ألف قرش من حاصلات الجمرك إلي الخزينة الخاصة بجنابه العالي وإجراء محاسبة الخزينة دار سليم بك " ؛ وبذلك وكما هو واضح أن الباشا لم يفصل بين مالية الجمارك وإيراداتها وبين ما يخصه، وما يحتاج إليه من هذه الأموال.

  وكان لعوائد الجمارك استخدامات أخري لدي محمد علي ، فقد أصدر أوامره بتنفيذ عدد من الإعفاءات الجمركية علي الصناعات المصرية المصدرة للخارج ، وذلك من أجل النهوض بتلك الصناعات وتنميتها ، فمن ذلك أن أصدر أوامره في عام 1245 هـ / 1829م إلي سليم أغا أمين جمرك الإسكندرية يطلب منه" ألا يأخذ رسم الجمرك على الزجاج الجاري وروده من معمل الزجاج بالإسكندرية علي ذمة (علكسان فنومو) وكيل ذلك المعمل المقيم بمصر لأجل البيع لأنه – أي الزجاج – يعد من أموال الحكومة".، وهو ما يشير إلي احتكاره لهذه الصناعة في مصر.

  أيضا فقد صدرت الأوامر لديوان الجمارك بعدم تحصيل الرسوم الجمركية على الجلود التي استوردها "طاهر أغا" ملتزم المدابغ ، وذلك تشجيعـًا لهذه الصناعة في مصر، وذلك لزيادة الطلب علي الجلود المدبوغة والمصنعة لاستخدامها في أعمال الجيش، وفي تلك الأعمال التي كانت تقوم بها المطابع الحكومية والأهلية، وخاصة ما كان يستخدم في تجليد السجلات والدفاتر والكتب.

كما قد شملت إعفاءات محمد علي كل الآلات والمعدات الصناعية الواردة من الخارج من الرسوم الجمركية، وذلك تشجيعـًا للصناعات المحلية وتنميتها مما كان يعود علي خزانة الدولة بالنفع من تصدير الفائض عن حاجات الحكومة والدواوين إلي الخارج.

  ومن جانب آخر، فقد شملت الإعفاءات الجمركية بعض الغلال والمهمات التي اعتبرت من لوازم الحرمين الشريفين ، كما أعفي محمد علي كل الأشياء التي كانت ترسل إلي أشراف جدة كل عام ، بالإضافة إلي إعفاء البن المُرسل إلي السلطان عن طريق جمرك جدة، والمقدر سنويًا بأربعمائة أقة.

  هذا بالإضافة إلي إعفائه بعض المواد التي كانت تدخل إلي مصر عبر المنافذ الجمركية للأقليات في مصر ، ومن ذلك أنه أعفي بطريرك الروم من الرسوم الجمركية المفروضة علي كمية من ماء الورد الواردة باسم البطريركية ، وأمر المختصين بألا " يمنعوا ذلك الماورد الوارد لأجل البطريقخانة من المرور من الجمرك ".

     ولقد تركزت التجارة الخارجية في مصر في عصر محمد علي في كل من الإسكندرية والقاهرة، الأولي باعتبارها ثغرًا بحريًا ، والثانية باعتبارها محطـًا مهما للقوافل التجارية، ولذلك غصت كل منهما بطوائف التجار الأوربيين الذين استقروا في مصر في أحياء خاصة ، حتي بلغ عددهم ما يقرب من خمسة آلاف شخص في عام 1837م ، وقد استغلوا جميع الامتيازات التي خولتها لهم حقوقهم في ولايات الإمبراطورية العثمانية ومن بينها مصر.

     وكان بالإسكندرية عدة مؤسسات تجارية أجنبية تقوم بشراء ما تبيعه الحكومة وتصدره للخارج، وهو ما أدي إلي ازدهار الحركة التجارية بالإسكندرية.

