المشكلة السكانية والتنمية
إعداد
د/ صابر أحمد عبد الباقي
كلية الآداب-جامعة المنيا
يميل بعض علماء السكان إلى الفصل بين أبعاد المشكلة السكانية الثلاثة : حجم السكان، وتوزيعهم، وخصائصهم؛ فيركزون على تزايد الحجم، أو ما يسمونه بالانفجار السكاني، ويعتبرونه من أهم عوائق التنمية، مغفلين البعدين الآخرين : التوزيع، والخصائص، وخاصة من حيث تأثيرهما على حجم السكان، وتأثر الأبعاد الثلاثة بالظروف الاقتصادية – الاجتماعية التي يحيا في ظلها هؤلاء السكان. وهكذا نجد البعض يحذر - بشدة - من خطورة زيادة السكان، الذي يطلق عليه الغربيون"الانفجار السكاني"، بدعوى أن تزايد أعداد المصريين يعوق التنمية ويستنزف الموارد ويغرق مصر في الديون ويجعلها أكثر فقرا. ولكن في مقابل هذا الرأي، يوجد رأي آخر يقرر أصحابه أن مشكلة مصر الحقيقية ليست في التزايد السكاني أساسا، ولكنها في سؤ توزيع السكان والافتقار إلى التخطيط العلمي السليم، وأن التزايد السكاني ليس سببا للتخلف والفقر ولكن نتيجة لهما.
وتنبع المشكلة السكانية في مصر أساساً من عدم التوازن بين عدد السكان الذي بلغ حتى مايو 2008 حوالى ٧٨.٧ مليون نسمة، وفقاً لآخر تعداد سكاني، وبين الموارد والخدمات، وهو ما يفسّر عدم إحساس المصريين بثمار التنمية، رغم تضاعف الموازنة العامّة للدولة، ونموّ الاقتصاد المصري بمعدّل سبعة في المئة. وقد وصل عدد السكان إلى نحو 7ر76 مليون نسمة في تعداد عام 2006 مقابل نحو 5ر61 مليون نسمة في تعداد عام 1996 بارتفاع بلغت نسبته 7ر24 في المئة في عشرة أعوام. وتوقع مسح ديموغرافي أخير أن يصل عدد سكان مصر إلى نحو 6ر94 مليون نسمة بحلول عام 2017 ونحو 6ر118 مليون نسمة بحلول عام 2030 في حال ثبوت معدل الانجاب الكلي الحالي. ولفت إلى أنه إذا انخفض معدل الانجاب الكلي إلى مستوى 1ر2 طفل لكل سيدة بحلول عام 2017 فقد يصل عدد السكان إلى نحو 8ر89 مليون نسمة وإلى 6ر103 مليون نسمة بحلول عام 2030.
كما لا تقتصر المشكلة السكانية في مصر على زيادة عدد السكان فقط، بل أيضاً على التوزيع العمري لهؤلاء السكان، حيث إن نسبة كبيرة من سكان مصر تحت سنّ الـ١٥ عاماً، بالإضافة إلى النموّ الحضري العشوائي الذي أدّى إلى تفاقم المشكلة، بسبب سوء توزيع السكان على رقعة الدولة، حيث يمثّل سكان الحضر حوالى ٥٦.٩١٪ من إجمالي سكان مصر، وهو ما يعني انخفاض العاملين في الزراعة، وقلّة المنتجات الزراعية وارتفاع أسعارها، وهو ما يؤدّي إلى الفجوة الغذائية . أضف إلى ذلك تدنى الخصائص البشرية (الصحية – التعليميه – الاجتماعيه - الاقتصادية)، خصوصا الخصائص التالية :
• ارتفاع معدلات الأمية خاصة بين النساء، والزواج المبكر للإناث في مصر، وبالتالي الإنجاب المبكر. فلابد من رفع سن زواج الفتاة فى مصر إلى سن العشرين لكى تحصل الفتاة على حقها الطبيعى فى التعليم وتستطيع أن تساهم فى إختيار شريك عمرها وحتى يصبح الإنجاب فى سن مناسبة. أما عن مشاركة المرأة فى الحياة الإقتصادية والسياسية نجد أن نسبة مساهمة المرأة فى عضوية مجلس الشعب لا تتعدى 2% وفى مجلس الشورى 4% فقط وهما نسبتان ضئيلتان إلى حد بعيد، بينما أرتفع نصيب المرأة فى تولى المناصب القيادية من 7% عام 1988 إلى 15% عام 1998، وبلغت نسبة مشاركة المرأة فى الحياة الإقتصادية 18% عام 1984 زادت إلى حوالى 22% عام 1997.
