الإبداع والتعامل الإيجابي مع عصر العولمة
العولمة والتنوع:
إن العالم أصبح بالتدريج أكثر تقبلا لفكرة وجود ثقافة واحدة مسيطرة بعد نزع الخصوصية عن الثقافات المحلية والمحاولات المستميتة للمحافظة على التنوع فالعولمة الاقتصادية تضع شروطها الخاصة بإنتاج وتوزيع الإنتاج الفني والثقافي في العالم "وهكذا تختفي حتى فكرة السوق التنافسية الحقيقية في مجال الأفكار والصور بوجود عدد قليل من التكتلات الاحتكارية التي تتحكم فيما يتم صنعه وتوزيعه وفي مكان عرضه وفي كيفية التصريح باستخدامه المستقبلي. إن سوق التسجيلات الموسيقية في العالم تقدر بنحو 40 مليار دولار وإن نحو 80 في المائة منها يتم توزيعه عن طريق تكتلات ثقافية احتكارية متعددة الجنسيات كما أن معظم الأفلام التي تعرض في العالم، باستثناء الهند والصين، صنعت في هوليوود. فالاحتكار والسيطرة في مجال الموسيقى يشكلان خطرا على ظهور فنانين وبروز أساليب موسيقية جديدة مثلما هو الحال في كل الاحتكارات الثقافية التي أصبحت تخشى المغامرة والرهان على مبدعين غير معروفين مكتفية بزيادة أرباحها من احتكارها للنجوم والمتحققين فنيا وجماهيريا. والخوف من اختفاء السوق المفتوحة التي تسمح بالتنوع حيث إن الحرب الحقيقية التي تحقق فيها الصناعات الثقافية المزيد والمزيد من المكاسب هي الحرب من أجل السيطرة على قنوات التوزيع في أنحاء العالم. حاول أن تتخيل ذلك العدد من الناس الذين ينبغي أن يجذبهم فيلم بلغت تكلفته 200 مليون دولار لكي يستعيد المستثمرون ما دفعوه مضاعفا عشر مرات.
إن مهمة الدفاع عن التنوع الثقافي أصعب من مهمة الدفاع عن التنوع البيولوجي فمن السهل أن يكتشف الناس تلوث الهواء وفساد الغذاء في حين يصعب إقناعهم بأن التنوع الثقافي لا يفسد عليهم متعتهم وأن تعدد مصادر الإبداع وأساليب الإنتاج والتوزيع ستكون في صالحهم[1].
الإبداع Creativity في اللغــة: فى اللغة العربية لفظ " يبدع يعنى يأتي البديع أو يؤخذ من عدم. ولهذا يقال إن الإبداع إحداث شىء على غير مثال مسبوق، وفى اللغة الإنجليزية لفظ Create مشتق من اللفظ اللاتينى Creare أى " يوجد " أو " يستحدث " ما هو أصيل.
اصطلاحاً: فى الربع الأول من القرن العشرين حاول علماء النفس النظر فى أبعاد الإبداع التى عرضها كل من جالتون وفرويد ففحصوا العمليات العقلية الكامنة فى التفكير الإبداعي وحصروها فى القدرة على حل المشكلات، ثم تضاءلت بحوث الإبداع فى الربع الثانى من القرن العشرين. وفى 5 سبتمبر 1950 أعلن جيلفورد، فى مفتتح كلمته لأعضاء الجمعية النفسية الأمريكية، ضرورة الاهتمام بدراسة الإبداع، والإبداع فى رأى جيلفورد، يستند إلى سمات مزاجية تدور على التفاؤل أو الثقة فى النفس، أو على أن يكون الشخص عصبياً. والإبداع فى النهاية، هو القدرة على حل مشكلة، والحل يستلزم مجموعة من القدرات على ربط الكلمات والقدرة على المرونة، والقدرة على إنتاج الجديد. ثم ارتأى جليفورد أن الفعل المبدع محصور فى أفراد شواذ لديهم أفكار شاذة، وهؤلاء يسمون عباقرة. وارتأى أيزنك أن الإبداع ليس سمة معرفية وأنه من سمات الشخصية، ثم دلل على أن ثمة علاقة بين العبقرية والجنون. وارتأى مراد وهبه أن الإبداع هو سبب نشأة الحضارة عندما أحدث العقل الإنساني تغييراً فى البيئة فحولها من بيئة غير زراعية إلى بيئة زراعية، ولهذا فالعقل مبدع، والإبداع إذن هو قدرة العقل على تكوين علاقات جديدة من أجل تغيير الواقع[2].