     وكانت الإسكندرية ترتبط بخطوط ملاحية كثيرة في الخارج مع موانئ بلاد البحر المتوسط وشمال إفريقيا ، وفي الداخل مع بولاق، ومصر القديمة بالقاهرة عبر رشيد نيليـًا، أو عبر الطريق البري .

  وفي ميناء الإسكندرية، كانت تخرج قوارب جمرك الإسكندرية لمقابلة السفن القادمة، وكانت هذه القوارب تعرف باسم (قوارب الديوان) تمييزًا لها عن غيرها ، وكانت مهمتها تنحصر في نقل البضائع كاملة إلي ديوان جمرك الإسكندرية لتقدير الرسوم الجمركية عليها وأدائها.

  أما في القاهرة فقد كان مينائي مصر القديمة وبولاق يعتبران من أهم الموانئ التجارية التي تستقبل السفن المحملة بالسلع والمتاجر من الشرق والغرب ، فكانت تلك السفن تصل من الإسكندرية عن طريق فرع رشيد إلي ميناء بولاق ، ومن موانئ الشام وتركيا عن طريق فرع دمياط ، كما كانت السلع الواردة من الجنوب من الحبشة والسودان والنوبة ترد عن طريق النيل للقاهرة.

  وقد كانت السلع والمنتجات الإفريقية والسودانية الواردة إلي القاهرة عبر النيل ، تتعرض لكثير من الرسوم الجمركية وذلك حتى عام 1841م  عندما تم توحيدها وتخفيفها، بحيث اقتصرت علي رسم جمركي واحد يؤخذ عند أسوان التي تعد البوابة الأساسية للسودان من شماله، وقدر هذا الرسم بـ 12% من قيمة البضائع نقدًا أو عينـًا ، أما البضائع والأشياء المصرية المصدرة من الصعيد إلي أقاليم السودان فلم يكن يحصل عليها أية رسوم جمركية طالما أنها مصرية ، أما إذا كانت مستوردة من الخارج من البلاد الأوربية ، فكان يكتفي بما تم تحصيله عليها من الرسوم الجمركية في ميناء الإسكندرية.

  أما المنافذ الجمركية في الأقاليم المصرية الأخرى فقد كانت في السويس ، والقصير، والعريش ، ورشيد، والبرلس .

  وهكذا يمكن القول إن الموانئ المصرية قد ارتبطت بشبكة داخلية برية ونيلية وفرت لها القدرة علي نقل البضائع بين الأقاليم المختلفة ، ومنها إلي خارج مصر عبر تلك الموانئ علي البحرين المتوسط والأحمر ليكون لمصر موقعـًا متميزًا في حركة التجارة العالمية يبدأ من الداخل.

  وتشجيعا لزيادة الثروة الحيوانية في مصر فقد صدرت الأوامر إلي أمين جمرك القصير برفع الجمارك عن الحيوانات الواردة من الأقاليم السودانية وذلك " لحين تكاثر الحيوانات في الأقاليم المصرية ".

  كما صدرت قرارات مجلس الأحكام إلي مأمور إدارة جمارك المحروسة بناء علي ما أوضحته المالية بأن تحصل نسبة 9% علي السكر الخام والأبيض الوارد من الوجه القبلي إلي مصر القديمة، وذلك إذا استخدم داخل مصر ، أما إذا كان مصدرًا للخارج فيحصل عليه نسبة 3% أضافية.

  أيضا فقد صدرت الأوامر إلي أمين جمرك الإسكندرية بتحصيل 12% رسومًا جمركية علي الكتب المطبوعة في المطابع المصرية، والتي تصدر للخارج عن طريق التجار الأجانب أو المصريين ، وذلك بعد أن كانت معفاة من الرسوم الجمركية ، إلا أن صدور القرار كان بسبب شكوى بعض التجار من تحصيل رسومًا جمركية عالية في الموانئ التي تصدر إليها هذه الكتب ، ومن ثم فقد طالبوا في شكواهم بالحصول علي الرفاتي اللازمة من المنافذ الجمركية المصرية ليتم إعفائهم من تلك الرسوم في البلاد التي يتم التصدير إليها.