• عمالة الأطفال : أشارت نتائج تعداد عام 1986 إلى أن هناك 1.4 مليون طفل عامل فى سن أقل من 15 سنة وهم يمثلون 11.6% من إجمالى قوة العمل، وقد أكدت نتائج بحث القوى العاملة بالعينة عام 1998 نفس الحجم تقريبا لعمالة الأطفال حيث بلغ 1.38 مليون طفل عامل فى سن أقل من 15 سنة وهم يمثلون 7.4 % من إجمالى قوة العمل. ترجع أسباب ظاهرة عمالة الأطفال إلى سببين هما: فقر الأسر التى يعمل أطفالها، واعتبار التعليم غير مجد لهذه الأسر حيث أن تعلم الطفل حرفة أفضل إقتصاديا للأسرة.
• ارتفاع معدلات وفيات الأطفال الرضع : بلغ معدل وفيات الأطفال الرضع حوالى 116 فى الألف عام 1970، إلا أن هناك تقدما ملحوظا حيث إنخفاض إلى 29 فى الألف عام 1998، إلا أن هذا المعدل لا يزال مرتفعا مقارنة بالدول المتقدمة.
• متوسط نصيب الفرد من الدخل القومي : يعتبر ارتفاع متوسط نصيب الفرد من الدخل القومي ذو صلة وثيقة بنجاح تنظيم الأسرة، حيث أظهرت البحوث الميدانية الخاصة بدراسة الخصوبة وتنظيم الأسرة أن الأسر الغنية هى الأسر الأكثر إقبالا على تنظيم الأسرة والأقل إنجابا للأطفال حيث أنها تريد الحفاظ على نفس المستوى الإقتصادى والإجتماعى، فى حين أن الأسر الفقيرة تعتمد على أطفالها فى زيادة دخلها نتيجة دفعهم إلى سوق العمل فى سن مبكرة.
الآثار المترتبة على الزيادة السكانية :
1. ارتفاع معدلات البطالة وخاصة بين الخريجين الجدد.
2. ارتفاع عدد فرص العمل المطلوب توفيرها سنويا.
3. عدم القدرة على الإستيعاب الكامل في المدارس وتكدس الفصول وتعدد الفترات.
4. زيادة الواردات من السلع الإستهلاكية وبصفة خاصة القمح.
5. إرتفاع أعباء الحكومة نتيجة لزيادة حجم الدعم.
6- الهجرة الداخلية وتضخم المدن.
7. زيادة الاحتياجات من الوحدات السكنية.
8. الضغط الشديد على المرافق وخاصة مياه الشرب والصرف الصحى والطرق والمواصلات العامة.