وتنص المادة السابعة من إعلان اليونسكو بشأن التنوع الثقافى عن التنوع الثقافي والإبداع على أن كل إبداع ينهل من منابع التقاليد الثقافية، ولكنه يزدهر بالاتصال مع الثقافات الأخرى. ولذلك لابد من صون التراث بمختلف أشكاله وإحيائه ونقله إلى الأجيال القادمة كشاهد على تجارب الإنسان وطموحاته، وذلك لتغذية الإبداع بكل تنوعه والحفز على قيام حوار حقيقي بين الثقافات[3].
الإبداع والتمكين:
اذا كان مصطلح ثقافة فى معناه الأصلى هو الصقل والتهذيب، فمن الضرورى أن يتم صقل الإبداع الإنساني وتهذيبه، ففى مناخ التغيرات المتلاحقة، يمكن للأفراد والجماعات ان تتكيف مع الجديد وتوفق بين واقعها والخيال الإبداعي، وبما آن كل شخص لديه القدرة على الإبداع،إلا أن هذه القدرة قد تضيع اذا لم يتوفر لها من يرعاها، لذا فان شرارة الإبداع الفنى تتسم بالندرة وتحتاج الى من يؤججها بمجرد انطلاقها على أمل أن تتوهج، ويمكن أن يكون الفن إبداعا جماعيا، حيث كانت الفنون جزءا لا ينفصل عن مجرى الحياة، وعنصرا يرتقى بالعمل العادى، لذا فان الإبداع إرث الأغنياء والفقراء، الأغلبية والأقلية، المتعلم والأمى على السواء، ونحن هنا نقصد الإبداع بمفهومه الواسع، ليس مجرد إنتاج أشكال فنية، ولكن للدلالة على قدرة الأفراد والجماعات على المساهمة فى حل المشكلات الحياتية فى كل المجالات، فالى جانب الفن فالإبداع حيوى بالنسبة للصناعة والتجارة والتعليم والتنمية، لذا فمن المهم ألا يؤدى التركيز على الفنون إلى إهمال المشروعات المبتكرة التى يمكن أن تدفع بدم جديد فى النسيج الاجتماعى.
ومن الابتكارات الاجتماعية المهمة فى هذا الصدد ما يتم التركيز عليه فى الآونة الأخيرة من مفهوم التمكين، الذى يؤدى إلى رفع قدرة الناس على ممارسة مزيد من الاختيار من خلال المشاركة المباشرة فى عملية اتخاذ القرار، أو حتى بالوصول إلى من لديهم سلطة اتخاذ القرار والتأثير عليهم، ويشمل التمكين إعطاء الناس القدرة على التعبير عن هويتهم الثقافية، وعن آمالهم وتطلعاتهم، لا يكفى أن نقدم للفقراء مساعدات عينية، بل يجب تمكينهم لكى يغيروا نظرتهم لأنفسهم وكأنهم عاجزين[4].
ولم يكن من قبيل المصادفة أن تنتقل السياسات الثقافية في الدولة المتقدمة من مفاهيم التعدد إلى مفاهيم التنوع، فالتعدد مفهوم كان يحتفظ ببعض رواسب التمييز، وينطوي على التسليم بأنواع من الحواجز بين مكوناته، أما التنوع فيقوم على المساواة الكاملة بين كل العناصر الفاعلة، واحترام الاختلاف بينها، والنظر إلى هذا الاختلاف بوصفه مصدر غنى لا يحول دون التفاعل وتبادل الخبرات، ومن ثم الحفاظ على العلاقة الحوارية بين المحلي والعالمي، الخاص والعام، وذلك في المدى الذي تغتني به العلاقة بين كل الأطراف، من دون تمييز أو تراتب، بل من منظور نفهم غايته من خلال مبدأ صاغه المهاتما غاندي عندما قال: «إنني على استعداد لأن أفتح نوافذ بيتي لتدخله الرياح من كل اتجاه وكل جانب، ولكن من دون أن تقوض هذه الرياح الجذور التي يقوم عليها بيتي والأسس التي ينهض عليها[5].
[1]http://groups.yahoo.com/group/alhakieka/message/2987
[2]http://www.montada-ceoss.org/site/381/Default.aspx
[3] إعلان اليونسكو العالمي بشأن التنوع الثقافي، 2001.
[4] فتحى سيد فرج، الحوار المتمدن، العدد: 1634، 6/8/2006.
[5]http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&task=view&id=12030&Itemid=2743
ساحة النقاش