  وكان التجار في مصر في عصر محمد علي دائمو الشكوى من فرض الرسوم الجزافية علي تجارتهم ، ومن ذلك أن تقدم تجار الأرز برشيد بشكوى يطلبون فيها تحصيل جمارك الأرز المصدر للخارج في المنفذ الجمركي برشيد بدلاً من تحصيله بجمارك الإسكندرية التي كانت تحصل الرسوم بواقع أسعار الأرز في مدينة الإسكندرية ، ولذلك ازدادت هذه الرسوم علي التجار مما دعاهم للشكوى، ولذلك صدر القرار بأن الأرز الذي يتم تصديره إلي الخارج عن طريق الإسكندرية تحصل رسومه الجمركية في منفذ الإسكندرية الجمركي ، أما الأرز الذي يتقرر " إرساله إلي المحروسة والبنادر والذي يباع بها فيتحصل جمركه برشيد بواقع أسعار رشيد" ، وهذا يدل فيما يدل عليه علي عدم وجود لوائح جمركية أو قواعد ثابتة تنظم قيمة الرسوم علي البضائع المختلفة حتى ذلك الحين.

  وكانت حرية التجارة بعد معاهدة لندن عام 1841م قد أتاحت التبادل التجاري بين الأقاليم المصرية ، إذ كانت قبل ذلك مقيدة برسوم وعوائد علي السفن العابرة بالنيل داخل مصر، كما كانت تفرض عوائد الدخولية التي تحصل عند مداخل المديريات المختلفة علي البضائع المنقولة من مديرية إلي مديرية وذلك بواقع 12% علي قيمة هذه البضائع.

  وكان ديوان الجمارك في القاهرة يحدد أسعار بعض السلع والغلال الواردة إلي المديريات والمحافظات المختلفة ، ذلك لأنه كان مسئول عن عدد من شون الغلال ومخازن السلع المختلفة التي يتم استهلاكها في المديريات المصرية ، وتلك التي يحتاج إليها الجيش، ولذلك أرسل ديوان الجهادية لوكيل جمارك المحروسة يطلب منه قوائم عن أثمان بيع القمح والشعير بالسواحل في شهر شعبان من عام 1263هـ/ يوليو 1847م ، ومن ثم فقد أرسلت هذه القوائم إلي ملتزمين المخابز في القاهرة للعمل بمقتضاها ، حيث كان يقوم هؤلاء الملتزمون باستلام حصصهم من القمح من شون الجمارك بناء على ما يحدده لهم ديوان الجهادية.

أيضًا فقد طلب ديوان الجهادية من جمارك المحروسة تحرير كشف بأثمان الفول حسب أثمان البيع بالسواحل، وإرساله للديوان للعمل بمقتضاه، ثم طلب ديوان الجهادية تحرير كشف مماثل بالمسلي الوارد لشون التعيينات بالجهادية،وذلك لأن هذه الأصناف من التعيينات التى كانت ترد من شون الجمارك إلى ديوان الجهادية – وغيره من الدواوين-تعهدها متعهدون بالتوريد من هذه الشون إلى تلك الدواوين المختلفة تحت إشراف ديوان المالية.

 وقد كان ديوان جمارك المحروسة  يعفى بعض السلع التى يستخدمها ديوان الجهادية من الرسوم والعوائد الجمركية الواردة من الخارج، ومن ذلك أن كميات الأقمشة المستوردة من الخارج على ذمة ورشة الترزية بديوان الجهادية كانت تعفى من الجمارك المقررة عليها، وكانت ترسل بها كشوف من الجمارك إلى ورشة الترزية للبدء في إجراءات تسليمها للورشة من الجمارك، وكانت كميات من هذه الأقمشة المستوردة التى ترد على ذمة ديوان الجهادية – والفائضة عن حاجته – كانت ترسل للمصانع بالمحلة الكبرى لتصنيعها، وفي هذه الحالة كانت تحصل عليها الرسوم الجمركية المحددة بالقرارات والأوامر.