مواجهة المشكلة السكانية :
أكدت دراسة حديثة حول المشكلة السكانية،أن مصر اختارت الطريق الأخلاقي الذي يراعي عادات وتقاليد المجتمع في مواجهة مشكلة الزيادة السكانية، وذلك عن طريق إقناع السيدات في مرحلة الإنجاب بأهمية المباعدة بين فترات الحمل باستخدام وسائل تنظيم الأسرة. وتابع الباحث: أن الطريق الأخلاقي هو الطريق الوحيد لمواجهة هذه المشكلة، مشيراً إلى أن مصر حققت نجاحاً بلغ إلى حدود إقناع ٦٠% من السيدات في مرحلة الإنجاب بالانضمام إلى برامج تنظيم الأسرة وتبني مفهوم الأسرة الصغيرة، إلا أنه منذ عام ١٩٩٧ وحتى اليوم لم يتحرك هذا الرقم كثيراً ودخل في حالة من التسطيح والثبات. وقال: أن وصول عدد المواليد الجدد إلى حدود ١.٨٥٠.٠٠٠ طفل جديد سنوياً يتزايدون كل عام، يمثل خطورة شديدة علي المجتمع في المستقبل القريب حيث أنه من المتوقع أن تصل هذه الزيادة بقوة الدفع الذاتي إلى حدود ٣.٢ مليون طفل جديد في عام ٢٠١٧ ليصل تعداد السكان وقتها إلى ١٠٢ مليون نسمة وليس كما هو متوقع حالياً، فأسوأ التقديرات تصل بهذا العدد إلى ٩٦ مليون نسمة وهذا ليس صحيحاً وهو ما يدعو إلى ضرورة المبادرة لمواجهة هذا الخطر فوراً ودون أي تأخير.
وكشفت الدراسة عن العديد من نقاط الخلل في البرامج السكانية وأهمها عدم استيعاب المجتمع المصري خطورة المشكلة السكانية وأبعادها والانعكاس المباشر لهذه المشكلة علي مستواه المعيشي، مع وجود قصور شديد في توصيل الرسالة الإعلامية المناسبة، وكذلك نمطية وتضارب الخطاب الديني اللازم لمواكبة عملية توصيل الرسالة الإعلامية، المرحلة المقبلة؛ إذ يتم التعامل مع المشكلة السكانية في مصر علي اعتبار أنها مشكلة طبية، ولذا شاب القصور جميع البرامج التي قامت بها وزارة الصحة والسكان للتعامل مع المجتمع، حيث كان مفهوم مشاركة المجتمع يتم تنفيذه علي استحياء في بعض القري وبعض المحافظات. ومن ثم فإن التعامل مع المشكلات القومية باعتبارها مشاريع صغيرة متفرقة في بعض القري أسلوب محكوم عليه بالفشل،إلى جانب الإفلاس الفكري حيث يتم حالياً اقتباس عشوائي للمشاريع السكانية من تجارب مجتمعات أخري دون اعتبار لخصوصية وتفرد المجتمع المصري، ويتم تنفيذها بمجهودات وأموال تذهب في النهاية أدراج الرياح بل بانعكاس سلبي حاد علي المفهوم العام لتنظيم الأسرة لدي المجتمع. والحق أنه لا يوجد برنامج واحد علي مستوي دول العالم يصلح للتطبيق في مصر حتي تلك البرامج التي يتشدقون بنجاحها في الدول الإسلامية كإيران وتونس، فلكل مجتمع خصوصيته، والمجتمع المصري متفرد عن هذه الشعوب وله خصوصياته وموروثاته الثقافية والاجتماعية التي يجب علينا مراعاتها بدقة وعناية عند وضع أي خطط أو برامج لمواجهة المشكلة السكانية في مصر .
وترتكز الخطّة القومية للسيطرة على الزيادة السكانية على أربعة محاور، يتمثّل الأول في نشر الوعي المجتمعي لتبني الأسرة الصغيرة عائلة مكوّنة من طفلين فقط، بينما يتمثّل المحور الثاني في تحسين وضع المرأة من خلال التعليم والعمل والاهتمام بصحّتها، حتى تكون صاحبة قرار في تحديد عدد أطفال أسرتها. وينص المحور الثالث على الارتقاء بمستوى الخدمات الصحّيّة والانجابية وتنظيم الأسرة، في حين ينص المحور الرابع على الاهتمام بمتابعة وتقييم هذه الخطّة بصورة ترفع كفاية نظم المعلومات السكانية. أما كيفية الوصول إلى الاستقرار السكانى (طفلان لكل أسرة عام 2017) فيستلزم اتباع السياسات التالية :
1- اعتبار الإنفاق فى المجال السكانى جزءاً أساسياً من استثمارات الدولة التى يجب على المجتمع توفيرها ، على أساس أن التنمية البشرية الشاملة سوف تؤدى إلى تعظيم الانتفاع بمجمل موارد المجتمع . وزيادة الإنفاق العام على التعليم والصحة والثقافة، باعتبارها الأركان الثلاثة الأساسية اللازمة للتنمية البشرية الشاملة إضافة إلى النهوض بدور المرأة فى المجتمع.
