دور منظمات المجتمع المدني في نشر ثقافة حقوق الإنسان
إعداد
د. صابر أحمد عبدالباقي
كلية الآداب، جامعة المنيا
كثيراً ما يجري قصر مفهوم حقوق الإنسان، خاصة عند نقد غيابها، في الحديث على المستوى السياسي لهذه الدولة أو تلك. ونلحظ ذلك حين نتابع أن أغلب التقارير والدراسات التي تحاول قياس وجود هذه الحقوق تتحدث عن قانون الطوارئ والاعتقال التعسفي وممارسة التعذيب.. إلخ. وهو قياس صحيح بالتأكيد؛ إذ إن للدولة دوراً حاسماً في العصر الحديث في تمكين هذا المفهوم عملياً. ويزداد هذا الدور أهمية كلما ابتعد شكل نظام الحكم عن الشكل الديموقراطي بمعناه اللبرالي البسيط؛ أي توفر قانون مدني سائد مستقل ونزيه، ومؤسسات حكم مبنية على المؤسساتية، وانتخابات وآليات ترشيح وانتخاب نزيهة وشفافة، وتعددية سياسية حقيقية، وآلية تداول سلطة مناسبة للتعددية السياسية... إلخ.
إلا أنه كثيراً ما يغفل الجانب الآخر لهذا الأمر. أي مدى تغلغل هذا المفهوم في الممارسة اليومية للمجتمع بكافة فئاته ومستوياته ومجالاته. وهو أمر يربط عادة ويبرر بغياب الجانب الأول أو نقصه. إلا أن ذاك الغياب ليس، إلا عاملاً واحداً من عوامل غياب ممارسة مفاهيم حقوق الإنسان في المجتمع. أما العوامل الكثيرة الأخرى فهي لا تتعلق مباشرة بالسلطة السياسية، وإن تأثرت بها بهذه الدرجة أو تلك. بل تتعلق بمدى سواد العادات والتقاليد الرافضة أو المناقضة لهذه المفاهيم، ومدى تبني الفئات الطليعية في المجتمع لهذه المفاهيم، وحجم ونوعية مبادراتها لتجسيدها، وعلاقة هذه الفئات بباقي فئات المجتمع، ومدى اعتبار المثقفين لأهمية مفاهيم حقوق الإنسان، ومحاولتهم إدراجها في أعمالهم على اختلاف أنواعها، خاصة تلك المتعلقة بوسائل الإعلام الجماهيري..وعلى سبيل المثال، يمكن للجمعيات المدنية المختلفة الأهداف أن تنمو وتزدهر تحت ظل دولة تقر بحق المواطنين في التجمع والتنظيم، وتقر قانون جمعيات ديمقراطي وعصري، إلا أن هذا النمو والازدهار متعلق أيضاً بمدى قناعة المجتمع المدني بدور هذه الجمعيات، ومبادرته إلى إنشائها وتطويرها. فإذا لم تكن هذه القناعة وتلك المبادرة موجودتين بقوة، يبقى القانون أشبه بحبر على ورق. كما أن دولة لا تقر عمليا بحق المواطن في التجمع والتنظيم، وتقر قانون جمعيات غير ديمقراطي ومتخلف، يمكن لها أن تحد من نمو الجمعيات وازدهارها. إلا أن تغلغل تلك المفاهيم في المجتمع ومبادرته إلى تأليف جمعياته والعمل فيها وعليها، يضع تلك الدولة وذاك القانون في الزاوية الضيقة التي لا يعود هناك مفر من الخروج منها عبر تعديل هذه القوانين.
وما نود قوله أن تعليق كل شيء على ما تسمح به السلطات المحلية في هذا البلد أو ذاك، ورهن الحركة بهامشها الخاص، هو أمر مناقض لطبيعة الحياة ومسيرتها. خاصة أن الدولة - أية دولة - كما القوانين، هي محافظة بهذه الدرجة أو تلك مقارنة بحيوية الحياة. وخاصة في "القرية الصغيرة" الجديدة. وهي حقاً قرية صغيرة. وتعي الحكومات هذه الحقيقة وتتعامل معها بدرجات عالية من الذكاء، بينما ما يزال المجتمع المدني، في بعض الحالات، يشير إلى وعيه معنى "القرية الصغيرة" دون أن يبادر إلى استغلال كامل طاقاتها.
ونحن نعتقد أننا بحاجة ماسة إلى عدم انتظار أن تأتينا الحلول على طبق من ذهب. وعدم رهن كل شيء على المستوى السياسي، المهم بالتأكيد، ولكنه ليس سوى مستوى واحداً من مستويات الحياة. بل قد يكون من الممكن القول أن هذا المستوى يخضع بازدياد، عالمياً، لحركة المستويات الأخرى بعد ثورة الاتصالات التي نزعت الهيبة مرة واحدة عن المستوى السياسي، وكشفت كل خباياه وزواياه ونقاط ضعفه وقوته..وأظهرت أنه عاجز عموماً عن الاستمرار في التناقض مع حاجات المجتمع. ومجبر على التأقلم وإعادة التأقلم مع هذه الحاجات، إن لم نقل تلبيتها وتحقيقها. خاصة حين يعي هذا المجتمع أن في استطاعته أن يشرع في بناء مؤسساته وأدواته بيديه.