وقد كانت الجمارك تقوم ببيع الغلال من المُنتجة بالمديريات، ومن ثم خصم الجمارك وتوريد  الباقى بعد البيع إلى تلك المديريات، ولذلك فقد طُلب من وكيل مفتش إقليم الواسطى" بيان ما يخصم من حاصل النقدية وإضافته لحساب مصاريف الغلال عن جمارك الشعير المباع للمديرية بساحل بولاق".

أما عن الرقيق ، فقد كان ديوان الجهادية يطلب تسليمه هؤلاء الرقيق الواردين إلى القاهرة  من السودان وغيرها ، حيث كان يتم حجزهم بالجمارك لحين الإفراج عنهم لجهات الاختصاص، والتي كان من أهمها ديوان الجهادية الذي أعتمد علي هؤلاء الرقيق في الأعمال العسكرية والمدنية التي كان ينفذها الجيش المصري خارج مصر وداخلها.

ولقد كان نظام الحكومة في عصر محمد علي نظامـًا مركزيـًا اعتمد في تطبيقه على النظم الأوروبية وخاصة الفرنسية، فقد أخذ عنهم بعض المبادئ الاقتصادية التي طبقها وفقـًا لرؤيته التجارية الصائبة، ومن هذه المبادئ مبدأ الاكتفاء الذاتي الذي كان يحقق له اقتصادًا قويـًا، وكانت الجمارك أحد العناصر التي يستخدمها في تنفيذ هذه السياسة، فقد كان يسيطر على التجارة الخارجية سيطرة تامة من خلال المنافذ الجمركية المنتشرة في أنحاء مصر، حيث عمل على تنظيم التجارة الواردة إلى البلاد والمصدرة منها، وكان هدفه الأساسي هو زيادة التصدير للخارج أكثر من الاستيراد، وسد النقص في الأدوات والمعدات والسلع والمواد الضرورية والحيوانات من الخارج، وكان التحكم في ذلك كله من خلال المنافذ الجمركية في مصر.

فلقد حققت تلك المنافذ الجمركية لمحمد علي عدداً من الأهداف الرئيسة ومنها – من وجهة نظر الباحث:

1-    زيادة الدخل القومي للبلاد باعتبارها مصدرًا مهمًـاً من مصادر الدخل.

2-  اعتبرها كوسيلة سياسية للضغط والتعامل مع الدول الأجنبية وخاصة الأوروبية منها، ومن ذلك أنه أصدر أوامره المباشرة لأمين جمرك الإسكندرية "بإعطاء الأرزاق اللازمة للسفينة الحربية الفرنسية الراسية في ميناء الإسكندرية وقيدها في دفاتر المصروفات" ، وعلي العكس فقد طلب من أمين جمرك الإسكندرية أيضاً تحصيل كامل المبالغ المطلوبة من قنصلية أسبانيا بالإسكندرية.

وكان قد أصدر أوامره بعدم "تحصيل رسوم جمركية من الشريف إدريس الذي جاء من طرف سلطان المغرب"، وكذلك أمره الصادر إلى أمين جمرك الإسكندرية بشأن صرف جميع المبالغ المستحقة لقنصل دولة النمسا، وهو ما يوضح جانب من علاقاته السياسية بهذه الدول الأجنبية.

3-  استغل أموال الجمارك في عدد من المصارف الحكومية والشخصية التي سد بها مطالب الجيش والبحرية والجفالك وغيرهما من قطاعات الدولة.

4-  إلغاء الالتزام الجمركي بالمنافذ، وتحويلها للقطاع الحكومي من خلال ديوان عموم الجمارك، أدى به إلى الاستحواذ على منافع أكثر وتحكم أكبر في تلك المنافذ البحرية الجمركية.