2- مراجعة القوانين والتشريعات التى قد تتعارض مع أهداف وفلسفة السياسات السكانية. وضرورة تفعيل وتشديد القوانين والتشريعات التى تحد بل تمنع البناء على الأراضى الزراعية أو تحميلها لأى نشاط آخر.
3. التأكيد على أهمية التربية السكانية بالمدارس والجامعات والعمل على تطوير الخطط والبرامج الدراسية بحيث تصبح مادة إجبارية ضمن المناهج الدراسية.
4- التأكيد على استمرار إعداد وتدريب الطبيب والفريق الصحى فى مجال تنظيم الأسرة والارتباط المستمر بينه وبـين المجتمع.
5- العمل على تضييق الفجوة بين المعرفة بتنظيم الأسرة والممارسة الفعلية للتنظيم من خلال تحفيز المستهدفات على استخدام وسائل تنظيم الأسرة وإقناعهن بضرورة المباعدة بين كل حمل وآخر، وتأكيد أهمية الرضاعة الطبيعية لمدة سنتين، مع بيان أخطار الحمل المتكرر الذى يؤدى إلى ارتفاع نسبة وفيات الأمهات فى مصر. وتحفيز المواطنين على تطعيم أطفالهم ضد الأمراض الستة القاتلة وهى : شلل الأطفال، والتيتانوس، والدفتريا، والسعال الديكى، والدرن، والحصبة، وتوعيتهم بطرق الوقاية من أمراض الإسهال والجفاف.
6- التأكيد على أهمية توفير المعلومات على المستوى القومى، ومستوى الوحدات الإدارية الصغرى، وإجراء البحوث والدراسات ذات الصلة.
7- تشجيع الشباب على غزو الصحراء وتعميرها وزراعتها، مع إعطاء الأولوية لتعمير المشروعات الكبرى ، وتشجيع الإقامة والعمل فى المدن الجديدة .
8- التأكيد على أهمية دور الإعلام المرئي والمسموع والمقروء فى دفع وتحفيز جهود تنظيم الأسرة، مع تنويع الرسائل الإعلامية باختلاف المجتمع المستهدف، وخاصة غير المباشر منها، وتوفير التدريب اللازم لذلك. وزيادة الوقت المخصص لبرامج تنظيم الأسرة والبرامج السكانية، خاصة فى الشبكات المحلية بعد أن ثبت أن الإذاعة تلعب دوراً مهماً فى التعريف بتنظيم الأسرة فى الريف. وضرورة التنسيق بين مواعيد بث الموضوعات السكانية فى الشبكات الإذاعية المختلفة بحيث لا تذاع فى وقت واحد أو فى أوقات متقاربة . والاهتمام بتقديم البرامج السكانية فى الإذاعة والتليفزيون فى الأوقات التى ترتفع فيها كثافة الاستماع والمشاهدة .
9- التأكيد على قومية المشكلة السكانية، وعلى ضرورة إعتبارها من المشكلات العامة والحاكمة التى لا يمكن قصر مسئولياتها على قطاع أو وزارة بعينها، بل تقع المسئولية على كافة الوزارات والأجهزة والهيئات الحكومية وغير الحكومية والمؤسسات المعنية بالقطاع الخاص. وتعميق التعاون والتنسيق بين وزارة الصحة والسكان والوزارات الأخرى المعنية فى إعداد الخطط والسياسات السكانية والتنموية، والاضطلاع بدور حاسم فى التنفيذ والمتابعة؛ بغرض تعظيم وترشيد الجهود المجتمعية (حكومية وغير حكومية) فى كل ما يتعلق بالمسألة السكانية، وبحيث تكون علاقة المنظمات غير الحكومية بوزارة الصحة والسكان وأجهزتها نموذجاً يحتذى للتعـاون المثمر بين المنظمات الحكومية وغير الحكوميـة .