إن تعليم حقوق الإنسان حق إنساني غايته الأساسية خلق مواطن مسئول وملتزم وقادر على دمج القيم التي يتعلمها في حياته اليومية. وعلى رغم أن تعليم حقوق الإنسان جزء أساسي من العملية التعليمية تماماً كتعليم القراءة والكتابة، فهو كذلك قضية مجتمعية يجب أن يشارك فيها الأفراد والمنظمات الغير حكومية والحكومات.
لا يمكن نشر ثقافة حقوق الإنسان إلا بتوافر الإرادة السياسية وتعاون المؤسسات الحكومية ومنظمات حقوق الإنسان الوطنية والدولية. وهذا يتطلب إبداء حسن النية من الجميع. إلا إن ذلك لا يعني الصمت عن انتهاكات حقوق الإنسان أو تبعية منظمات حقوق الإنسان وخصوصاً الوطنية منها للحكومة. فالعمل الذي تقوم به منظمات حقوق الإنسان كالدعوة للتغيير الاجتماعي وانتقاد السياسات الحكومية المتعارضة مع حقوق الإنسان يعتبر من ضرورات نشر ثقافة حقوق الإنسان. أرجو أن يقرأ المسؤولين على أعلى المستويات هذه النقطة ويتفهموا أن نشر بيان ينتقد إجراءً حكومياً معيناً أو إصدار تقرير كالتقارير السنوية لحقوق الإنسان التي تصدرها الجمعيات العاملة في مجال حقوق الإنسان لا يبرر القطيعة وعدم التجاوب التي تشوب علاقة هذه الجمعيات ببعض المؤسسات الحكومية.
ومن الضروري التنسيق المستمر بين منظمات المجتمع المدني؛ فقضايا حقوق الإنسان متشعبة ومترابطة، وهي لا تخص منظمات حقوق الإنسان وحدها. وتتواجد على الساحة منظمات متخصصة مثل : جمعيات حماية البيئة، وتلك العاملة على محاربة مرض نقص المناعة المكتسبة (الإيدز)، وجمعيات محاربة العنف ضد المرأة، وجمعيات حماية حقوق الطفل والمرأة وغيرها. وقد يكون العاملون في تلك المنظمات أكثر قدرة من جمعيات حقوق الإنسان على التواصل مع الناس في القرى والأحياء الشعبية. لذا يقع على عاتق نشطاء حقوق الإنسان المساهمة في تدريب أعضاء تلك الجمعيات ومساعدتهم على فهم المواثيق الدولية لحقوق الإنسان وآليات عملها ومدهم بالوثائق الضرورية التي يحتاجونها في عملهم.
وعلى هذا يؤكد الباحث على ضرورة نشر ثقافة حقوق الإنسان منذ المراحل التعليمية الأولى؛ حتى ينشأ الطلاب على احترام حقوق الإنسان، مع ملاحظة أن حقوق الإنسان ليست مادة دراسية كأي مادة أخرى، بل هي إطار حياة، ومبادئ تحدد علاقة الإنسان بالآخر وبالمؤسسات وبالدولة في نفس الوقت. ويمكن أن تقوم منظمات المجتمع المدني بعمل دورات تدريبية للمعلمين والمديرين في كيفية تدريس حقوق الإنسان، وتضمينها في المناهج الدراسية، كما أن إصلاح المنظومة التعلمية بعناصرها التي تضم التلاميذ والمعلم والمناهج والإدارة والبيئة المحيطة هو الخطوة الأولى لتدريس ثقافة حقوق الإنسان، على أن يقوم المجتمع المدني بممارسة دوره في عمل حوار حول القضايا المتعلقة بإصلاح أوضاع التعليم.
وعلى منظمات المجتمع المدني تدعيم دور الأسرة في نشر وتعميق فهم مبادئ حقوق الإنسان وجعلها سلوكاً يومياً للفرد. كما يمكن أن تلعب دوراً كبيراً في فهم الوالدين لتلك الحقوق عموماً وحقوق الطفل خصوصاً. وفي هذا الإطار نتذكر عبارة إليانور روزفلت إحدى مهندسي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. تقول السيدة روزفلت ‘"إذا لم يكن لحقوق الإنسان أي معنى في الأماكن الصغيرة القريبة من المنزل فهي لن تعني شيئاً في أي مكان آخر".
ولمنظمات المجتمع المدني دور كبير في نشر ثقافة حقوق الإنسان في المناطق الريفية وبين الفئات الخاصة كالمعوقين والمهاجرين والفقراء. إن هذه الفئات التي يمكن تسميتها بالهشة هي أكثر الفئات تعرضاً لانتهاك حقوقها الإنسانية. لذا فهي في أمَس الحاجة لمعرفة تلك الحقوق والتكتل للمحافظة عليها. ويتوجب في هذا الخصوص ربط احتياجات تلك الفئات بالبرامج التعليمية مع ضرورة استغلال الموروث الشعبي والموسيقى ومسارح الشارع في برامج التوعية الموجهة لها.
ويمكن أن تلعب منظمات المجتمع المدني دوراً كبيراً في تدريب أصحاب المهن التخصصية كالمحامين والأطباء والممرضين والقضاة والأخصائيين الاجتماعيين والصحافيين ورجال الشرطة والجيش على مبادئ حقوق الإنسان. فهذه الفئات تحتاج وبشكل عاجل جداً إلى أن تتعلم حقوق الإنسان سواء أثناء الدراسة الأكاديمية أو بعد التخرج.
للمزيد انظر :
http://anhri.net/syria/nesasy/2005/pr0814.shtml
ساحة النقاش