5-  أحكم محمد علي قبضته على جميع المنافذ البرية والنيلية والبحرية، ومن ثم التحكم الكامل في الصادرات والواردات من مصر وإليها، ومن ذلك أنه أصدر أوامره إلى أمين جمرك الإسكندرية بتحرير كشف عن مقدار الغلال الموجودة تحت يد التجار بالإسكندرية بهدف تصديرها للخارج، على أن يتضمن هذا الكشف الأصناف المختلفة ومقدارها لدى كل من هؤلاء التجار.

ولكن مع كل ما حققه محمد علي من مكاسب من خلال الجمارك إلا أنه واجه العديد من المشكلات بسبب الجمارك، فكان من بين هذه المشكلات:-

عدم وضع تسعيرة ثابتة للرسوم الجمركية التي يتم تحصيلها على البضائع المختلفة،  أو بمعنى أخر عدم وضع لوائح التسعير الضريبي الجمركي على جميع الصادرات والواردات، بما كان يجب أن تشتمله هذه اللوائح من الإعفاءات الجمركية على تلك السلع والبضائع المستوردة أو المصدرة للخارج.

كثرة الاختلاسات التي كانت تحدث في المنافذ الجمركية، وهو ما تسبب في تقليل دخل الجمارك وبالتالي دخل الحكومة.

1-  مشكلات التهرب الجمركي التي كانت تحدث من خلال المنافذ الجمركية، وإن كان محمد علي قد اتخذ التدابير الأمنية اللازمة ، ومنها أن المنافذ الجمركية النيلية والبحرية قد اشتملت من ضمن موظفيها على وظيفة "البصاص" الذي كان يراقب حركة الجمرك للقبض على المتهربين، مع وجود عدد كبير من " الجاويشية " و" القواصة العرب والترك" لحماية النظام بالجمارك.

كما أنه أعد المراكب في البحر الأحمر لمكافحة التهريب، فجعل مراكب الصيد قائمة تعمل بعد الغروب حتى الشروق لا تغادر الموانئ لمراقبة حركة السفن، بالإضافة إلى ذلك فقد صدر قرار مجلس الملكية في شهر رجب من عام 1250هـ/ نوفمبر 1834م بتحصيل رسومـًا جمركية بقيمة ضعفين الرسوم المقررة على البضائع المهربة من أي ميناء مصري.

ومع ذلك فقد سمح الباشا بنفسه بمرور الأشياء غير المسموح بمرورها عبر المنافذ الجمركية المصرية، ومن ذلك أنه صرح لأمين جمرك الإسكندرية بالأمر المباشر بخروج "أربع من المومياوات المصرية القديمة مع المسيو "واليمه" الروسي والتي أهداها إليه ليضعها في مجمع الطب بروسيا".

2-   خضوع محمد علي لتنفيذ المعاهدات والاتفاقيات الدولية التي عقدها الباب العالي مع الدول الأجنبية قد وقف حائلاً أمام استكمال سياساته الاحتكارية في التجارة الخارجية، ومن ثم التحكم الكامل في الصادرات والواردات وخاصة بعد تنفيذه لمعاهدة بالطة ليمان الموقعة بين الباب العالي والدول الأوروبية عام 1838م.

 

المصدر: عصام أحمد عيسوى، وثائق الجمارك المصرية.
egarchives

أ.د عصام أحمد عيسوى [email protected]

أ.د عصام أحمد عيسوى

egarchives
أستاذ م.الوثائق والأرشيف بقسم المكتبات والوثائق بكلية الآداب جامعة الملك سعود وجامعة القاهرة، حاصل علي جائزة التميز في التعلم والتعليم من جامعة الملك سعود 2011م، وجائزة جامعة القاهرة التشجيعية في العلوم الإنسانية والتربوية 2007م، وعضو فى عدد من اللجان القومية والعلمية بجامعة القاهرة والمجلس الأعلى للثقافة وغيرهما، مؤسس ومدير وحدة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

220,606