10- ضرورة تبنى المجتمع لبرنامج طموح لتنظيم الأسرة فى إطار برامج التنمية الشاملة، متضمنا برامج متكاملة تحقق نتائج أكثر إيجابية سواء بالنسبة لمستويات التنمية أو السيطرة على النمو السكانى، على أن يستهدف هذا البرنامج النزول بعدد الأطفال إلى طفلين فقط فى المتوسط لكل أسرة حتى عام 2017، وهو ما يتطلب أيضاً الوصول بنسب ممارسة تنظيم الأسرة إلى 75% من النساء المتزوجات فى سن الإخصاب. ولكى يحقق برنامج تنظيم الأسرة ثماره المرجوة، فلابد أن تتضافر الجهود الحكومية وغير الحكومية(جهود الأفراد والجماعات)، وأن يلتزم به - كما ذكرنا من قبل - المخططون والمنفذون ويقتنع به الممارسون . ومما هو جدير بالذكر أنه وطبقاً للدراسات فإن جملة الإنفاق فى مجال تنظيم الأسرة خلال الثمانية عشر عاماً القادمة وهو 2.6 مليار جنيه سوف توفر حوالى 78 مليار جنيه كانت ستنفق فى مجالات التعليم والصحة والإسكان ومياه الشرب والصرف الصحى ودعم السلع الغذائية للمواليد الجدد حتى عام 2017.
11- كسر حدة الزيـادة السـكانية (الزيادة الطـبيعية) وذلك بتفعيل أكثر لإقبال الشعب على استعمال وسائل تنظـيم الأسرة، وزيادة اسـتعمال الوسـائل ذات المفعول طويل المدى، والقضاء بشكل مستمر على الشائعات التى تؤثر على انتشار هذه الوسائل.
خاتمة :
الحق أن حجم السكان وخصائصهم يعتمد على طبيعة الظروف الاجتماعبة التي يعيشون فيها، وأنه بتغير هذه الظروف تتغير الخصائص السكانية؛ فالثابت تاريخيا أن عدد المصريين ارتبط ارتباطا إيجابيا بازدهار حضارتها، بمعنى تلازم زيادة حجم السكان وازدهار الحضارة، وعلى العكس من ذلك كان هناك تلازم بين فترات التدهور أو الركود الحضاري وانكماش حجم السكان في مصر، شأنهم في ذلك شأن بقية شعوب العالم حتي انقلبت هذه العلاقة رأسا على عقب في مجتمعات العالم، وظهرت بشكل عكسي واضح في النصف الثاني من القرن العشرين؛ إذ أصبح الازدهار والتقدم يرتبطان بانخفاض معدل الزيادة السكانية، بينما يرتبط التخلف بارتفاع هذا المعدل. والتفسير البسيط لهذه العلاقة الموجبة بين الازدهار الحضاري وحجم السكان قديما هو أن فترات الازدهار تعني وفرة في الإنتاج وقدرة على تزويد أعضاء المجتمع باحتياجاتهم الأساسية من غذاء وكساء ومأوى وظروف صحية أفضل، فينخفض معدل الوفيات، ويزداد معدل المواليد. أما في فترات الانحطاط والركود فيحدث العكس، حيث يرتفع معدل الوفيات، بفعل المجاعات والأمراض والأوبئة، وينخفض معدل المواليد، بفعل الظروف المعيشية المتدهورة.
ولكن ما حدث خلال القرن الماضي قلب هذه العلاقة رأسا على عقب؛ حيث أصبح التقدم يرتبط بانخفاض معدل الزيادة السكانية بينما يرتبط التخلف بارتفاع هذا المعدل. أما كيف حدث ذلك فيمكن إيراده على النحو التالي :
1 - أدت الثورة الصناعية في البلدان الغربية إلى تقدم هائل في الفنون الإنتاجية وفي العلوم وإلى ارتفاع في مستوى المعيشة نجم عنه في البداية انخفاض في معدل الوفيات وارتفاع في معدل المواليد، وبالتالي ثورة سكانية أو انفجارا سكانيا. وكانت الزيادة، في ذلك الوقت، مرغوبة ومفيدة لحاجة الإنتاج الصناعي للأيدي العاملة.
2 - ابتداءً من أوائل عشرينات وثلاثينات القرن العشرين استمر معدل الوفيات في الانخفاض، ولكن صاحب ذلك انخفاض في معدل المواليد؛ مما قلل من معدل الزيادة السكانية في البلدان الصناعية الغربية. ويرجع انخفاض معدل المواليد إلى أن النمو الصناعي قد أدى إلى :
أ – اختفاء نمط الأسرة التقليدي الذي كان سائدا في الاقتصاد الزراعي، وظهور نمط الأسرة الحديثة قليلة العدد؛ وذلك لما نجم عن النمو الصناعي من آثار تتمثل في :
- تعلم المرأة وخروجها للعمل.
- حدوث انفصال بين عمل المرأة الاقتصادي وعملها المنزلي.
- انفصال عملية تعليم وتدريب الأطفال والشباب عن العمل المنتج.
- ارتفاع مستوى دخل الفرد.
- اكتساب عادات وقيم وأنماط سلوك جديدة.
- أصبح الأطفال والشباب يمثلون كلفة اقتصادية على الأسرة؛ نظرا لطول فترة تدريبهم قبل دخول مجال العمل، مما جعلها تميل إلى تخفيض عدد الأطفال.
ب – أن التطور السريع في الفنون الإنتاجية لم يعد في حاجة إلى كثرة الأيدي العاملة بفعل عمليات الميكنة الذاتية. وهكذا ارتبط انخفاض معدل الزيادة السكانية بالتقدم الاقتصادي-الاجتماعي في البلدان الصناعية الغربية.
3 - أما في البلدان النامية، والتي لم تكن- بصفة عامة - أقل تقدما بكثير من البلدان الأوربية عشية الثورة الصناعية، حيث كان الفرق بينها وبين أوروبا فرقا كميا أكثر منه كيفيا، فإنها بعد أن تعرضت للاستعمار ونهب ثرواتها واستنزافها وتوقف نمو سكانها الاقتصادي، ظلت بلدانا زراعية في الأغلب ولم تشهد تصنيعا يذكر، بل إن من بينها ما تعرض لتوقف صناعته المتقدمة، مثل مصر أيام محمد علي، والهند. وقد شهدت هذه البلدان تزايدا ملحوظا في معدل نمو سكانها، في البداية، نظرا للانخفاض النسبي الذي طرأ على معدلات الوفيات، بفعل الحد من عوامل الأمراض والأوبئة من قبل المستعمرين لتوفير ظروف مناسبة لمعيشتهم، وبفعل توفير فرص عمل في المشروعات اللازمة للمستعمرين، مثل : الطرق والسكك الحديدية والموانئ...الخ. ولكن بعد الحرب العالمية الثانية طرأ انخفاض كبير على معدل الوفيات؛ نظرا لإدخال الأساليب الجديدة للوقاية من الأوبئة والأمراض مثل ال D.T.T. والتطعيم، ولكن ظل معدل المواليد على ما هو عليه؛ لأنه لم تحدث تغيرات هيكلية في الاقتصاد مثل تلك التي حدثت في البلدان الصناعية، واستمر بها نمط الأسرة التقليدية كبيرة العدد الملائمة لها.
ولم يكن الانخفاض الذي طرأ على معدل الوفيات في الدول النامية راجعا إلى عوامل داخلية، كما هو الحال في دول غرب أوروبا، بل كان – في أغلب الأحوال – نتيجة لعوامل خارجية. فمنذ الحرب العالمية الثانية، لم تتغير ظروف الإنتاج، ولا أوضاع الحياة الاقتصادية والاجتماعية، على نحو يبرر داخليا الانخفاض الهائل والسريع الذي طرأ على معدل الوفيات، كما لم توجد بعد الظروف أو البيئة الاقتصادية والاجتماعية التي تعمل على تخفيض معدل المواليد؛ فما زالت غالبية هذه الدول دولا زراعية، وما زال الجزء الأكبر من سكانها يعملون بالزراعة، ويعيشون بالريف، ولا تزال جزءاً لا يتجزء من السوق الرأسمالي العالمي، وفي حالة تبعية شبه كاملة لهذه السوق، وما زال متوسط دخل الفرد وإنتاجيته منخفضين، وما زال مستوى المعيشة للسواد الأعظم من السكان منخفضا، بل ويعيشون على حد الكفاف، ويقع جزء مهم منهم تحت خط الفقر المطلق .
وهذه الأوضاع هي عكس الأوضاع التي سادت دول غرب أوروبا من حيث حدوث تحسن واضح في مستوى دخل الفرد، وفي الرفاهية العامة، وفي سرعة التحول إلى الصناعة والإنتاج الكبير وتطوير فنون الإنتاج والبحث العلمي والطبي. وهي أمور لا يخفى ما لها من تأثير كبير في خفض معدل الوفيات، بل إن هذه الأمور هي التي عملت من جهة أخرى على خفض المواليد. وعلى هذا فإن معدل المواليد المرتفع في البلدان النامية لن ينخفض إلا بحدوث تغييرات جوهرية في هذه البلدان يترتب عليها الاتجاه إلى التصنيع؛ مما يؤدي إلى ارتفاع مستوى المعيشة، وارتفاع مستوى التعليم، واشتغال المرأة .
ومما يدلل على صحة هذه الاستنتاجات توزيع سكان مصر على الريف والحضر؛ فغالبية سكان مصر تعيش في الريف، حيث يسود نمط الإنتاج الزراعي، على الرغم من انخفاض هذه النسبة من 82% عام 1907 إلى 56% عام 1986. ولكن زيادة نسبة سكان المدن التي تكشفها الأرقام السابقة لا تعني التحول إلى نمط النشاط الإنتاجي الصناعي، كما هو الحال بالنسبة للبلدان الصناعية التي نمت فيها المدن – أساسا – بفعل التصنيع، ولكنها تعني مجرد بعض الزيادة في النشاط الصناعي في المدن، علاوة على ميل سكان الريف للهجرة إلى المدن للبحث عن فرص أفضل للعمل وللحياة، وازدياد النشاط في مجال الخدمات والأعمال الهامشية، فضلا عن القرارات الإدارية بتغيير تسمية بعض المناطق من قرى إلى مدن. ومما يؤكد صدق ارتباط ارتفاع معدل المواليد بنمط النشاط الإنتاجي(صناعي أم زراعي)، المقارنة بين المعدل في ريف مصر وبينه في حضرها، فمعدل المواليد في الريف المصري أعلى منه في الحضر؛ حيث ينخفض إلى 31.5 في الألف في أكثر مناطق مصر تحضرا وابتعادا عن النشاط الزراعي (القاهرة والاسكندرية)، ويرتفع إلى 45.5 في الألف في أكثر مناطق مصر تريفا (ريف الوجه القبلي).
ومع أن مصر قد شهدت بعضا من النمو الصناعي، إلا أنه ظل محدودا بفعل التقسيم الدولي للعمل واحتكار الدول الرأسمالية الصناعية للسوق العالمي والتجارة الدولية، وتغلغلها داخل السوق المصري – ذاته – بمنتجاتها التي لا تستطيع المنتجات المصرية منافستها؛ نظرا لعدم التطور التكنولوجي في مصر. وما زال القطاع الصناعي لا يسهم بأكثر من خمس الناتج القومي الكلي. كما أن نسبة القوى العاملة في الصناعة لا تتعدى 12.7% في مقابل 46.6% في الزراعة. أي أن دور الصناعة في بناء الاقتصاد القومي المصري ما زال دورا ضئيلا، كما أن الصناعة المصرية تتسم بالاعتمادية على الخارج؛ حيث تستورد معظم الموارد اللازمة لها. أضف إلى ذلك أن توزيع الصناعة في مصر يتسم بالتركيز الشديد في مناطق محدودة جدا من القطر المصري، حيث تتركز الصناعات في مدينة القاهرة الكبرى، والاسكندرية، ثم الغربية والبحيرة حيث صناعة النسيج. ومعنى هذا أنه، فيما عدا هذه المناطق يسود نمط النشاط الإنتاجي الزراعي، وما يصاحبه من أسلوب حياة وظروف اقتصادية واجتماعية يثبت ارتباطها بارتفاع معدل المواليد في مصر.
وقد قامت "ساره لوزا" بإجراء دراسة ميدانية عن العلاقة بين التصنيع والخصائص السكانية والسلوك الإنجابي؛ حيث قارنت بين السكان في بعض المناطق الصناعية والسكان في المناطق الريفية، وخرجت منها بنتائج تؤكد العلاقة بين التصنيع وانخفاض معدل المواليد ومعدل الزيادة السكانية، نجملها فيما يلي :
1. يؤدي التصنيع إلى تحول البيئة التي يعيش فيها الناس إلى بيئة حضرية تتسم بارتفاع المستوى الاجتماعي والثقافي والتعليمي والصحي للسكان، وازدياد كافة مرافق الخدمات الخاصة بها، كما تتسم بتحسن وسائل النقل والمواصلات والاتصالات، وتتوفر فيها الكهرباء والمياه، وتزداد فرص العمل والنمو الاقتصادي.
2. تؤثر البيئة التي يعيش فيها الناس على أنماطهم السلوكية، بوجه عام، أكثر من تأثير نوعية العمل الذي يقومون به؛ فالعمال الذين يعيشون في بيئة ريفية، وينتقلون للعمل في المصانع، لا يتأثرون، في أنماطهم السلوكية، مثل الذين يقيمون في البيئة الحضرية الصناعية.
3. وضحت النتائج ارتباط البيئة الحضرية الصناعية بتأجيل سن زواج الإناث، واستخدامهن لوسائل منع الحمل، وقصر فترة إدرار لبن الثدي، وهي عوامل ثلاثة تؤثر على خصوبة المرأة.
4. أكدت النتائج ارتباط البيئة الحضرية الصناعية بأسلوب حياة الأسرة، من حيث ارتفاع مستوى الاستهلاك والدخل السنوي للفرد، ودرجة تحضر الزوجة ودرجة تعليمها، وارتفاع مستوى الاهتمام بتعليم الأطفال ورفاهيتهم، وانعكس ذلك كله على السلوك الإنجابي، فانخفض عدد الأطفال الذين تنجبهم الأسرة .
ويترتب عل ذلك أن التقدم أو التطور الاقتصادي الاجتماعي لمصر، وفقا لاستراتيجية قومية للتنمية الشاملة، يرتبط ارتباطا عضويا بموضوع تزايد السكان فيها؛ فهذه الاستراتيجية لابد أن تستغل كافة القوى البشرية المصرية في مشروعات إنتاجية ضخمة، وتعيد توزيع السكان على مساحة مصر الشاسعة من جهة، كما أن كل تقدم اقتصادي اجتماعي سوف ينعكس على معدل تزايد السكان من جهة أخرى؛ نظرا لتوفر الظروف الموضوعية لتقليل معدل المواليد ومعدل الخصوبة، والتحول للإنتاج الصناعي، وعمل المرأة، والتعليم، والثقافة، وارتفاع مستوى المعيشة...الخ.
ساحة النقاش